تقرأون اليوم:ابن المقفع (724 - 759) الحاكم والرعية / نبيل فرج
صفحة 1 من اصل 1
تقرأون اليوم:ابن المقفع (724 - 759) الحاكم والرعية / نبيل فرج
ابن المقفع (724 - 759) الحاكم والرعية /بقلم نبيل فرج
الاثنين 30 تموز (يوليو) 2012
لا يمكن لنظام الحكم فى أى دولة أن يستتب وتتوطد أركانه، وللرعية أن تحيا حياة مطمئنة كريمة، إلا إذا انتظم سراج الحكم على أرضها، وتحقق العدالة للمجتمع بكل طبقاته أما إذا افتقدت العدالة، وحل محلها التشاحن، والظلم، والبغضاء فإن الحكم لا يفقد فقط استقراره، ولكنه يفقد أيضا مشروعيته.
وقصة الملك دبشليم مع بيدبا الفيلسوف فى »كليلة ودمنة« ليست قصة مسلية لتزجية الفراغ، بل كتاب فى السياسة والأخلاق، يروى فيه كاتبه العلاقة بين السلطة والرعية، وبين السلطة وحكماء الأمة، ممثلة فى هذا الفيلسوف الذى تعرض لغضب الحاكم المتجبر، وسجن وقيد، بعد أن كاد يعدم، لولا إحجام هذا الحاكم، والعفو عنه، وتقريبه منه، وجعله وزيراً أو مستشارا له فى إدارة شئون البلاد.
وعلى الرغم من أن بيدبا الفيلسوف عانى بشدة من هذا الملك، كما عانى ابن المقفع من الخليفة المنصور، فقد قام بأداء ما طلب منه على أكمل وجه.
أجاب بيدبا الفيلسوف عن كل ما سأله عنه الملك، وقد لمه نصائحه بمنتهى الأمانة والإخلاص، وبذلك خفف عن الملك شيئا من أثقال الحكم، وأرشده إلى الطريق الصحيح.
وأول هذه النصائح التى قدمها هذا الفيلسوف للملك هى التزام العدل الكامل فى قوله وفعله، وفى تفقده لأمور المملكة هينها وجسيمها، وفى انحيازه للصفوة أو الخاصة المحيطة به، وعدم قبض يده عن العطاء، وغيرها من النصائح الثمينة التى تعكس ظروف الحكم، وواقع العصر.
وبتخفيف أثقال الحكم توفر للحاكم الوقت والفراغ لقراءة صفحات التاريخ وآدابه وفنونه. وتحت تأثير هذه القراءات، والمسئولية الملقاة على عاتقه، طلب الملك دبشليم من بيدبا الفيلسوف، بعد أن أمعن النظر فى الكتب الماضية، أن يؤلف له كتابا مماثلا فى معانيه وبلاغته لهذه الكتب المحفوظة فى الخزائن، يتضمن أفكاره التى تهدى الحاكم وترشده، ويكون فى شكل فنى معتبر، يمتزج فيه الجد بالهزل، واللهو بالحكمة، والظاهر بالباطن، حتى يقبل عليه الكبار والصغار، ويستفيد منه علية القوم، ولا تضيق به العامة.
واستجابة لطلب دبشليم الملك أملى بيدبا الفيلسوف على أحد تلاميذه، على مدى سنة كاملة، كتاب »كليلة ودمنة«، وقدمه للملك فى حضور كل الخلائق. ولم يطلب بيدبا من الملك شيئا سوى أن يحفظه، كما حفظ الآباء والأجداد من الملوك كتبهم.
ويرى بعض الباحثين فى التراث الإنسانى أن هذا الكتاب يعد مع »ألف ليلة وليلة« أكثر الكتب انتشارا فى العالم، يقرأ بعشرات اللغات القديمة والحديثة نقلا عن النص العربى، وهذا الأثر الفذ ليس من إبداع القريحة العربية، وإنما هو من تأليف أحد الكتاب أو العلماء المجهولين، وضعه باللغة الهندية أو الفارسية، على تنازع بين الهند وفارس، ثم ترجم بعدها إلى اللغة العربية بقلم عبدالله بن المقفع، فى مرحلة تاريخية كثرت فيها ترجمة الآداب الأجنبية، وإن وجد بالمقابل من الباحثين من يؤكد البراهين وليس بالكلمات المرسلة أن »كليلة ودمنة« عربية خالصة، من تأليف ابن المقفع، وهو الأرجح بنسبة عالية، كما يذكر الدكتور محمد رجب النجار فى كتابه »كليلة ودمنة تأليفًا لا ترجمة« الذى صدر فى عام 2008 عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بعد وفاته.
والدليل على صحة ما يقوله النجار أن أسلوب المقدمة التى كتبها ابن المقفع لبيان غرضه من الكتاب، بالمعنى الذى يشمل الشكل والمضمون، لا يختلف فى خصائصه عن متن الكتاب، خاصة من ناحية الإيمان أو التسليم بالقضاء والقدر، وهو معتقد إسلامى بحت، لم يكن له وجود بهذه الصورة فى الأديان القديمة قبل الإسلام.
وهذا الاتفاق فى الإنشاء والتفكير بين مقدمه الكتاب ونصه، يدل على أنه من وضع قلم واحد. وهناك أيضًا فى الكتاب وقائع عديدة لا تتقبلها الثقافات الأخرى تقبل الثقافة العربية لها، ترجح أنه تأليف عربى. كما أننا نجد فى الكثير مما فى »كليلة ودمنة« شبهًا له فى الشعر العربى.
وبغض النظر عن قضية هذا الكتاب بين التأليف والترجمة، التى لم يكن النجار أول من آثارها، فإن تقديرى أن "كليلة ودمنة" إن لم تكن من تأليف ابن المقفع، ففيها على الأقل إضافات أو تصرف ينسب إليه وحده، وهى التى استند إليها النجار، ومن اتجه اتجاهه، لما هو معروف عن ابن المقفع من أنه لم يكن يلتزم بالترجمة التزاما حرفيا، وإنما كان يضيف إليها أو يحذف منها.
وكتاب »كليلة ودمنة« عبارة عن أحاديث عقلانية تدور على ألسنة البشر والبهائم والطيور. هذه الأحاديث التى بدأت تاريخيا شفاهية تتناقلها الشفاة، ثم دونت بعد ذلك على الورق يعرض فيها مؤلفها للدين والدنيا عرضا يتناثر فيه العلم والحكمة.
وما ورد فى مفتتح الكتاب من أنه ترجمة عما وضع فى الفارسية ليس سوى حيلة فنية استخدمها ابن المقفع لكى يقى نفسه خطر مناهضة الدولة الناشئة، كما يستخدم الكتاب فى مختلف اللغات مثل هذه الحيلة وغيرها، كأن يذكر على سبيل المثال أن ما يقرأه القارىء أوراق قديمة عثر عليها فى إحدى الجبانات، أو أنها لمؤلف لايعرفه أحد، اشترط ألا تنشر إلا بعد وفاته، أو أن هذه الصفحات تتحدث عن مدن خيالية، قائمة فى الفضاء أو تحت الماء، حتى لاتفطن السلطة أنها إزاء تأليف واقعى، يحمل دلالة معاصرة. وبذلك يفلت المؤلف من سيف الرقابة، ومن ثم من العقاب الذى يهدد كل من يختلف معها، وتقف له بالمرصاد.
والقراءة الواعية المتفحصة لمضمون »كليلة ودمنة« تفصح بجلاء عن سبب هذه الحيلة، أو هذا الشكل الفنى الذى وجد فى التراث العربى والأجنبى على مدى العصور من يحاكيه، لأنه يحمى المؤلف من البطش الذى يمكن أن يصيبه ويصيب نصه جراء ما فيه من نقد للسلطة والمجتمع، اهتدى إليها ابن المقفع بادعاء أن الكتاب ترجمة وليس تأليفا له، كيلا لا يتحمل وزر ما فيه من نقد لم تكن الثقافة العربية فى مطلع العصر العباسى تقوى عليه أو تتحمله. ولم يكن ثمة غير هذه الحيلة، فوضع اسم الفيلسوف الهندى بيدبا كمؤلف، واسم ابن المقفع كمترجم، لتفادى هذا الخطر الداهم.
وإذا كان من الأهمية بمكان رد الكتاب إلى أصوله فى القريحة العربية، سواء كان إبداعا خالصا لابن المقفع أو كان من الإبداع الشعبى، ولابن المقفع فضل صياغته فى هذا التاريخ، فلا يقل عنه فى الأهمية بيان قيمة الأفكار الإنسانية التى تنبع من الحس الفطرى والتجربة والثقافة المكتسبة التى تشير إلى باع الثقافة العربية فى السياسة والأخلاق والعلاقات بين البشر، على نحو ما كانت عليه هذه الثقافة فى سائر فروع المعرفة التى تأثرت بالمؤثرات الأجنبية، كالفارسية والبيزنطية والرومانية واليونانية، وفى زمن كانت فيه الحياة الاجتماعية الإسلامية تتعرض لنظم حكم استبدادية سافرة، شبه مقدسة، لا تحفل بمصلحة الرعية وغمار الناس.
وابن المقفع تثقف بالثقافة اليونانية، سواء فى لغتها الأصلية أو مترجمة إلى الفارسية، وترجم الكثير منها مثل كتاب المنطق لأرسطو، كما ترجم أكثر من كتاب عن الساسانية، أغلب الظن أنها عن اللغة الفارسية.
ومن كتبه المؤلفة أيضا »الأدب الكبير والأدب الصغير« وفيها يتناول ابن المقفع سلوك الملك والحاشية والولاة والأفراد، وعاقبة الظلم وإهمال العلم والمعرفة، بقصد إحياء الفكر، وتهذيب النفوس، وصقل القلوب.
إلا أن »كليلة ودمنة« تعد أشهر أعماله التى وضعها سنة 750 فى سن السادسة والعشرين، وكانت أولى طبعاته فى القاهرة 1902، وقبل هذا التاريخ لم تكن هناك نسخ من هذا الكتاب فى مصر غير مخطوطات مصور بالرسوم فى مكتبة السيد البدوى فى طنطا، وهو ما كانت عليه جميع المخطوط الأخرى فى العالم على مدى مايزيد على ألف عام.
وعلى مستوى المكتبة العربية فإن كتاب »كليلة ودمنة« يعد من أهم الكتب العربية. ولعل أهم محتوياته الحث على التعقل والتفكير فى كل شئون الحياة من أكبرها إلى أصغرها، وعدم الانقياد لأى عقيدة انقيادًا أعمى بلا وعى، وعرض آداب السلوك التى يتعين على صاحب الإمارة مراعاتها إذا ابتلى بها، ذلك بأن يكرس كل وقته لعمله، وأن يكون حازما فى الحق، وحَسن الاختيار، لا يتفرد بالرأى، ولا يعنيه المدح أو الملق، يعاقب المسيى ويثيب المحسن، وعليه أن يسأل الناس، وأن يأخذ الرعية بالفضيلة، وتجنب الرذيلة.
وإذا كنا فى زمننا نقول ما بُنىَ على باطل فهو باطل، فقد كان ابن القفع يرى أن ما يبنى على غير أركان وثيقة، أى على غير أساس متين، فإنه يتعرض للتصدع والتداعى.
ولسوء ظن ابن المقفع بالملوك نجده يحذر من مصاحبة الملوك، ويدعو للابتعاد عنهم. لأنهم أصحاب أهواء، لايؤمن جانبهم، وكذلك يحذر الحاشية التى تتعامل مع الملوك من الوقوع فى أى خطأ بسبب سوء طويتهم . ويتعين على الخليفة أن يصدر قانونا يلزم الفقهاء والقضاة بعدم التضارب فى أحكامهم على الواقعة الواحدة. ومن بدأ حديثا يجب أن يتمه، لأن قطعه يثير الريبة، وسخف لايليق، ولكل حديث موضعه، فإن أتى فى غير الموضع فقد طلاوته وبهاءه، كما أن خلط الجد بالهزل، أو الهزل بالجد، سخف أيضا.
ولا غبار على الصديق إن رأيته مع عدوك، لأنه قد يكفيك شره، أو يستر عنك عورة. أما إذا لم يكن صديقا ورأيته مع عدوك، فليس من حقك التدخل فى شأنه.
وتفيض »كليلة ودمنة« كما تفيض كل كتب ابن المقفع التى تتصف بالتعليمية، وبالنقد الاجتماعى والثقافى اللاذع الذى لايسلم منه أحد، سواء كان متحدثًا أو سامعًا، سائلا أو مجيبا
ولابن المقفع منهج فى الكتابة ذكره كوصية الكتاب، يندد فيه بالكلام الوحشى المهجور الذى يظن أنه من البلاغة، والحقيقة أنه العى (المريض) الذى لايفهم. وفى موضع آخر يوصى الكتاب بالألفاظ السهلة، بعيدًا عن ألفاظ السوقة أو العامة، التى تنفر منها الأذن. وبهذا الأسلوب الذى توصل إليه ابن المقفع فى بيئته التى عرفت بالفصاحة يعد مع معاصره عبد الحميد بن يحيى من الكتاب الذين أسسوا النثر العربى الذى تجتمع فيه اللذة الفنية بالفكر، قبل أن ينضج الإبداع العربى.
ويقال عن شخصية ابن المقفع أنها شخصية دمثة، ذات مروءة تتمتع بالخلال الرفيعة، وتقدر الصداقة، وأنه كان بالغ الذكاء، يضرب به المثل فيه، كما كان جوادًا، رفيع الشمائل.
ومع هذا قتله الخليفة أبو جعفر المنصور، وصادر كتابه »كليلة ودمنة«، لأن ابن المقفع أحرجه وأثار غضبه بانحيازه إلى خصومه والخارجين عليه.
فلما كتب ابن المقفع تعهدا أو أمانا باسم الخليفة لهؤلاء الخصوم، ينص فيه على طلاق زوجاته وتحرير عبيده إن عدل المنصور عن هذا التعهد معهم، عد الخليفة هذا التعهد الذى كتب بخط ابن المقفع بمثابة تدبير لانقلاب على الحكم كما نقول فى لغتنا المعاصرة، وهذا ما جعل الخليفة يضمر الخلاص من ابن المقفع حتى يرتاح منه، ومن إغراء الأعداء به، مستندا إلى صلة ابن المقفع المعروفة بعدد من الشخصيات التى اشتهرت بالفسق والمجون، وعلى ما أذيع عن اعتزام ابن المقفع »معارضة« القرآن، وكتب بالفعل صفحات وصفت بالضعف، سرعان ما قام ابن المقفع نفسه بتمزيقها قبل أن تقع فى يد أحد. وأوعز الخليفة لوالى أو عامل البصرة، سفيان بن معاوية، قتل ابن المقفع بتهمة الزندقة، دون وجود دليل مادى عليه، لا فى كتبه ولا فى كتب غيره من المعاصرين لابن المقفع!
ولمن يريد أن يتزود بالتعرف على ابن المقفع وأعماله، فإن المكتبة العربية زاخرة بالكتب وفصول الكتب والمقدمات التى تصدرت أعماله بأقلام أحمد زكى، وجورجى زيدان، وطه حسين، وشوقى ضيف، وعبد الرحمن بدوى، وعبد الوهاب عزام، وجمال الدين الرمادى، وحنا فاخورى، وثروت عكاشة، وحسين نصار، وحنا نمر، وفاروق سعد، وحامد طاهر، وأحمد كمال زكى، وفاروق خورشيد، وكثيرين غيره.
وأشهر من كتب عنه من القدماء: ابن النديم فى كتابه »الفهرست« الذى عده عاشر البلغاء العرب فى العصر العباسى، والجاحظ فى »البيان والتبيين« الذى شهد بعلو كعبه فى صناعة البلاغة وتفسيرها. والجهشيارى فى »الوزراء والكتاب«، وفيه يصف مقتل ابن المقفع البشع بتقطيع جسمه قطعة قطعة ورميها على بصر منه فى النار.
وهناك أيضا فى التراث العربى من عرض له مثل ابن خلكان، وأبو الفرج الأصبهانى، والمرتضى، والمسعودى، والبغدادى، والبيرونى، وغيرهم
عن مجلة الديمقراطية - القاهرة
__________________
الاثنين 30 تموز (يوليو) 2012
لا يمكن لنظام الحكم فى أى دولة أن يستتب وتتوطد أركانه، وللرعية أن تحيا حياة مطمئنة كريمة، إلا إذا انتظم سراج الحكم على أرضها، وتحقق العدالة للمجتمع بكل طبقاته أما إذا افتقدت العدالة، وحل محلها التشاحن، والظلم، والبغضاء فإن الحكم لا يفقد فقط استقراره، ولكنه يفقد أيضا مشروعيته.
وقصة الملك دبشليم مع بيدبا الفيلسوف فى »كليلة ودمنة« ليست قصة مسلية لتزجية الفراغ، بل كتاب فى السياسة والأخلاق، يروى فيه كاتبه العلاقة بين السلطة والرعية، وبين السلطة وحكماء الأمة، ممثلة فى هذا الفيلسوف الذى تعرض لغضب الحاكم المتجبر، وسجن وقيد، بعد أن كاد يعدم، لولا إحجام هذا الحاكم، والعفو عنه، وتقريبه منه، وجعله وزيراً أو مستشارا له فى إدارة شئون البلاد.
وعلى الرغم من أن بيدبا الفيلسوف عانى بشدة من هذا الملك، كما عانى ابن المقفع من الخليفة المنصور، فقد قام بأداء ما طلب منه على أكمل وجه.
أجاب بيدبا الفيلسوف عن كل ما سأله عنه الملك، وقد لمه نصائحه بمنتهى الأمانة والإخلاص، وبذلك خفف عن الملك شيئا من أثقال الحكم، وأرشده إلى الطريق الصحيح.
وأول هذه النصائح التى قدمها هذا الفيلسوف للملك هى التزام العدل الكامل فى قوله وفعله، وفى تفقده لأمور المملكة هينها وجسيمها، وفى انحيازه للصفوة أو الخاصة المحيطة به، وعدم قبض يده عن العطاء، وغيرها من النصائح الثمينة التى تعكس ظروف الحكم، وواقع العصر.
وبتخفيف أثقال الحكم توفر للحاكم الوقت والفراغ لقراءة صفحات التاريخ وآدابه وفنونه. وتحت تأثير هذه القراءات، والمسئولية الملقاة على عاتقه، طلب الملك دبشليم من بيدبا الفيلسوف، بعد أن أمعن النظر فى الكتب الماضية، أن يؤلف له كتابا مماثلا فى معانيه وبلاغته لهذه الكتب المحفوظة فى الخزائن، يتضمن أفكاره التى تهدى الحاكم وترشده، ويكون فى شكل فنى معتبر، يمتزج فيه الجد بالهزل، واللهو بالحكمة، والظاهر بالباطن، حتى يقبل عليه الكبار والصغار، ويستفيد منه علية القوم، ولا تضيق به العامة.
واستجابة لطلب دبشليم الملك أملى بيدبا الفيلسوف على أحد تلاميذه، على مدى سنة كاملة، كتاب »كليلة ودمنة«، وقدمه للملك فى حضور كل الخلائق. ولم يطلب بيدبا من الملك شيئا سوى أن يحفظه، كما حفظ الآباء والأجداد من الملوك كتبهم.
ويرى بعض الباحثين فى التراث الإنسانى أن هذا الكتاب يعد مع »ألف ليلة وليلة« أكثر الكتب انتشارا فى العالم، يقرأ بعشرات اللغات القديمة والحديثة نقلا عن النص العربى، وهذا الأثر الفذ ليس من إبداع القريحة العربية، وإنما هو من تأليف أحد الكتاب أو العلماء المجهولين، وضعه باللغة الهندية أو الفارسية، على تنازع بين الهند وفارس، ثم ترجم بعدها إلى اللغة العربية بقلم عبدالله بن المقفع، فى مرحلة تاريخية كثرت فيها ترجمة الآداب الأجنبية، وإن وجد بالمقابل من الباحثين من يؤكد البراهين وليس بالكلمات المرسلة أن »كليلة ودمنة« عربية خالصة، من تأليف ابن المقفع، وهو الأرجح بنسبة عالية، كما يذكر الدكتور محمد رجب النجار فى كتابه »كليلة ودمنة تأليفًا لا ترجمة« الذى صدر فى عام 2008 عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بعد وفاته.
والدليل على صحة ما يقوله النجار أن أسلوب المقدمة التى كتبها ابن المقفع لبيان غرضه من الكتاب، بالمعنى الذى يشمل الشكل والمضمون، لا يختلف فى خصائصه عن متن الكتاب، خاصة من ناحية الإيمان أو التسليم بالقضاء والقدر، وهو معتقد إسلامى بحت، لم يكن له وجود بهذه الصورة فى الأديان القديمة قبل الإسلام.
وهذا الاتفاق فى الإنشاء والتفكير بين مقدمه الكتاب ونصه، يدل على أنه من وضع قلم واحد. وهناك أيضًا فى الكتاب وقائع عديدة لا تتقبلها الثقافات الأخرى تقبل الثقافة العربية لها، ترجح أنه تأليف عربى. كما أننا نجد فى الكثير مما فى »كليلة ودمنة« شبهًا له فى الشعر العربى.
وبغض النظر عن قضية هذا الكتاب بين التأليف والترجمة، التى لم يكن النجار أول من آثارها، فإن تقديرى أن "كليلة ودمنة" إن لم تكن من تأليف ابن المقفع، ففيها على الأقل إضافات أو تصرف ينسب إليه وحده، وهى التى استند إليها النجار، ومن اتجه اتجاهه، لما هو معروف عن ابن المقفع من أنه لم يكن يلتزم بالترجمة التزاما حرفيا، وإنما كان يضيف إليها أو يحذف منها.
وكتاب »كليلة ودمنة« عبارة عن أحاديث عقلانية تدور على ألسنة البشر والبهائم والطيور. هذه الأحاديث التى بدأت تاريخيا شفاهية تتناقلها الشفاة، ثم دونت بعد ذلك على الورق يعرض فيها مؤلفها للدين والدنيا عرضا يتناثر فيه العلم والحكمة.
وما ورد فى مفتتح الكتاب من أنه ترجمة عما وضع فى الفارسية ليس سوى حيلة فنية استخدمها ابن المقفع لكى يقى نفسه خطر مناهضة الدولة الناشئة، كما يستخدم الكتاب فى مختلف اللغات مثل هذه الحيلة وغيرها، كأن يذكر على سبيل المثال أن ما يقرأه القارىء أوراق قديمة عثر عليها فى إحدى الجبانات، أو أنها لمؤلف لايعرفه أحد، اشترط ألا تنشر إلا بعد وفاته، أو أن هذه الصفحات تتحدث عن مدن خيالية، قائمة فى الفضاء أو تحت الماء، حتى لاتفطن السلطة أنها إزاء تأليف واقعى، يحمل دلالة معاصرة. وبذلك يفلت المؤلف من سيف الرقابة، ومن ثم من العقاب الذى يهدد كل من يختلف معها، وتقف له بالمرصاد.
والقراءة الواعية المتفحصة لمضمون »كليلة ودمنة« تفصح بجلاء عن سبب هذه الحيلة، أو هذا الشكل الفنى الذى وجد فى التراث العربى والأجنبى على مدى العصور من يحاكيه، لأنه يحمى المؤلف من البطش الذى يمكن أن يصيبه ويصيب نصه جراء ما فيه من نقد للسلطة والمجتمع، اهتدى إليها ابن المقفع بادعاء أن الكتاب ترجمة وليس تأليفا له، كيلا لا يتحمل وزر ما فيه من نقد لم تكن الثقافة العربية فى مطلع العصر العباسى تقوى عليه أو تتحمله. ولم يكن ثمة غير هذه الحيلة، فوضع اسم الفيلسوف الهندى بيدبا كمؤلف، واسم ابن المقفع كمترجم، لتفادى هذا الخطر الداهم.
وإذا كان من الأهمية بمكان رد الكتاب إلى أصوله فى القريحة العربية، سواء كان إبداعا خالصا لابن المقفع أو كان من الإبداع الشعبى، ولابن المقفع فضل صياغته فى هذا التاريخ، فلا يقل عنه فى الأهمية بيان قيمة الأفكار الإنسانية التى تنبع من الحس الفطرى والتجربة والثقافة المكتسبة التى تشير إلى باع الثقافة العربية فى السياسة والأخلاق والعلاقات بين البشر، على نحو ما كانت عليه هذه الثقافة فى سائر فروع المعرفة التى تأثرت بالمؤثرات الأجنبية، كالفارسية والبيزنطية والرومانية واليونانية، وفى زمن كانت فيه الحياة الاجتماعية الإسلامية تتعرض لنظم حكم استبدادية سافرة، شبه مقدسة، لا تحفل بمصلحة الرعية وغمار الناس.
وابن المقفع تثقف بالثقافة اليونانية، سواء فى لغتها الأصلية أو مترجمة إلى الفارسية، وترجم الكثير منها مثل كتاب المنطق لأرسطو، كما ترجم أكثر من كتاب عن الساسانية، أغلب الظن أنها عن اللغة الفارسية.
ومن كتبه المؤلفة أيضا »الأدب الكبير والأدب الصغير« وفيها يتناول ابن المقفع سلوك الملك والحاشية والولاة والأفراد، وعاقبة الظلم وإهمال العلم والمعرفة، بقصد إحياء الفكر، وتهذيب النفوس، وصقل القلوب.
إلا أن »كليلة ودمنة« تعد أشهر أعماله التى وضعها سنة 750 فى سن السادسة والعشرين، وكانت أولى طبعاته فى القاهرة 1902، وقبل هذا التاريخ لم تكن هناك نسخ من هذا الكتاب فى مصر غير مخطوطات مصور بالرسوم فى مكتبة السيد البدوى فى طنطا، وهو ما كانت عليه جميع المخطوط الأخرى فى العالم على مدى مايزيد على ألف عام.
وعلى مستوى المكتبة العربية فإن كتاب »كليلة ودمنة« يعد من أهم الكتب العربية. ولعل أهم محتوياته الحث على التعقل والتفكير فى كل شئون الحياة من أكبرها إلى أصغرها، وعدم الانقياد لأى عقيدة انقيادًا أعمى بلا وعى، وعرض آداب السلوك التى يتعين على صاحب الإمارة مراعاتها إذا ابتلى بها، ذلك بأن يكرس كل وقته لعمله، وأن يكون حازما فى الحق، وحَسن الاختيار، لا يتفرد بالرأى، ولا يعنيه المدح أو الملق، يعاقب المسيى ويثيب المحسن، وعليه أن يسأل الناس، وأن يأخذ الرعية بالفضيلة، وتجنب الرذيلة.
وإذا كنا فى زمننا نقول ما بُنىَ على باطل فهو باطل، فقد كان ابن القفع يرى أن ما يبنى على غير أركان وثيقة، أى على غير أساس متين، فإنه يتعرض للتصدع والتداعى.
ولسوء ظن ابن المقفع بالملوك نجده يحذر من مصاحبة الملوك، ويدعو للابتعاد عنهم. لأنهم أصحاب أهواء، لايؤمن جانبهم، وكذلك يحذر الحاشية التى تتعامل مع الملوك من الوقوع فى أى خطأ بسبب سوء طويتهم . ويتعين على الخليفة أن يصدر قانونا يلزم الفقهاء والقضاة بعدم التضارب فى أحكامهم على الواقعة الواحدة. ومن بدأ حديثا يجب أن يتمه، لأن قطعه يثير الريبة، وسخف لايليق، ولكل حديث موضعه، فإن أتى فى غير الموضع فقد طلاوته وبهاءه، كما أن خلط الجد بالهزل، أو الهزل بالجد، سخف أيضا.
ولا غبار على الصديق إن رأيته مع عدوك، لأنه قد يكفيك شره، أو يستر عنك عورة. أما إذا لم يكن صديقا ورأيته مع عدوك، فليس من حقك التدخل فى شأنه.
وتفيض »كليلة ودمنة« كما تفيض كل كتب ابن المقفع التى تتصف بالتعليمية، وبالنقد الاجتماعى والثقافى اللاذع الذى لايسلم منه أحد، سواء كان متحدثًا أو سامعًا، سائلا أو مجيبا
ولابن المقفع منهج فى الكتابة ذكره كوصية الكتاب، يندد فيه بالكلام الوحشى المهجور الذى يظن أنه من البلاغة، والحقيقة أنه العى (المريض) الذى لايفهم. وفى موضع آخر يوصى الكتاب بالألفاظ السهلة، بعيدًا عن ألفاظ السوقة أو العامة، التى تنفر منها الأذن. وبهذا الأسلوب الذى توصل إليه ابن المقفع فى بيئته التى عرفت بالفصاحة يعد مع معاصره عبد الحميد بن يحيى من الكتاب الذين أسسوا النثر العربى الذى تجتمع فيه اللذة الفنية بالفكر، قبل أن ينضج الإبداع العربى.
ويقال عن شخصية ابن المقفع أنها شخصية دمثة، ذات مروءة تتمتع بالخلال الرفيعة، وتقدر الصداقة، وأنه كان بالغ الذكاء، يضرب به المثل فيه، كما كان جوادًا، رفيع الشمائل.
ومع هذا قتله الخليفة أبو جعفر المنصور، وصادر كتابه »كليلة ودمنة«، لأن ابن المقفع أحرجه وأثار غضبه بانحيازه إلى خصومه والخارجين عليه.
فلما كتب ابن المقفع تعهدا أو أمانا باسم الخليفة لهؤلاء الخصوم، ينص فيه على طلاق زوجاته وتحرير عبيده إن عدل المنصور عن هذا التعهد معهم، عد الخليفة هذا التعهد الذى كتب بخط ابن المقفع بمثابة تدبير لانقلاب على الحكم كما نقول فى لغتنا المعاصرة، وهذا ما جعل الخليفة يضمر الخلاص من ابن المقفع حتى يرتاح منه، ومن إغراء الأعداء به، مستندا إلى صلة ابن المقفع المعروفة بعدد من الشخصيات التى اشتهرت بالفسق والمجون، وعلى ما أذيع عن اعتزام ابن المقفع »معارضة« القرآن، وكتب بالفعل صفحات وصفت بالضعف، سرعان ما قام ابن المقفع نفسه بتمزيقها قبل أن تقع فى يد أحد. وأوعز الخليفة لوالى أو عامل البصرة، سفيان بن معاوية، قتل ابن المقفع بتهمة الزندقة، دون وجود دليل مادى عليه، لا فى كتبه ولا فى كتب غيره من المعاصرين لابن المقفع!
ولمن يريد أن يتزود بالتعرف على ابن المقفع وأعماله، فإن المكتبة العربية زاخرة بالكتب وفصول الكتب والمقدمات التى تصدرت أعماله بأقلام أحمد زكى، وجورجى زيدان، وطه حسين، وشوقى ضيف، وعبد الرحمن بدوى، وعبد الوهاب عزام، وجمال الدين الرمادى، وحنا فاخورى، وثروت عكاشة، وحسين نصار، وحنا نمر، وفاروق سعد، وحامد طاهر، وأحمد كمال زكى، وفاروق خورشيد، وكثيرين غيره.
وأشهر من كتب عنه من القدماء: ابن النديم فى كتابه »الفهرست« الذى عده عاشر البلغاء العرب فى العصر العباسى، والجاحظ فى »البيان والتبيين« الذى شهد بعلو كعبه فى صناعة البلاغة وتفسيرها. والجهشيارى فى »الوزراء والكتاب«، وفيه يصف مقتل ابن المقفع البشع بتقطيع جسمه قطعة قطعة ورميها على بصر منه فى النار.
وهناك أيضا فى التراث العربى من عرض له مثل ابن خلكان، وأبو الفرج الأصبهانى، والمرتضى، والمسعودى، والبغدادى، والبيرونى، وغيرهم
عن مجلة الديمقراطية - القاهرة
__________________
محمد الورياكلي- فارس المنتدى
- الجنس : عدد المساهمات : 2246
درجة التقدير : 2
تاريخ الميلاد : 25/11/1954
تاريخ التسجيل : 11/09/2010
العمر : 69
مواضيع مماثلة
» قرأت لكم: فهل تقرأون؟
» كتاب :الأدب الكبيرلعبد الله بن المقفع
» مسؤولية الحاكم
» مسؤولية الحاكم
» • الطائفيون “سنة” كانوا أو “شيعة” أو “مسيحيين”، ملة واحدة بقلم د نبيل نايلي
» كتاب :الأدب الكبيرلعبد الله بن المقفع
» مسؤولية الحاكم
» مسؤولية الحاكم
» • الطائفيون “سنة” كانوا أو “شيعة” أو “مسيحيين”، ملة واحدة بقلم د نبيل نايلي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى