التصوير الساخر في شعر ابن الرومي 2

- الهجاء على عهد الثنائي القبيح جرير والفرزدق :
ما ان انتقل الحكم الى بني أمية حتى انبعثت العصبيات من جديـــد يشجعها الحزب الأموي الحاكم ، والأحزاب المناوئة لـــــــه ، الى جانـــب العناصر الأجنبية ، وفي مقدمتها الموالي ، غير أن تلك القيـــم التي ظهــــــرت مــع انبعاث تلك العصبيات ستعرف اختلافا مع ميلاد تلك الأحزاب ومع تواجـــد الموالي ما دام هؤلاء جميعا بدؤوا يستخفون تدريجيا بقيـــــم الجماعــــــة ، ويشككون في انتمائهم الى هذه القبيلـــــة أو تلك ، فهذا التحـول في المواقف بات يؤثـــــر في الهجاء الذي لم يعد يؤدي وظيفته حين اعتماده على القيــم المشتركــــــة بين أفراد الجماعة ، فلقد أصبح الفــــرد يبتعــــد تدريجيا عن مبادئ هــذه الأخيرة ، وينسلخ عن أعرافها ، مما جعل الهجاء يبحــث عن بديـــــل يقـــوى بـــه على مواجهة تلك المعطيات الجديدة .
فالشاعر جرير - مثلا حين هجائه للفرزدق - كان يشعــــر بصعوبـــة في النيل من مهجوه ، ذلك أنه كان يحاول عبثا تجريده مما يعتد به مـن مناقب يرويها النسابون والرواة أبا عن جد ، خاصة وأن جريـــــر يفتقـــر الى ما يرفع من شأن / ربيعة / الى مستوى / مجاشع / مما اضطره الى البحث عن وسيلة جديدة لعله ينال من خصمه شخصيا اذا تعذر عليه اقناع قرائــه بما لم يعودوا مؤمنين به ، كما لم يعودوا متذوقين له من هجــــاء جماعي .
فمعايرة الفرزدق بفجوره ، أو بسفه أسرتـــــه ، أو بقصر قوائمـــه تغيظــه شخصيا ، كما تثير سخرية الناس من حوله ، يقول جرير هاجيا الفرزدق :
لقد ولدت أم الفرزدق فاجرا ** وجاءت بوزواز قصير القوائم
... وبهذا يتحول الهجاء على يد جرير من العموميــــة التي لاحظناها في العصر الجاهلي وصدر الاسلام الى الخصوصية .
- الهجاء على عهد بشار بن برد الأعمى :
لقد فتح جرير لمن بعده باب الهجاء الشخصي اثر تطور المجتمع العربي ، حيث أصبح الهجاء يتعرض لخصمه مباشرة، ليدفع فن الهجاء بذلك خطـوة الى الأمام . وبشار ابن برد كان أول من اقتفى أثر هــــذه الخطوة بحكـــم الصراع القائم بين العرب والموالي ، وذلـــك ليرضي طموحــــــه كشعوبي محترم ، وليستخف بما تبقى من قيم ، خاصة وهـــــو يجمع مــن العيــوب الخلقية والخلقية ما لو تسنى له رؤيتها بعينيه لصرع ، ومع ذلك فهناك من كان يطلعه على عوراته، فتراه يحاول التخلص منها عن طريـــــق خلخلة العلاقة التقليدية القائمة بين المشبه والمشبه بـه ، وليصل بالتالي الى رســم تلك الصورة الساخرة في شعره .
فاذا كان الأصمعي يصف بشارا بقولـــه:// كان عظيم الخلق والوجــه ، مجدورا طويلا ، جاحظ العينين قد تغشاهما لحم أحمر // واذا كان بشـار نفسه يستطيع بلمسة من يده ادراك حقيقة ما ينقله الناس اليه ، فان نزعـة السخر ، ونزعة التشويه تأبى الا أن تسخر قلمه ليرسم صورة ساخــــرة لجسمه الضخم بقوله :
ان في بردي جسما ناحلا ** لو توكأت عليه لانهدم
وكأننا ببشار يسخر من هذا التناقض الحاصل بين جسمه كواقع ، وبين ما يجب أن يكون عليه في خياله المريض ، والا فماذا يكون جوابـه ياتـــرى حين تسأله الفتاة العربية التي غرر بها ، تاركا أثـــــــر نزوته البهيميــة ، وهويته الشعوبية على خدها ، ملتمسة منه مـا تعلل بــــه اتهامات أهلها ؟ فيجيبها بقوله :
قولي لها بقة لها ظفر ** ان كان للبق ما له ظفر
انه جواب يحمل في طياته أكثر من دلالة ، ذلك انه هجاء شخصي مقنــع جاء على شكل صورة كاريكاتورية ، دالا على ما لحق الهجاء الشخصي مــــن تطور على يد ذلك الأعمى .