التصوير الساخر في شعر ابن الرومي 3 3

- الهجاء على عهد ابن الرومي :
بات العصر العباسي على عهــد ابــن الرومي يمثل كل التناقضات، بما في ذلك السياسية والدينية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأخلاقيــة جميعا ، ووجود ابن الرومي كفنان وســــط هذا السيل الجـــارف من التناقضات ، يجعلــــه لا يستطيـــع أن يعيش مسالما أو مـــداريا وجميــع عناصر الحياة تستدعيه لكي يقول كلمته الفنية ،والتي لا تعير للقوانين الأخلاقية أي اهتمام ، تلك الكلمة التي عاشت في قرارات نفسه، تغديها عوامل خارجية متنوعة ، وأخرى شخصية متميزة ، يصقلها مزاجه الحاد ، وذكاؤه المفرط الى أن تخرج الينا معبرة عن حياة صاحبها ، وعن محيط الآخرين من حولـــــه ، وبما أن لكل فنان ميــــزة خاصة يتميـــز بها في ميدان اختصاصه ، ففـــن الهجاء هو اختصاص الشاعر ، والسخر الفني الهادف هو أهم ما يميز ذلك الهجاء ، وذلك بحكم خصوصياته ، تلك التي جعلته ينفـــرد في عصــره - كما سنرى - عن الهجائين الآخرين وما أكثرهـم ، ذلك مــا يتضح لنا كلما قرأنا أشعاره حتى الآن .
- عوامل السخر في شعر ابن الرومي :
ان الهجاء الساخر أو السخـــر الفني ، أو التصوير الكاركتوري - ولك أن تسميه ما شئت من الأسماء ، ولك أن تصفه بما حســن لديك مــن الصفات - هذا اللون من الهجاء يرتكز على عوامل خارجية ، تمثلها البيئـــــة التي تحيط بالشاعر ، كما تعتمد على عـــوامل أخرى شخصية ، علما بأن كـــل العوامـــل تتفاعل فيما بينها لتكون الحافز الذي يجعل شاعرنا يهجو ويسخر ، ولكـــن بتأدب وفنية بالغين .
- العوامل الخارجية :
يقول جورج غريب في كتيبه الموسوع في الأدب، تحت رقــــم 11 :// ان عصر ابن الرومي جمع بين المتناقضات مما لا يــــدع مجالا للشك في أن ابن الرومي جاء صنيعة لها // ويزيد عباس محمود العقاد في كتابـــــه عـــن الشاعر قائلا :// شــــذوذ ابن الرومي يرجــــــع الى فســاد عصره السياسي والاقتصادي والدينـــي والاجتماعـــي والخلقـــي // .أما الدكتــور النويهي فيقـــول في كتابه : ثقافة الناقد الأدبي : ان المؤثرات التي أثـــرت في ابــن الرومي لم تكن عصره ولا بلدته ولا بيئته ولا تربيته ، ولا نـوع التعليم الذي أصابه ، بقدر ما كانت مؤثرات جسمانيـــــة // . يلاحظ مــن خـــلال هــذه الآراء المتنوعــة، أن الدكتور النويهي يخالف الرأيين الأولين ، فالعقاد وجورج غريب يرجحان عوامل البيئة ، أما النويهي فيعتمــد على العوامل الشخصيـة بقدر ما يولي ظهره للمؤثرالبيئي ، والحقيقة أنه لا يعقل أن يعيش الواحـــد منا منعزلا عن بيئته ، فكيف بالشاعر الحساس بطبعه ؟ وحتى لــو فرضنا أن العنصر الاجتماعي يمثل الجـــــــذور المغذية لباقـــي فـــروع الشجـــرة ، والعنصر الشخصي يمثل تلك الفـــــروع ، فليس معنى هذا أن أحدا يقـــوم مستقلا عن صاحبه .
- العوامل الشخصية :
وعلى كل ، فللعوامل الشخصية النصيب الأوفى في فـــن ابــــــن الرومي ، وليس أدل على ذلك من الصورة التي يرسمها شاعرنا بقلمه وقلبه لنفسيتــه وجسمه.
فلو تمثلت صورة ابن الرومي أمام عينيك لرأيته رجلا نحيل الجسم ، دقيق القسمات ، هذا ما يعبر عنه بقوله :
يالقومي أأثقل الأرض شخصي ** أم شكت من جفاء خلقي املاء
وابن الرومي ذو وجه قبيح تعلوه صلعة بدليل قوله :
فان وجهي بقبـــح صورتــــــه ** ما زال بـــي كالشيب والصلع
كما تكسو جسمه تجاعيد قد تجعل العابد يسبح اللـــه حين يـــراه على تلك الصورة وكان حريا به أن يستعيذ بالله من منظره :
شغفت بالخرد الحسان وما ** يصلح وجهي الا لذي ورع
كي يعبد الله في الفـلاة ولا ** يشهد فيــــه مشاهـــد الجمع
واذا انحدرت ببصرك قليلا لرأيت هذا الرأس يرتكز على ظهر مقـــوس :
وأضحت قناة الظهر قوس متنها ** وقد كان معدولا وان عشت فخخا
واذا شاهدت الشاعر وهو يمشي لرأيت أمامك قامة مشلولة يتخاذل الجســم تحتها فاقدا توازنه :
ان لي مشيـــة أغربـــــــل فيـها ** آمنا أن أساقـــط الا سقـــاطا
وعلاوة على هذه النحافة والقبح ، نجده في معظم أوقاته شارد الذهن ، لكن شرود فنان متأمل ، فاذا نظرت في وجهه مليا لشاهدت تلك النظرة الواجمه التي تفصح عن رجل أبلى الأيام وأبلته ، كما شيبه التفكير الطويل والعميق ، مما يثير انتباه الصغار ، فكيف بالكبار ؟ فلنستمع الى رأي صغير فــــي شاعرنا :
وشقيقة قالت أراه مفكرا ** حتى أراه من السكينة نائما
فأجبتها اني امرؤ هيامة ** في كل واد ما أفيق هماهما
وعن الأسقام التي كانت تتوزع جسمه يقول :
تقسمت الأسقام أعضاء جسمه ** ففي كل عضو مألف لكئيب
أما المصائب فقد شيبته على صغره ، ففيها يقول :
فظلـــم الليالي انهـــن أشبنني ** لعشرين يحدوهن حول محرم
ولعل كل ما تقدم جعل ابن الرومي ينغمس في ملــــــذات الحياة ، وأمله أن يغتنم كل فرصة ليصل الى هدفه ، ضاربا بنصائـــــــح الناصحين عــرض الحائط ، لأن النصيحة سهلة - كما يقول الغزالي - ولكن المشكل قبولـها :
ان يكــــن عنــــدك لي نصح ** فما عنـــدي انتصــــاح
ولعل كل ذلك أيضا جعله لا يعبأ بالقواعد والأعراف ، ما دام الحابل قـــــد اختلط بالنابل وما دامت الظروف لا تعرف نظاما ولا انتظاما ولا مساواة:
لا تلمني فالهـــوى فيــــه جماح وطماح
كل شيئ غلـــب الصبـــر عليه فمبـــاح
انــما الدنيا مـــلاه واغتبــاق واصطباح
والمزاح الجد ان فكرت والجد المزاح
هذه هي الصورة الجسمية والنفسية التي يرسمها الشاعر لنفســه ، فاذا كنا قد أطلنا الوقوف عندها ، فلكونها ستساعدنا كثيرا في معرفة العوامـل التي أثرت على فنه ، كما سنبــــــرز من خلالها تلك الظاهــــرة التي سميناها بالسخر الفني أو التصوير الكاركتوري . يتبع