كان يوما رهيبا جدا ذاك الذي قضاه مصطفى حين علم من طبيب الكلى أنه لن يستطيع الانجاب أبدا ...لم يكن يفكر بخلفه و لا بما قد يقوله الناس عنه و لا بخيبة أمل والديه و لكن شيئا واحدا كان يجعله غير قادر على التفكير و لا حتى على التنفس ...إنها خطيبته ليلى ...حلمه ليلى ...أمله ليلى ...كيف سيخبرها بالأمر ؟
فكر قليلا ثم جال بخاطره أن يخفي عنها الأمر برمته فإن صارت له زوجة و علمت لاحقا بالقضية حينها لن تستطيع كعديد النساء أن تغادره شفقة عليه أو إكراما لسني العشرة او ربما بوازع ديني او أيا كان السبب ،المهم ان تظل الى جواره و إلى الأبد و ملعون من يفرقهما .
فكر قليلا و راقت له الفكرة و اطمأن لها باله و ابتسم و هو يلقي جسده المثقل على الفراش و كأنه وجد حلا نهائيا لقضية حياته ...لكن سرعان ما تذكر وجه ليلى البريء و تخيلها و العمر يمضي بهما و هي لا تزال تفكر في الإنجاب منه ثم...تفقد الأمل شيئا فشيئا ...و تذبل كما الزهور في غير أوانها من عطش ثم قد ينبني حولهما جدار من الصمت و يؤول شغفهما الى جليد و يتحول حبهما الى كراهية مدمرة .
شعر بالرعب حينها يتسلل من جديد الى قلبه و انكمش كمن يشعر بالبرد و أراد البكاء على ليلى من حدث لم يحدث و قرر حينها انه لن يحدث .
فكر ثانية في احد لقاءاتهما ،حينما حددا مبدئيا أن يكون لهما صبيين :بنتا يسميانها عائشة تيمنا بأمنا عائشة رضي الله عنها و ابنا يسميانه ياسين حبا بسورة ياسين .
كانا متفقين على جعل الطفلين يمارسان رياضة دفاعية من اختيارهما على ان يكونان دائما معا يحميان بعضهما بعضا و كذلك سيلجان المسجد في سن مبكرة جدا حتى يتسنى لهما حفظ القرآن الكريم و هما لا يزالان حدثين .
كان مصطفى يتمنى ان تكون الصبية جميلة كأمها و رقيقة و مهذبة كهي و كان يريد لابنه و أن يصير كجده :رجل شجاع ،مقدام ،لا يهاب أحدا و لا يولي اهتماما لأحوال الدنيا و تقلباتها و يأخذ كل الأمور مأخذا بسيطا جدا .
تذكر مصطفى انه فقد عائشة و ياسين قبل أن يولدا و كأنه قتلهما بيديه بحرمانه تقديمهما لليلى.
بكى بحرارة حينها و هو ينعي ولديه لنفسه .
فكر جديا بإخبار ليلى لأنها لا تستحق منه الانكار و الخديعة و هي التي ضحت من أجله بالكثير ...من سنوات عمرها و صبرها على ظروف حياته حين لم يكن أمره ميسورا كما هو الآن و حين تأزمت أموره في اكثر من مرة كان باستمرار يجدها واقفة بقربه تذود عنه و تقوي عزيمته و تساعده على الوقوف و الاستمرار و لولاها ما صار ما هو عليه الآن ، أفيجازيها بالغدر بالخديعة ؟
خشي للحظة من ان توسوس له نفسه فيتراجع عن هذا القرار الذي يعرف في أعماقه أنه الأصوب للكل و لو تطلب الأمر ان يفقد روحه معه لكنه سيرتاح حين سيرى ليلى سعيدة.
سارع الى هاتفه النقال و اتصل بها ليحدد موعدا للغذاء ليوم غد و أوضح أنه سيخبرها بقرار مهم جدا بالنسبة لحياتهما معا .
في اليوم الموعود لم يستيقظ مصطفى باكرا فقد نام بعد الفجر بوقت ليس بقصير و هو يتقلب كالشاة على آلة الشواء تراوده ألف فكرة و يريد الرجوع عن قراره تارة و يصبر عليه تارة أخرى .
وجدها في انتظاره كالمعتاد تحت الشجرة نفسها و هي تطأطئ رأسها حتى لا تلفت انتباه أحد نحوها .
بعد القاء السلام ساد صمت رهيب بينهما جعل ليلى تظن ان مصطفى يريد فسخ الخطوبة لكنها تريثت للتأكد من الأمر ،و بقدر صبرها كان جبن مصطفى أكبر ...انعقد لسانه و عجز عن النطق ...طال الصمت أكثر مما ينبغي فقررت ليلى المبادرة بالكلام لعلها تحفظ شيئا من ماء وجهها .
سألته في جدية : ما الأمر ؟
زم شفتاه و كأنه يخشى تسرب الحروف من فمه رغما عنه .
ازداد قلقها و تحول الى غضب و استيقنت ان في الأمر قصة حب جديدة...شعرت بالخوف و الغضب يتسللان اليها و نبض قلبها سريعا و صرخت في وجهه على غير طبيعتها الهادئة :هل سأنتظر طويلا ؟ألم ترسل في طلبي ليلة أمس وقلت ان الأمر عاجل ؟ماذا هناك اذا؟
شعر حينها بالدهشة من تصرف ليلى و لكنه قدر خوفها فوضع يده على كتفها يريد تهدأتها و طلب أن يتمشيا قليلا ريثما يجد الكلمات المناسبة .
لم يكن مصطفى حينها يفكر بالكلام المناسب بقدر ما كان يريد الابتعاد بليلى الى المكان المناسب ،مكانا ينأى بها عن عيون الناس و مسامعهم لأنه لم يستطع تقدير ردة فعلها على ما سيخبرها به فلعلها ستصرخ أو ستبكي أو ستسبه و ستسب الأيام التي جمعتهما أو قد تتهمه بالكذب و انها ذريعته للتخلص منها أو قد تغادر من غير رجعة.
كل تلك السيناريوهات بات ليلته يراجعها واحدة واحدة و حضر نفسه لتقبلها كلها .
وجد المكان المناسب أخيرا ليعترف لها بذنب ليس ذنبه و قالها دفعة واحدة بغير مقدمات و لا نهايات ...أمس راجعت طبيب الكلى و قال أنني عقيم .
بعد هذه الجملة التي قتلت مصطفى ليلة أمس ألف قتلة و التي لو أخفى حقيقتها لقتلته كل ليلة لما تبقى من حياته ...شعر بعدها ان جسمه يعتصر عرقا و كاد يبكي أمام ليلى و هو يتوسل اليها ألا تتركه ثم....جاءه أغرب رد و أجمل رد لم يتصوره في كل الأفلام التي شاهدها بحياته و لا في مخيلته التي باتت عقيمة هي الأخرى فلم تستوعب ردة فعل ليلى .
قالت ليلى : و إن يكن ؟ المهم اننا حين نتزوج نتبنى طفلين كما خططنا اذ لا يهم أن أنجبهما من أحشائي ليكونا ولدي و لأمنحهما كل الحب الذي يفترض ان تمنحه كل أم في الدنيا لأولادها :ثم انني لم اخبرك أنني كنت دائما مرعوبة من قصة الانجاب و العمليات القيصرية و قصصها الفظيعة ثم انني أفضل الزواج من رجل صالح على ان يكون لي مائة صبي من رجل طالح.
لم يصدق مصطفى ما سمع فراح يؤكد عليها كبائع يخشى أن يغش الزبون : لكن تذكري أن المال و البنون زينة الحياة الدنيا
أجابت بابتسامتها العريضة التي تشع نورا و ثقة :و كذلك تذكر انما أموالكم و أولادكم فتنة. أمسكت ليلى بيد مصطفى و عادا من حيث أتيا و البسمة لا تفارق كلاهما و أدرك مصطفى حينها معنى أن تكون الدنيا كلها متاع و خير متاعها امرأة صالحة . |