التصوير الساخر في شعر ابن الرومي 4

- أدوات السخر الفني :
اذا كان لكل فنان وسائله الخاصة ، وأصباغه وألوانه ، فلابن الرومي أيضا وسائل وأدوات قد تختلف عن تلكم الأصباغ والألوان ، وقد تعتمد على الشكل والحركة ، ولكن الصورة التي تقدمها لنا أكبر من أن تمثلها تلك الوسائل جميعها ، لأنه ما من بيت نقرأه لابن الرومي الا ونجد نفسيته قد لونته قبل أن تعبث به ريشة قلمه ، وعليه ، فما هي هذه الأدوات أو هذه الخلفيات النفسية التي يتكئ عليها شاعرنا ؟.
ان نظرة متأنية لفن ابن الرومي تكشف لنا تلك الظاهرة التصويرية الفريدة التي ينفرد بها تعبيره الشعري ، والتي تمده بنكهة جديدة يتميز بها عن سائر شعراء اآخرين .
- ملكة التصوير :
ان المتفحص للصور الشعرية التي يقدمها لنا الشاعر يجدها تنطلق من الواقع ، لكن المغالاة في ابراز هذا الأخير هي التي تعطي لفنه تلك الميزة الكاركاتورية ، فحين ينعدم التناسب بين الواقع وما يهدف اليه الفنان ، بل حين تختل النسبة بين المشبه والمشبه به ، يصبح البون شاسعا بين من يصف النهر مثلا بقوله :
ينساب مثل الحية المذعور ** بين شماطي سجر مسطور
وبين وصف الشاعر لأنف المؤذن الذي يبدو الفيل أمامه أفطسا :
.... ان كان أنفك هكذا ** فالفيل عندك أفطس
وعليه ، فان اخلاص الشاعر في فن الهجاء يجعل ملكة التصوير عنده أصيلة وليست حيلة لفظية تعتمد على التشكيل والحركة ، وتصوير هذه الأخيرة كما يقول العقاد في المصدر السابق ، بل ومسخ الكل بريشة طفل كبير ، هذا الطفل الذي أراد أن يشوه فأبدع ، وأن يبدع فأجاد ،فلم تعد صوره مجرد رسوم متحركة كما يقول جورج غريب في المصدر السابق ، وانما تجربته الفنية سرعان ما عكست الآية وأصبحت الحركة ذاتها مرسومة .
- مراعاة الكاريكاتور :
يقول جورج غريب " مهما قيل في هذه الرسوم المتحركة وتعدد فنونها، فدعامتها الأولى هي الصورة الشعرية التي لا تستقيم لكل الشعراء"حقيقة أن عدم استقامة الصورة الفنية كيفما كان نوعها تؤدي بالفنان الى خلق أشكال من التعابير قد يتفق معها الآخرون وقد لا يتفقون ، لكن تلك التعابير التي تعد أحيانا شاذة هي التي تطبع انتاج الشاعر بطابعه الخاص ، بمعنى أننا لو ذهبنا مع جورج غريب - وقد نسلم برأيه - لوقفنا مشدوهين عند ابن الرومي الذي نجده يتخطى الألوان والأشكال الى ما وراءها من خلفيات فنية تعتبر ابداعا في حد ذاتها ، كما تبعد فنه عما يسمى بالاستقصاء لاجلاء الصورة الشعرية " لأن الاستقصاء في نظري ينطبق على الميدان العلمي ، ولا يفيد في الحقل الفني " فالشاعر مثلا حينما يقدم الينا ذلك الأحدب الذي كثيرا ما نشمئز من رؤيته في تلك الصورة الفنية التي أعادت له اعتباره الخلقي ، وذلك بقوله :
قصرت أخادعه وغاب قذاله ** كأنه متربص أن يصفعا
يجعل بامكاننا أن نكون فكرة فنية استنادا الى هذا البيت وحده عن الأحدب ، لكن لو رضينا نحن بذلك فان نفسية ابن الرومي الفنية لا يعقل أبدا أن تسلم به ، انه يأبى الا أن يتخطى بنا تلك المرحلة ليجعلنا أكثر ما نكون متعاطفين مع أحدبه ، لأن الشاعر كما يقول العقاد واحد من أولئك الشعراء القليلين الذي ظفروا من الطبيعة الفنية بأوفى نصيب ، بحيث استطاع بذلك أن يجعل " موضوع حياته هو موضوع شعره ، وموضوع شعره هو موضوع حياته" ولكونه يجد في ذلك عزاءه وتكملة للنقص الذي كان يشعر به ، وكأني به لو اكتفى بذلك الوصف لكان قد تساوى مع غيره ليس الا ، لكن نفسيته ألحت عليه وجعلته يزيد متفننا :
وكأنما صفعت قفاه مرة ** وأحس ثانية لها فتجمعا .