فتح طنجة عام 1095 هـ
صفحة 1 من اصل 1
فتح طنجة عام 1095 هـ
ذكريات الجهاد على عهد الدولة العلوية: فتح طنجة عام 1095 هـ في التاريخ والأدب
عبد الله المرابط الترغي
عبد الله المرابط الترغي
دعوة الحق
العدد 353
لكل أمة ذكرياتها الوطنية التي تعتز بها وتعمل على استرجاع مواعيدها، فتجعل منها أعيادا وطنية تحتفل بذكراها، وتستحضر العبرة من إجرائها في ذلك، لتزداد شخصية الأمة تماسكا وحضورا في صنع تاريخها ومسيرتها.
وأهم هذه الذكريات هي التي تكون الأمة قد حققت فيه إنجازا وطنيا كبيرا، تقوم به وحدة الأمة في العقيدة والوطن والسياسة، وذلك:
- إما بتحصيل مواقف حاسمة نشأت عنها تحولات جذرية عميقة، أو بحدوث وقائع كان لها الحسم في الاختيار والاستقرار.
- وإما بتأكيد وضع من أوضاع الجهاد ومواجهة الأعداء، دفاعا عن مقومات الشخصية الوطنية، ووجودها، واستخلاصا لثغور وتحريرها، واستكمال الوحدة الترابية بها، فتضع حدا بالقوة والفعل لما يحمله هؤلاء الأعداء في الغزو والتسلط والمضايقة.
- وإما بتحقيق اختيار حضاري تترتب عليه مسيرة جديدة في حياة الأمة، فيتم لها ذلك من خلال اتخاذ مذهب فكري، أو توجه عقدي، أو اعتماد نموذج سياسي، تتحقق معه الاستحقاقات المرغوب فيها.
ويعرف المغرب على امتداد تاريخه الإسلامي تحقيق العديد من هذه الإنجازات الوطنية الكبرى، سواء مما تمثل في المعارك الكبيرة الحاسمة التي خاضها المغرب، كأحداث "معركة الزلاقة" و "الأرك"، و"وادي المخازن"....و "معركة المسيرة الخضراء"، وغيرها.
وكأحداث تحرير الثغور المحتلة واستنقاذها، أو تحقيق الاستقلال والتخلص من الاستعمار، وما رافق ذلك من مواقف أصبحت أنموذجا مثاليا في الصمود والتضحية.
وقد شاءت إرادة الله أن ترتبط أعمال الجهاد الكبرى ، التي عرفها المغرب في القرون الأربعة الأخيرة بمواقف سلاطين دولة الأشراف العلويين، مما حافظ المغرب فيها على شخصيته، ووحدة ترابه، وتحريره واستقلاله.
فقد كانت المواجهات الكبرى، التي حملتها ظروف الحملات النصرانية على المغرب من جهة، وحضور التسلط الاستعماري الذي حركته أطماع أوربا من جهة ثانية، عاملين فرضا على المغرب أن يكون ملوكه وشعوبه في وضع جهاد مستمر، ما إن تنتهي مواجهة حتى تتولد مواجهة أخرى، يخوض المعارك على اختلاف مستوياتها، ويواجه الزحف الاستعماري الذي يستهدفه.
وقد كان من هذه المواجهات الكبرى، ما حملته أعمال الجهاد التي قادها السلطان المجاهد "المولى إسماعيل" لتخليص الثغور المغربية، التي كان يحتلها نصارى الإسبان، والبرتغال، والإنجليز، في المعمورة، و طنجة، والعرائش، وأصيلا، وباديس، وسبتة.
وتميز من بينها "فتح مدينة طنجة"، إذ كان إصرار السلطان المولى إسماعيل قويا، وشديدا، في العمل على تحريرها، واستخلاصها من الاحتلال النصراني، بعد أن امتد هذا الاحتلال قرابة قرنين ونصف قرن من الزمن.
لذلك كان فتح طنجة إنجازا رائعا في تاريخ المغرب، وكانت وقائعه ومراحل أحداثه، التي استمرت أعمال الحصار والمواجهة فيها، أكثر من خمس سنوات، تمثل "ملحمة جهادية كبرى"، تبقى ذكرياتها وذكريات الأبطال الذين صنعوها – وفي طليعتهم السلطان المجاهد "المولى إسماعيل" –حية قائمة تذكرها الأجيال المتعاقبة، وتسترجع أجواءها في شكل احتفال، يقام سابع المولد النبوي من كل سنة، وهو وقت اقتحام المدينة ودخول المجاهدين إليها، فتجتمع الجموع بضريح الشيخ محمد الحاج البقالي الشهير بـ "أبو عراقية" "تـ 1130هـ" بطريق مرشان، وهو أحد المجاهدين المتطوعين الذين قدموا للمشاركة في الحصار والفتح، وتذبح الذبائح، ويطعم الطعام بالمناسبة.
وإذا كانت طنجة – وهي هدية دولة الأشراف العلويين للإسلام وللمغرب، المدينة التي استقطبت المجاهدين، واستنهضت الهمم لتحريرها من كل جهات المغرب، وذلك بعزيمة السلطان "المولى إسماعيل"، فكانت نموذجا للتحرير –فإن طنجة ستواصل رسالة الجهاد، لتبقى رباطا لتجميع المجاهدين، وستصبح مع حفيد "المولى إسماعيل"، "السلطان الصالح المجاهد سيدي محمد الخامس" طيب الله ثراه، منطلقا للدعوة إلى استقلال المغرب وتحريره من الحماية، وذلك في رحلة جلالته التاريخية إلى طنجة، والتي سجلت الخطاب التاريخي الحاسم يوم 9 أبريل عام 1947، الذي طالب فيه باستقلال المغرب.
وإذا كانت الوقائع التي صنعت الفتح قد أثارت المؤرخين، فسجلوا أحداثها الكبيرة والصغيرة، وتداولوها في كتاباتهم التاريخية، فرسموا المواقف فيها، وعددوا الروايات التي تتحدث عنها، والفصول التي تستوعبها فإن حدث الفتح في ذاته، قد أثار الفرحة العارمة في المغرب، وحرك السنة الشعراء والكتاب لوصف أحداث الفتح، والثناء على أبطاله، فانطلقت القصائد تمجد عمل الفتح، وتمدح صانعه السلطان المجاهد "المولى إسماعيل" ، قدس الله روحه.
وقد اعتبر "حدث الفتح" هذا عملا خارجا على العادة، وذلك للظروف الزمنية التي جرت فيها أحداثه، وللظروف النفسية والاجتماعية التي خلفها إنجازه بالنسبة للمغرب وبيئته آنذاك، فهو يأتي كأول مواجهة ناجحة بعد نكسة استمرت قرابة ثلاثة قرون، فلأول مرة ينهزم فيها العدو المحتل، ليتخلى عن مركز من مراكزه المهمة، ولأول مرة تنتزع منه بالقهر والغلبة، مدينة محصنة، رصد لها كل وسائل المناعة والدفاع، لذلك كان هذا الفتح يمثل الشيء الكثير بالنسبة للمغرب، قديما وحديثا، فزيادة على أنه عملية انتصار واسترجاع لحصن من الحصون المنيعة، فهو يمثل يقظة بعد هجعة وسكون، ويمثل استرجاع الثقة بالنفس في هذه المواجهة.
وبالنسبة لنا اليوم، فهو يمثل ذكرى طيبة، من مظاهرها تحقيق فوز كبير بهذه المدينة، التي لولا هذا الفتح لظلت طنجة كحال سبتة، ولكان للمغرب وجه آخر.
وهكذا سيكون الحديث على الفتح يشمل شقين اثنين :
أولهما : فتح طنجة في التاريخ.
وثانيهما : فتح طنجة في الأدب .
أولا: فتح طنجة في التاريخ :
إن أعمال فتح طنجة وقد امتدت مواجهاتها أكثر من خمس سنوات "1090 -1095" لم تكن أحداثها تجري بمحض الصدفة أو وقوع الحافر على الحافر، وإنما كانت تخطيطا محكما وضعه السلطان "المولى إسماعيل "،وانتدب له قوادا وجيوشا،من الوصفان،وقبائل الريف،والمتطوعة من كل جهات المغرب ،واستحكمه ذلك الإصرار المتشدد المتتابع بهدف إزالة الحواجز مرة تلو الأخرى،فقد كان الوصول إلى سور طنجة المدينة تحول دونه حواجز عديدة،تمثلها تلك الأبراج المحصنة الواقعة خارج السور في اطراف الفحص ،والتي يجري الاتصال بينها لتوالي الإمدادات وتداولها حسب الضغط ،مما يجعل المدينة وأسوارها دوما بعيدة عن أي تهديد .
ويبدو أن طنجة كانت من القوة والمنعة ،ما استعصى على طوائف المجاهدين من المتطوعة،وغيرهم –والذين تعاقبوا على حصارها منذ احتلالها –اقتحامها، فكانت من التحصن بالقصبات والأبراج أو ما عرف بالبساتين التي شيدت على أطراف فحصها ،مما بناه نصارى الانجليز في أيام الهدنة التي كانت بينهم وبين "الخضر غيلان".فقد حشر الانجليز فيها من جند وعتاد ما يجعل المدينة بعيدة التناول،آمنة من كل المحاولات الجهادية التي تتوجه إليها، أو الحصارات التي لا تجدي نفعا،فلا تصل آثارها إلى المدينة ،أو إلى دورها لعدم اقتراب المجاهدين منها ،وقيام البساتين والأبراج المذكورة حائلا دونها.
ولذلك كانت محاولات "فتح طنجة"غير يسيرة ،تطلبت تعبئة كبيرة ،من الجند والعزيمة،والسلاح،وصبرا طويلا تجلى فيه التنظيم المحكم للحصار ،والإصرار على الفتح،وملاحقة الإمدادات وتواليها.
ويمكننا أن نميز في العمليات، والوقائع التي استهدفت فتح طنجة وتحريرها ،وما رافق ذلك من أحداث، مرحلتين اثنين:
*المرحلة الأولى:
وهي التي تمت أحداثها سنة 1091للهجرة، وقد تمثلت فيها المحاولات الأولى في عملية الفتح، والتي استهدفت تكسير خط الدفاع المتقدم الذي يحمي حصن طنجة المدينة ،وذلك بمهاجمة بساتينه،واقتحام أبراجه،والسيطرة عليها .
ففي سنة 1091 أمر" السلطان المولى إسماعيل"القائد "عمر بن حدو الريفي"-وقد كان قائدا للقصر الكبير ومنطقة الشمال،منذ مقتل "الخضر غيلان "وانهزام ثورته عام 1084-أن يتوجه إلى محاصرة طنجة ،والضغط عليها بغية فتحها واسترجاعها،وقد هيأ له لتنفيذ ذلك جيشا قويا أسند إليه أمره ،ضم "جيش أهل الريف"و"المتطوعة"،فنزل"فحص طنجة"،وابتدأ الحصار والمناوشة .
ويتحدث المؤرخ محمد بن العياشي(1) في كتابه :"زهر البستان" عن هذه المحاولة الأولى،حينما يتحدث عامة عن المعاقل و الحصون التي فتحها الله على السلطان "المولى إسماعيل"،وألقى بأزمتها إليه،فيفيض في الحديث عن الكيفية التي استنزل بها المجاهدون بعض بساتين طنجة وافتتاحها ،ويعطي في ذلك وصفا شاملا للأحداث التي رافقت هذه المحاولات فيقول .
"من ذلك بساتين طنجة التي بناها"النصارى الانجليز"،في أيام الهدنة التي كانت بينهم وبين "غيلان"،فأمسى –أيده الله-،وله بالتصدي لها في أندية العدل،أرفع مكان،فأمر أيده الله كبير قواده: القائد عمر بن حدو بمنازلة الثغر المذكور ،ومناجزته والرباط فيه حتى يفتح الله عليه،وأسند إلى نظره جيش أهل الريف والمتطوعة من سائر الناس،فنازل البساتين المذكورة التي منها "قبة السلاطين"،" ومرشان"،و"دار البارود" ،وغيرها من البساتين ،وحاصرها من كل جهة ومكان ،حتى استفتحها ،واستولى على ما فيها، وبقي"حصن طنجة"نهبة للمسلمين ،تصل جيوشهم عند الغارة إلى سوره ،بعد ما كانوا في أمن بتلك البساتين ،من مفاجأة المسلمين،والغارة على سرحهم، مما أنشأوه من الرشق،الذي أحكموا تأنيق بعضه إلى بعض،بين تلك البساتين،ورصفوا بعضه في بعض كأنه بنيان مرصوص،ممتدا من البحر للبحر،في زمن الفترة،وتقلص ظل الخلافة ،حتى كانت تلك البساتين سورا لفحصهم من طنجة ،وراحة للنصارى في سرحهم وغدوهم ورواحهم،ينقلبون في هذا الفحص بخيولهم ورجلهم ،فقيض الله لهم بوجود المولى المنصور بالله،جيشا عرمرما إلى نظر القائد المذكور،ففض ختامهم ،واستنزلهم من معاقلهم،وفتح الله على يده تلك البساتين ،فبقي النصارى في "حصن طنجة" منكمشين،أحير من بقة في حقة، متخوفين، فجاء القائد المذكور بالفتح للمولى المنصور".(2) فقد كان اختراق هذا الحاجز من الأبراج والسيطرة على عدد منها إيذانا ببداية التهديد الحقيقي لحصن طنجة، وقلبا لموازين القوى، والتحكم فيها.
فقد كان نصارى طنجة آمنين بهذا السور من البساتين والأبراج يمتد من البحر، من جهة الشرق إلى جهة غرب المدينة، كأنه بنيان مرصوص ليقوم مسرحا لدوابهم وماشيتهم، تغدو به وتروح، فلا يمكن لقوة إن تحركت برا أن تصل إلى أسوار طنجة إلا باختراق هذا الحاجز، وتجاوزه، والتغلب على أبراجه.
بل إن نصارى طنجة بتلك البساتين قد أصبحوا في موطن قوة "يغيرون على من حولهم ومن هو قريب من جوارهم".(3)
وقد استخدم المجاهدون في ذلك كل وسائل الحرب الممكنة آنذاك من تفجير البارود، والحفر تحت الأسوار، وتوجيه مجاري المياه المنتفع بها، وغير ذلك، مع ما كان يتتابع من المدد المتجدد في كل لحظة، والذي يقذف بمآت المجاهدين من محلات الجيوش والمتطوعة إلى منطقة طنجة، مما تتسع معه مساحة الحصار، ويكبر به ميدان المعركة، ويميل به العزم إلى النصر وتحقيق عملية الفتح.
ويبدو أن محاولات هذه المرحلة قد كان لها شوط ثان، فأحداث هذا الفتح في سنة 1091 هـ قد تجددت بعد أن أخذت لحظة استراحة، فجدد فيها القائد عمر بن حدو الريفي محلته الجهادية ليعاود الكرة نحو نصارى طنجة، والضغط على حصنها العنيد لاستثمار مقدمات النصر، التي تحققت قبل بالاستيلاء على بعض البساتين والأبراج، والاحتفاظ بعناصر المبادرة في هذه المبارزة.
والملاحظ أنه قد تداخلت عند كثير من المؤرخين أحداث هذه المرحلة في شوطيها الأول والثاني، وإن تم تعيين بعض تواريخها باليوم والشهر في السنة المذكورة.
فقد أورد القادري في "النشر" سير أحداث الفتح التي تعرضت لها بساتين طنجة في عام 1091هـ فأرخها في الأوقات التالية:
أولا: ففي منتصف ربيع الثاني "وصل لفاس خبر أخذ المسلمين طنجة على يد قائد القصر عمر بن حدو البطيوي".(4)
وفيه ما يماثله في التقاط الدرر، غير أنه سمى المكان الذي جرى عليه الفتح "بقصبة طنجة".(5)
ثانيا: ثم في "جمادى الأولى اصطلح البطيوي مع النصارى، ووقعت الهدنة"(6)
ثالثا: و "في منتصف رمضان ورد خبر خروج النصارى من طنجة، وقاتلوا مع المسلمين، فمات من المسلمين أزيد من مائة.
وخرج من فاس رماة إلى طنجة بقصد الجهاد.
ثم ورد خبر موت في قتال في الجهاد، ثم ورد خبر قتال آخر فيه.
ثم ورد خبر قتال آخر كبير مات فيه كثير من المسلمين".(7)
وفي "التقاط الدرر" شبيه بهذا في أحداث سنة 1091 هـ.(
ولاشك أن أخبار هذه الأحداث وتتابعها تكشف عن شدة المواجهة وقوتها وتوالي الإمدادات للحفاظ على الامتياز في تسيير أحداث الفتح.
غير أن القادري وهو يوقت هذه الأحداث يجعل حدث الصلح وتوقيع الهدنة سابقا في الزمن على تلك الوقائع الضارية التي تكررت فيها المواجهة واستشهاد العديد من المجاهدين.
فهل تجددت الحرب في شهر رمضان بعد أن سبق توقيع الهدنة والصلح في شهر جمادى الأولى؟ أم أنها مجرد ذكر وقائع حدث بينها ما بعثر ترتيبها الزمني؟
أرجح أيضا أن خاتمة هذه المرحلة كان في حدث الصلح وإبرام عقد الهدنة بين القائد عمر بن حدو الريفي وبين نصارى الإنجليز بطنجة، لأننا نجد:
أ- أن أحداث التاريخ تتلاحق بانتقال القائد عمر بن حدو بمحلته من المجاهدين بأمر السلطان إلى المعمورة
للضغط عليها واستنفاذها من يد نصارى الإسبان، وقد تمكن من ذلك جيش المجاهدين حينما دخلها فاتحا بقيادة السلطان "المولى إسماعيل" الذي قدم إليها ليشهد ثمار الفتح بنفسه في ثالث عشر ربيع الثاني عام 1092 هـ.(9)
ب – أن تداخل أحداث فتح طنجة في هذه المرحلة الأولى قد جعل بعض المؤرخين يذكرون وقائعها ضمن أحداث عام 1090 للهجرة، فقد ختم ابن الحاج في "الدر المنتخب" حديثه عن أحداث هذه المرحلة بأن "كل ذلك في عام تسعين وألف...وفي رواية أن أخذ البساتين كان عام واحد وتسعين".(10)
ورغم أنه رجح أن تكون هذه الأحداث في عام 1091 هـ إلا أنه لا يبعد أن يكون بعضها مما وقع قبل، وعلى مشارف نهاية عام 1090هـ، والملاحظ أن القادري نفسه وهو يؤرخ لوقائع عام 1090 هـ في كتابه "التقاط الدرر" يورد هذا الخبر:"...وقوي الاجتهاد في إخراج الرماة، وفي رابع المحرم وقعت غزوة بطنجة، وأخذت قصبة لهم بأربعة أبراج".(11)
ويورد الناصري في "الاستقصا" بعض أحداث عام 1090 هـ فيذكر ما نصه :" وفي أواخر المحرم من هذه السنة أوقع جيش المسلمين بنصارى طنجة، فقتلوا منهم ثلاثمائة وخمسين، وانتزعوا منهم قصبة بأربعة أبراج، واستشهد من المسلمين نحو الخمسين رحمهم الله". (12)
وعلى كل، فترتيب أحداث الفتح في هذه المرحلة يكبر الاحتمال في انها قد امتدت خلال سنتي 90 والتي تليها، لتنتهي مع عقد الصلح الذي تم في جمادى الأولى عام 1091 هـ.
وقد تأتى سرد أحداث هذا الفتح في كل من "زهر البستان" و"الدر المنتخب"، وقد جاءت نهايتها طبيعية بانعقاد الصلح وإبرام الهدنة بين القائد المذكور ونصارى طنجة.
ففي "زهر البستان" يجري الحديث هكذا عن القائد عمر بن حدو بعد فتح بساتين طنجة المتقدم ذكرها بما نصه: "...وتلون عهد الاستراحة ورجع بملحة أخرى، -وأمره أيده الله- بمعاودة منازلتها، فتهيأ النصارى الإنجليز الذين بها لملاقاة المسلمين، وطلبوا الإغاثة من جيرانهم النصارى "صبنيول من عدوة الأندلس" عند تعذر إغاثتهم من إخوانهم الإنجليز لبعد ما بين طنجة و"جزيرة انغلطرة" فأغاثهم "اصبنيول" بطائفة من النصارى "أهل القبطجية" منهم، فخرجوا من حصن طنجة لمحاربة المسلمين، فثار المسلمون في وجوههم، وأمكن الله منهم بسيوف المسلمين، فقاتلوا قتالا ذريعا، ورجعوا لحصنهم منهزمين، وطلبوا من القائد المذكور أمانا على شروط اشترطها عليهم من فك أسارى المسلمين، ودفع بارود وعدة، وغير ذلك ما تحملوا مما يكبر عليهم دفعه لولا خوفهم من سطوة المولى المنصور، والتزموا دفع بارود وعدة، وأشهدوا على أنفسهم، وشهد عليهم بذلك القسيسون والرهبان، ورجع القائد المذكور بأجر وغنيمة"(13)
أما في "الدر المنتخب" فإنه يتابع خبر وقائع "فتح طنجة" بعد سقوط تلك البساتين بما نصه:"....وبقي النصارى في مدينة طنجة منحصرين، فبعث القائد المذكور بخبر فتح البساتين لأمير المومنين، فأمده بجيش من المجاهدين، وقال له : أدم الحصار على القوم الكافرين، فتهيأ النصارى "النجليز" الذين بها لملاقاة المسلمين وطلبوا من جيرانهم النصارى "صبنيول" بعدد كثير من الشجعان والأبطال، وخرجوا من طنجة لمحاربة المسلمين أهل الكمال، وتركهم المسلمون حتى ساروا من طنجة سيرا له بال، فرجع المسلمون عليهم، وتمكنت سيوف المسلمين منهم، وقتل من المسلمين نحو الخمسين، ومن الكفار ما يزيد على ثلاثمائة، ورجعوا منهزمين لطنجة حصنهم، وطلبوا من القائد المذكور الصلح، فشرط عليهم شروطا، من فك أسارى المسلمين، ودفع بارود، وعدة، مما يكبر دفعه عليهم، والتزموا أن يدفعوا ذلك كل عام، وشهد القسيسون بذلك مما التزموه، ورجع القائد المذكور بأجر وغنيمة".
وهكذا انتهت أحداث المرحلة الأولى من "فتح طنجة" بعقد الصلح الذي أبرم عام 1097 هـ لتتحول محلة المجاهدين إلى حلق "وادي سبو" لافتتاح "حصن المعمورة".(14)
وإذا كانت أحداث هذه المرحلة – رغم عنائها وشدتها – لم تثمر ظاهريا سوى إزاحة بعض الأبراج، والاستحواذ على الغنائم التي التزم بها عقد الصلح، فإنها في العمق قد هيأت لعمليات الفتح الحاسمة التي ستشهدها فيما بعد الثغور المغربية الواقعة تحت قبضة النصارى.
إن نتائج أحداث هذه المرحلة قد أرست ظروف الاستقرار النفسي عند جيوش المغرب، وأعطت لها الثقة بجدوى العمل الجهادي، وذلك برد الاعتبار للمحلة المغربية كي يصبح الخصم النصراني أمامها للمرة الأولى في موقف ضعف، يذعن للشروط ويقبلها.
ولا شك أن هذا سيكون من العوامل المحفزة للمحلة المغربية على تكرار مثل هذا العمل الجهادي، والدخول في تجربة جديدة لمحاصرة بقية الثغور المحتلة.
لقد أزاح اختراق حاجز أبراج طنجة حواجز نفسية كثيرة كانت تثبط أعمال الجهاد، وتحول دون الوصول به إلى الفوز.
وأخيرا تعلم المجاهدون من كل هذا كيف يمكنهم كسب معركة حصار الحصون والقلاع.
* المرحلة الثانية:
وهي التي أثمرت "فتح طنجة" بصفة نهاية عام 1095 للهجرة، وتبدأ هذه المرحلة غداة فتح المعمورة سنة 1092 هـ حينما أمر "السلطان المولى إسماعيل" قائده "عمر بن حدو البطيوي" بما معه من المتطوعة، وجيش أهل الريف، بالنزول من جديد على طنجة، وإحكام محاصرتها الحصار الشديد، ففتح من حصونها "قصبة مرشان" وهدم أبراجها، وخرب أسوارها، فوسع بذلك دائرة الاختراق، وأصبحت طنجة وقد "بلغ النهب حصونها ودورها".(15)
في هذه اللحظة انتقلت قيادة الجيوش المحاصرة لطنجة بالنيابة إلى القائد "علي بن عبد الله الريفي"(16)ليتابع عملية الحصار والتضييق على نصارى طنجة.
وحدث أن توفي القائد "عمر بن حدو" (17) الذي كان في رحلة إلى مكناس من أجل لقاء السلطان، فاستقل لذلك القائد "علي بن عبد الله" بقيادة جيوش الجهاد من المتطوعة، وجيش الريف، وولاه "السلطان المولى إسماعيل" على ما كان بيد سلفه من ولاية القصر الكبير، وتطوان، والفحص، وغمارة، وجدد فيه الثقة، وحضه على متابعة الحصار يبعث له بالامدادات المختلفة، مما يتجدد معها في كل مرة الأمل في الوصول إلى الفتح واستخلاص المدينة من النصارى المحتلين.
ويتعدد الوصف الذي يقدمه المؤرخون للأحداث التي أسفرت معها عملية الفتح عن استخلاص طنجة، وتحريرها من الأسر، الذي امتد إلى ما يقارب مائتين وثلاثين سنة.
1) فصاحب "زهر الأكم" يقدم صورة الفتح كاملة بما فيها شدة المواجهة، وقوة عزيمة المجاهدين في مصادمة قلاع الدفاع عن المدينة وأبراج الحماية، وإفشال كل محاولة إنجاد ومعاونة من البر أو البحر، فقد كان :" أمير المومنين أمر قائده "عمر بن حدو" المذكور بعد فتح ثغر المعمورة أن يرحل وينزل على مدينة طنجة، على من بها من الروم، فصار إليها في جمع عظيم من العساكر والمتطوعة، فنازلها، وحاصرها الحصار الشديد، إلى أن أخذ "قصبة مرشان"، وخرب سورها، وتلاحق السبي والنهب حصونها ودورها، واستأصل الكماة أرجاءها طولا وعرضا، وقد احتوى على سلاح فاخر، وأثاث وغرض، وطالما أقام المسلمون في الأخاديد كامنين، وما كانوا عن رماية الخزايا بآمنين، قد عم الله السرور سائر الإسلام، لما هدموا ما شيده الكفرة اللئام، فتلك منازلهم خاوية، فهل ترى لهم من باقية ؟ لقد أذعن الكفار بالذل والانكسار، لما علموا أن الحصر يلحق سورها والديار...
هذا والمنادي ينادي هلموا للبحر للأعادي، فتلاحقت باليم الجيوش، كأنهم أقمار وشموس، عارية الغيوث، فعلوا المراكب بالنبال والرصاص، وثخنوهم جرحا وقتلا، ولات حين مناص، فانقلبوا خاسرين مع ما راعهم من أخذ برج الصفيحة والبحر، علموا أنهم أصيبوا بالدمار والخسر، واحتوى على ما كان فيها الغزاة الأكرمون، وخلص الفحص للمسلمين، فياله من مشهد عظيم يوم الجمعة! عم فيه البلاء للكفر ! وفل جمعه، في الخامس والعشرون لربيع الثاني، خربت "قصبة مرشان"، و"برج الصفيحة"، و"برج البحر"، بعد أن هدمت قبل بروج أربعة...فشد عليها الحصار إلى أن دخلها المسلمون سنة 1095 هـ، وهبت على المسلمين نسائم النصر....".(18)
2) ويتحدث القادري في "النشر" عن الإمدادات التي كانت تتوجه إلى طنجة لتشديد قبضة الحصار، والإسراع بعملية الفتح، فيحدد أوقات ورود هذه الإمدادات، ويبين مصدر انطلاقها، ثم يصف في الأخير الكيفية التي استوى بها الفتح ودخول المجاهدين إلى طنجة، وهكذا ذكر أنه :" في الثاني من المحرم من عام خمسة وتسعين وألف وقع "البريح" بخروج الشرفاء والفقهاء والمرابطين يوم الأحد السادس من الشهر نفسه لطنجة بقصد حركة الجهاد، فأصبح ذلك اليوم حاكم البلاد مريضا هالكا.
ثم من الغد وجد بعض الراحة، وأمرهم بالخروج، فخرجوا، ووصلوا، وقضوا من الأجر وطرا.وفي آخر ربيع النبوي من العام رجع الشرفاء والفقهاء والمرابطون من طنجة وقد فازوا بأجر عظيم".(19)
ب – ويذكر أيضا أنه " في ثالث رجب العام (20) وقع البريح بالخروج للجهاد مع ولد السلطان مولاي زيدان، وفي ثاني عشر منه خرج الناس معه لطنجة، وفي ثالث عشر شوال رجعت المحلة التي كانت مع مولاي زيدان بطنجة".(21)
ج- ويتحدث أخيرا ضمن حوادث عام 1095 هـ عن استرجاع طنجة من يد النصارى فقال:"...ففي أول ربيع الأول اشتد الحصار على النصارى في قصبة طنجة فتركوها بعد أن هدموا دورها وجميع ما هو داخل سورها، وهربوا عنها، فأخذها المسلمون والحمد لله ، وشرع المسلمون في بناء سورها أول جمادى الأولى".(22)
3) ويقدم ابن زيدان في "المنزع اللطيف" صورة كاملة لعملية الفتح، يعتمد فيها على ما ورد عند القادري وغيره، فيصوغ منها مشهد الفتح، ويسرد أحداثه بالتتابع، فقد دخلت سنة 1095هـ والقائد علي بن عبد الله يحاصر طنجة:" فشمر على ساق، وشدد الحصار، ووالى الهجوم والقتال، وجعل الفتح نصب عينيه، وصيره ضالته المنشودة بعزم لا يطرق ساحته كلل، ولا ملل، والسلطان يوالي عليه الإمداد بجيوش المسلمين إلى أن هم بتوجيه الفقهاء والشرفاء وذوي الحيثيات، حتى إنه في يوم الأحد السادس من المحرم فاتح العام أعلن النداء بفاس بخروج العلماء والأشراف والمرابطين للجهاد في سبيل رب العالمين...وخرجوا كغيرهم في لفيف المسلمين، ولم تزل الجيوش تفد على القائد علي للرباط معه بكل قوة واستعداد ونجدة ونشاط إلى أن سدت في وجوه الأعداء سبل النجاة، ولحقهم من الرعب والفشل بسبب ذلك ما لم يلحقهم من الرمي بالقنابل والنبال، وطلبوا الخلاص، ولات حين مناص، فعمد النصارى إلى دور طنجة وهدموها، كما هدموا كل محل يهم في نظرهم، وتركوا طنجة بلاقع وركبوا سفنهم، وفروا ناجين بأنفسهم، ودخل المسلمون طنجة يوم الجمعة فاتح ربيع الأول من العام ...".(23)
ثانيا : فتح طنجة في الأدب:
على أن موقف الفتح هذا إن كان قد تم بهذه الصورة الجهادية المثيرة، فإنه قد صاحبته صيحة كبيرة من شعراء الفترة وكتابها تخلد هذا الحدث، وتعلن عن الابتهاج الذي حصل به للإسلام وللمغرب.
فقد تغنى بالفتح ووقائعه ونتائجه بعض الشعراء ممن شاركوا في هذا الفتح، وصنعوا مع بقية المجاهدين وقائعه وأحداثه، ورفعوا أصواتهم يسجلون البشرى بتخليص طنجة من أيادي الشرك، وظلام الأسر، ويعلنون عن فرحة الإسلام بهذه العملية التي استرجعت بها طنجة إلى الهدى وأهله.
1- فالقاضي أبو مروان عبد المالك التجموعتي(24) "ت 1118 هـ" يفتتح قصيدته، التي قالها بالمناسبة، برفع التهنئة إلى طنجة لخلاصها من الأسر، وعودتها إلى الإسلام في قوله:
يهنيك أن زدت الهدى بهجه
بثغرك الأشنب يا طنجة
وانفك أسراك وقد طالما
كنت بأيدي الشرك كالعلجه
ويتذكر بالمناسبة حدث ضياع طنجة وسقوطها بيد النصارى، فيتحدث عن الأقوام الذين أسلموها إلى الأعداء دون مقاومة كبيرة، فيحمل عليهم حملة شعراء، منددا بمواقفهم المخزية، وخذلائهم في الدفاع عن مدينة طنجة، والحفاظ على إسلاميتها:
سحقا لقوم أسلموك وهل
أسلم، قبل، مسلم زوجه
لكن إذا الغدر عادى التقى
يخذل منه فرده زوجه
ولأول مرة يعلو صوت صريح يحمل المسؤولية في احتلال طنجة لأمراء بني وطاس لتخاذلهم عن الدفاع عنها، واستنهاض الهمم لاستنقاذها واستخلاصها، بل لانصرافهم عنها إلى لهوهم وزهوهم وانشغالهم بمجالس سكرهم ونشوتهم، فلا يسمعون صريخها، ولا يعبأون بما أتت به الحملة النصرانية عليها من احتلال وعدوان وتقتيل:
وطاس عن (نار) الوطيس ونى
وآثرت أثرته لبنجـــه
نشوان لا يلوي على أحد
فكم أباد الشرك من مهجه
لم يستفق إلا وقد طمست
سكرته من الهدى نهـجـه
قد جرأ الشرك على الغرب من
زهو ولهو أنتـجـا هـرجـه
ويلتفت القاضي التجموعتي وهو في غمرة الانفعال بهذه الأحداث المثيرة إلى طنجة، فينقل إليها البشرى بما شملها من فتح، ويجدد تهنئتها بعودة الإسلام إليها، وإسراج أهله سرجه فيها:
يا طنجة الإسلام بشراك قد
أسرج فيك أهله سرجه
ولا ينسى – وهو يدعو لصانع هذا الفتح العظيم –" السلطان المولى إسماعيل " بارتقاء في مدارج التقوى، أن يلتفت من جديد إلى طنجة بنية الإسلام كما يسميها، فيدعو لها بالبقاء رباطا للجهاد، رافلة في الأمن واليمن مع الإيمان طول الزمان، لاسيما وقد كانت طنجة قبل وقوعها في الاحتلال النصراني دار علم ودراسة، وموطن إقراء كبير وشهير للقرآن وتلاوته:
أبقاه ربه طويل المدى
مرتقيا من التقى أوجه
وأنت للرباط تبقين إذ
فيك الرباط يعدل الحجه
كم من علوم عنك قد أخذت
ودرست بالبحث والحجه
والحصرى القرآن فيك تلا
بلهجة ما مثلها لهجه
بقيت في أمن ويمن مع الإيـ
ـمان ما تجددت حجه(25)
2- ويرد في "ديوان" الفقيه الشاعر محمد الرافعي التطواني (26)" كان حيا 1096 هـ" عدد من القصائد الثغرية التي تمجد أعمال المجاهدين في المرابطة على الثغور المحتلة من طرف النصارى، وتستنهض هممهم وعزائهم لمحاصرتها والتضييق عليها، والوصول بها إلى مرحلة الافتكاك من الأسر، وتحقيق الفتح لها، وقد كان الشاعر الرافعي من المرابطين المجاهدين الذين شاركوا فعليا في أعمال الحصار، ومعايشة لحظات فتح الثغور واستلامها، وبخاصة، فتغنى – وفي أكثر من قصيدة – بما تحقق مع هذا الفتح من مزايا، فينقل التهنئة والبشرى كما في قصيدته النونية:
هنيئا وبشرى بنيل المنى
وفتح سعيد أزال العنا
أنارت بشائره جهرة
ونصر من الله لاح لنا
وأهم هذه الذكريات هي التي تكون الأمة قد حققت فيه إنجازا وطنيا كبيرا، تقوم به وحدة الأمة في العقيدة والوطن والسياسة، وذلك:
- إما بتحصيل مواقف حاسمة نشأت عنها تحولات جذرية عميقة، أو بحدوث وقائع كان لها الحسم في الاختيار والاستقرار.
- وإما بتأكيد وضع من أوضاع الجهاد ومواجهة الأعداء، دفاعا عن مقومات الشخصية الوطنية، ووجودها، واستخلاصا لثغور وتحريرها، واستكمال الوحدة الترابية بها، فتضع حدا بالقوة والفعل لما يحمله هؤلاء الأعداء في الغزو والتسلط والمضايقة.
- وإما بتحقيق اختيار حضاري تترتب عليه مسيرة جديدة في حياة الأمة، فيتم لها ذلك من خلال اتخاذ مذهب فكري، أو توجه عقدي، أو اعتماد نموذج سياسي، تتحقق معه الاستحقاقات المرغوب فيها.
ويعرف المغرب على امتداد تاريخه الإسلامي تحقيق العديد من هذه الإنجازات الوطنية الكبرى، سواء مما تمثل في المعارك الكبيرة الحاسمة التي خاضها المغرب، كأحداث "معركة الزلاقة" و "الأرك"، و"وادي المخازن"....و "معركة المسيرة الخضراء"، وغيرها.
وكأحداث تحرير الثغور المحتلة واستنقاذها، أو تحقيق الاستقلال والتخلص من الاستعمار، وما رافق ذلك من مواقف أصبحت أنموذجا مثاليا في الصمود والتضحية.
وقد شاءت إرادة الله أن ترتبط أعمال الجهاد الكبرى ، التي عرفها المغرب في القرون الأربعة الأخيرة بمواقف سلاطين دولة الأشراف العلويين، مما حافظ المغرب فيها على شخصيته، ووحدة ترابه، وتحريره واستقلاله.
فقد كانت المواجهات الكبرى، التي حملتها ظروف الحملات النصرانية على المغرب من جهة، وحضور التسلط الاستعماري الذي حركته أطماع أوربا من جهة ثانية، عاملين فرضا على المغرب أن يكون ملوكه وشعوبه في وضع جهاد مستمر، ما إن تنتهي مواجهة حتى تتولد مواجهة أخرى، يخوض المعارك على اختلاف مستوياتها، ويواجه الزحف الاستعماري الذي يستهدفه.
وقد كان من هذه المواجهات الكبرى، ما حملته أعمال الجهاد التي قادها السلطان المجاهد "المولى إسماعيل" لتخليص الثغور المغربية، التي كان يحتلها نصارى الإسبان، والبرتغال، والإنجليز، في المعمورة، و طنجة، والعرائش، وأصيلا، وباديس، وسبتة.
وتميز من بينها "فتح مدينة طنجة"، إذ كان إصرار السلطان المولى إسماعيل قويا، وشديدا، في العمل على تحريرها، واستخلاصها من الاحتلال النصراني، بعد أن امتد هذا الاحتلال قرابة قرنين ونصف قرن من الزمن.
لذلك كان فتح طنجة إنجازا رائعا في تاريخ المغرب، وكانت وقائعه ومراحل أحداثه، التي استمرت أعمال الحصار والمواجهة فيها، أكثر من خمس سنوات، تمثل "ملحمة جهادية كبرى"، تبقى ذكرياتها وذكريات الأبطال الذين صنعوها – وفي طليعتهم السلطان المجاهد "المولى إسماعيل" –حية قائمة تذكرها الأجيال المتعاقبة، وتسترجع أجواءها في شكل احتفال، يقام سابع المولد النبوي من كل سنة، وهو وقت اقتحام المدينة ودخول المجاهدين إليها، فتجتمع الجموع بضريح الشيخ محمد الحاج البقالي الشهير بـ "أبو عراقية" "تـ 1130هـ" بطريق مرشان، وهو أحد المجاهدين المتطوعين الذين قدموا للمشاركة في الحصار والفتح، وتذبح الذبائح، ويطعم الطعام بالمناسبة.
وإذا كانت طنجة – وهي هدية دولة الأشراف العلويين للإسلام وللمغرب، المدينة التي استقطبت المجاهدين، واستنهضت الهمم لتحريرها من كل جهات المغرب، وذلك بعزيمة السلطان "المولى إسماعيل"، فكانت نموذجا للتحرير –فإن طنجة ستواصل رسالة الجهاد، لتبقى رباطا لتجميع المجاهدين، وستصبح مع حفيد "المولى إسماعيل"، "السلطان الصالح المجاهد سيدي محمد الخامس" طيب الله ثراه، منطلقا للدعوة إلى استقلال المغرب وتحريره من الحماية، وذلك في رحلة جلالته التاريخية إلى طنجة، والتي سجلت الخطاب التاريخي الحاسم يوم 9 أبريل عام 1947، الذي طالب فيه باستقلال المغرب.
وإذا كانت الوقائع التي صنعت الفتح قد أثارت المؤرخين، فسجلوا أحداثها الكبيرة والصغيرة، وتداولوها في كتاباتهم التاريخية، فرسموا المواقف فيها، وعددوا الروايات التي تتحدث عنها، والفصول التي تستوعبها فإن حدث الفتح في ذاته، قد أثار الفرحة العارمة في المغرب، وحرك السنة الشعراء والكتاب لوصف أحداث الفتح، والثناء على أبطاله، فانطلقت القصائد تمجد عمل الفتح، وتمدح صانعه السلطان المجاهد "المولى إسماعيل" ، قدس الله روحه.
وقد اعتبر "حدث الفتح" هذا عملا خارجا على العادة، وذلك للظروف الزمنية التي جرت فيها أحداثه، وللظروف النفسية والاجتماعية التي خلفها إنجازه بالنسبة للمغرب وبيئته آنذاك، فهو يأتي كأول مواجهة ناجحة بعد نكسة استمرت قرابة ثلاثة قرون، فلأول مرة ينهزم فيها العدو المحتل، ليتخلى عن مركز من مراكزه المهمة، ولأول مرة تنتزع منه بالقهر والغلبة، مدينة محصنة، رصد لها كل وسائل المناعة والدفاع، لذلك كان هذا الفتح يمثل الشيء الكثير بالنسبة للمغرب، قديما وحديثا، فزيادة على أنه عملية انتصار واسترجاع لحصن من الحصون المنيعة، فهو يمثل يقظة بعد هجعة وسكون، ويمثل استرجاع الثقة بالنفس في هذه المواجهة.
وبالنسبة لنا اليوم، فهو يمثل ذكرى طيبة، من مظاهرها تحقيق فوز كبير بهذه المدينة، التي لولا هذا الفتح لظلت طنجة كحال سبتة، ولكان للمغرب وجه آخر.
وهكذا سيكون الحديث على الفتح يشمل شقين اثنين :
أولهما : فتح طنجة في التاريخ.
وثانيهما : فتح طنجة في الأدب .
أولا: فتح طنجة في التاريخ :
إن أعمال فتح طنجة وقد امتدت مواجهاتها أكثر من خمس سنوات "1090 -1095" لم تكن أحداثها تجري بمحض الصدفة أو وقوع الحافر على الحافر، وإنما كانت تخطيطا محكما وضعه السلطان "المولى إسماعيل "،وانتدب له قوادا وجيوشا،من الوصفان،وقبائل الريف،والمتطوعة من كل جهات المغرب ،واستحكمه ذلك الإصرار المتشدد المتتابع بهدف إزالة الحواجز مرة تلو الأخرى،فقد كان الوصول إلى سور طنجة المدينة تحول دونه حواجز عديدة،تمثلها تلك الأبراج المحصنة الواقعة خارج السور في اطراف الفحص ،والتي يجري الاتصال بينها لتوالي الإمدادات وتداولها حسب الضغط ،مما يجعل المدينة وأسوارها دوما بعيدة عن أي تهديد .
ويبدو أن طنجة كانت من القوة والمنعة ،ما استعصى على طوائف المجاهدين من المتطوعة،وغيرهم –والذين تعاقبوا على حصارها منذ احتلالها –اقتحامها، فكانت من التحصن بالقصبات والأبراج أو ما عرف بالبساتين التي شيدت على أطراف فحصها ،مما بناه نصارى الانجليز في أيام الهدنة التي كانت بينهم وبين "الخضر غيلان".فقد حشر الانجليز فيها من جند وعتاد ما يجعل المدينة بعيدة التناول،آمنة من كل المحاولات الجهادية التي تتوجه إليها، أو الحصارات التي لا تجدي نفعا،فلا تصل آثارها إلى المدينة ،أو إلى دورها لعدم اقتراب المجاهدين منها ،وقيام البساتين والأبراج المذكورة حائلا دونها.
ولذلك كانت محاولات "فتح طنجة"غير يسيرة ،تطلبت تعبئة كبيرة ،من الجند والعزيمة،والسلاح،وصبرا طويلا تجلى فيه التنظيم المحكم للحصار ،والإصرار على الفتح،وملاحقة الإمدادات وتواليها.
ويمكننا أن نميز في العمليات، والوقائع التي استهدفت فتح طنجة وتحريرها ،وما رافق ذلك من أحداث، مرحلتين اثنين:
*المرحلة الأولى:
وهي التي تمت أحداثها سنة 1091للهجرة، وقد تمثلت فيها المحاولات الأولى في عملية الفتح، والتي استهدفت تكسير خط الدفاع المتقدم الذي يحمي حصن طنجة المدينة ،وذلك بمهاجمة بساتينه،واقتحام أبراجه،والسيطرة عليها .
ففي سنة 1091 أمر" السلطان المولى إسماعيل"القائد "عمر بن حدو الريفي"-وقد كان قائدا للقصر الكبير ومنطقة الشمال،منذ مقتل "الخضر غيلان "وانهزام ثورته عام 1084-أن يتوجه إلى محاصرة طنجة ،والضغط عليها بغية فتحها واسترجاعها،وقد هيأ له لتنفيذ ذلك جيشا قويا أسند إليه أمره ،ضم "جيش أهل الريف"و"المتطوعة"،فنزل"فحص طنجة"،وابتدأ الحصار والمناوشة .
ويتحدث المؤرخ محمد بن العياشي(1) في كتابه :"زهر البستان" عن هذه المحاولة الأولى،حينما يتحدث عامة عن المعاقل و الحصون التي فتحها الله على السلطان "المولى إسماعيل"،وألقى بأزمتها إليه،فيفيض في الحديث عن الكيفية التي استنزل بها المجاهدون بعض بساتين طنجة وافتتاحها ،ويعطي في ذلك وصفا شاملا للأحداث التي رافقت هذه المحاولات فيقول .
"من ذلك بساتين طنجة التي بناها"النصارى الانجليز"،في أيام الهدنة التي كانت بينهم وبين "غيلان"،فأمسى –أيده الله-،وله بالتصدي لها في أندية العدل،أرفع مكان،فأمر أيده الله كبير قواده: القائد عمر بن حدو بمنازلة الثغر المذكور ،ومناجزته والرباط فيه حتى يفتح الله عليه،وأسند إلى نظره جيش أهل الريف والمتطوعة من سائر الناس،فنازل البساتين المذكورة التي منها "قبة السلاطين"،" ومرشان"،و"دار البارود" ،وغيرها من البساتين ،وحاصرها من كل جهة ومكان ،حتى استفتحها ،واستولى على ما فيها، وبقي"حصن طنجة"نهبة للمسلمين ،تصل جيوشهم عند الغارة إلى سوره ،بعد ما كانوا في أمن بتلك البساتين ،من مفاجأة المسلمين،والغارة على سرحهم، مما أنشأوه من الرشق،الذي أحكموا تأنيق بعضه إلى بعض،بين تلك البساتين،ورصفوا بعضه في بعض كأنه بنيان مرصوص،ممتدا من البحر للبحر،في زمن الفترة،وتقلص ظل الخلافة ،حتى كانت تلك البساتين سورا لفحصهم من طنجة ،وراحة للنصارى في سرحهم وغدوهم ورواحهم،ينقلبون في هذا الفحص بخيولهم ورجلهم ،فقيض الله لهم بوجود المولى المنصور بالله،جيشا عرمرما إلى نظر القائد المذكور،ففض ختامهم ،واستنزلهم من معاقلهم،وفتح الله على يده تلك البساتين ،فبقي النصارى في "حصن طنجة" منكمشين،أحير من بقة في حقة، متخوفين، فجاء القائد المذكور بالفتح للمولى المنصور".(2) فقد كان اختراق هذا الحاجز من الأبراج والسيطرة على عدد منها إيذانا ببداية التهديد الحقيقي لحصن طنجة، وقلبا لموازين القوى، والتحكم فيها.
فقد كان نصارى طنجة آمنين بهذا السور من البساتين والأبراج يمتد من البحر، من جهة الشرق إلى جهة غرب المدينة، كأنه بنيان مرصوص ليقوم مسرحا لدوابهم وماشيتهم، تغدو به وتروح، فلا يمكن لقوة إن تحركت برا أن تصل إلى أسوار طنجة إلا باختراق هذا الحاجز، وتجاوزه، والتغلب على أبراجه.
بل إن نصارى طنجة بتلك البساتين قد أصبحوا في موطن قوة "يغيرون على من حولهم ومن هو قريب من جوارهم".(3)
وقد استخدم المجاهدون في ذلك كل وسائل الحرب الممكنة آنذاك من تفجير البارود، والحفر تحت الأسوار، وتوجيه مجاري المياه المنتفع بها، وغير ذلك، مع ما كان يتتابع من المدد المتجدد في كل لحظة، والذي يقذف بمآت المجاهدين من محلات الجيوش والمتطوعة إلى منطقة طنجة، مما تتسع معه مساحة الحصار، ويكبر به ميدان المعركة، ويميل به العزم إلى النصر وتحقيق عملية الفتح.
ويبدو أن محاولات هذه المرحلة قد كان لها شوط ثان، فأحداث هذا الفتح في سنة 1091 هـ قد تجددت بعد أن أخذت لحظة استراحة، فجدد فيها القائد عمر بن حدو الريفي محلته الجهادية ليعاود الكرة نحو نصارى طنجة، والضغط على حصنها العنيد لاستثمار مقدمات النصر، التي تحققت قبل بالاستيلاء على بعض البساتين والأبراج، والاحتفاظ بعناصر المبادرة في هذه المبارزة.
والملاحظ أنه قد تداخلت عند كثير من المؤرخين أحداث هذه المرحلة في شوطيها الأول والثاني، وإن تم تعيين بعض تواريخها باليوم والشهر في السنة المذكورة.
فقد أورد القادري في "النشر" سير أحداث الفتح التي تعرضت لها بساتين طنجة في عام 1091هـ فأرخها في الأوقات التالية:
أولا: ففي منتصف ربيع الثاني "وصل لفاس خبر أخذ المسلمين طنجة على يد قائد القصر عمر بن حدو البطيوي".(4)
وفيه ما يماثله في التقاط الدرر، غير أنه سمى المكان الذي جرى عليه الفتح "بقصبة طنجة".(5)
ثانيا: ثم في "جمادى الأولى اصطلح البطيوي مع النصارى، ووقعت الهدنة"(6)
ثالثا: و "في منتصف رمضان ورد خبر خروج النصارى من طنجة، وقاتلوا مع المسلمين، فمات من المسلمين أزيد من مائة.
وخرج من فاس رماة إلى طنجة بقصد الجهاد.
ثم ورد خبر موت في قتال في الجهاد، ثم ورد خبر قتال آخر فيه.
ثم ورد خبر قتال آخر كبير مات فيه كثير من المسلمين".(7)
وفي "التقاط الدرر" شبيه بهذا في أحداث سنة 1091 هـ.(
ولاشك أن أخبار هذه الأحداث وتتابعها تكشف عن شدة المواجهة وقوتها وتوالي الإمدادات للحفاظ على الامتياز في تسيير أحداث الفتح.
غير أن القادري وهو يوقت هذه الأحداث يجعل حدث الصلح وتوقيع الهدنة سابقا في الزمن على تلك الوقائع الضارية التي تكررت فيها المواجهة واستشهاد العديد من المجاهدين.
فهل تجددت الحرب في شهر رمضان بعد أن سبق توقيع الهدنة والصلح في شهر جمادى الأولى؟ أم أنها مجرد ذكر وقائع حدث بينها ما بعثر ترتيبها الزمني؟
أرجح أيضا أن خاتمة هذه المرحلة كان في حدث الصلح وإبرام عقد الهدنة بين القائد عمر بن حدو الريفي وبين نصارى الإنجليز بطنجة، لأننا نجد:
أ- أن أحداث التاريخ تتلاحق بانتقال القائد عمر بن حدو بمحلته من المجاهدين بأمر السلطان إلى المعمورة
للضغط عليها واستنفاذها من يد نصارى الإسبان، وقد تمكن من ذلك جيش المجاهدين حينما دخلها فاتحا بقيادة السلطان "المولى إسماعيل" الذي قدم إليها ليشهد ثمار الفتح بنفسه في ثالث عشر ربيع الثاني عام 1092 هـ.(9)
ب – أن تداخل أحداث فتح طنجة في هذه المرحلة الأولى قد جعل بعض المؤرخين يذكرون وقائعها ضمن أحداث عام 1090 للهجرة، فقد ختم ابن الحاج في "الدر المنتخب" حديثه عن أحداث هذه المرحلة بأن "كل ذلك في عام تسعين وألف...وفي رواية أن أخذ البساتين كان عام واحد وتسعين".(10)
ورغم أنه رجح أن تكون هذه الأحداث في عام 1091 هـ إلا أنه لا يبعد أن يكون بعضها مما وقع قبل، وعلى مشارف نهاية عام 1090هـ، والملاحظ أن القادري نفسه وهو يؤرخ لوقائع عام 1090 هـ في كتابه "التقاط الدرر" يورد هذا الخبر:"...وقوي الاجتهاد في إخراج الرماة، وفي رابع المحرم وقعت غزوة بطنجة، وأخذت قصبة لهم بأربعة أبراج".(11)
ويورد الناصري في "الاستقصا" بعض أحداث عام 1090 هـ فيذكر ما نصه :" وفي أواخر المحرم من هذه السنة أوقع جيش المسلمين بنصارى طنجة، فقتلوا منهم ثلاثمائة وخمسين، وانتزعوا منهم قصبة بأربعة أبراج، واستشهد من المسلمين نحو الخمسين رحمهم الله". (12)
وعلى كل، فترتيب أحداث الفتح في هذه المرحلة يكبر الاحتمال في انها قد امتدت خلال سنتي 90 والتي تليها، لتنتهي مع عقد الصلح الذي تم في جمادى الأولى عام 1091 هـ.
وقد تأتى سرد أحداث هذا الفتح في كل من "زهر البستان" و"الدر المنتخب"، وقد جاءت نهايتها طبيعية بانعقاد الصلح وإبرام الهدنة بين القائد المذكور ونصارى طنجة.
ففي "زهر البستان" يجري الحديث هكذا عن القائد عمر بن حدو بعد فتح بساتين طنجة المتقدم ذكرها بما نصه: "...وتلون عهد الاستراحة ورجع بملحة أخرى، -وأمره أيده الله- بمعاودة منازلتها، فتهيأ النصارى الإنجليز الذين بها لملاقاة المسلمين، وطلبوا الإغاثة من جيرانهم النصارى "صبنيول من عدوة الأندلس" عند تعذر إغاثتهم من إخوانهم الإنجليز لبعد ما بين طنجة و"جزيرة انغلطرة" فأغاثهم "اصبنيول" بطائفة من النصارى "أهل القبطجية" منهم، فخرجوا من حصن طنجة لمحاربة المسلمين، فثار المسلمون في وجوههم، وأمكن الله منهم بسيوف المسلمين، فقاتلوا قتالا ذريعا، ورجعوا لحصنهم منهزمين، وطلبوا من القائد المذكور أمانا على شروط اشترطها عليهم من فك أسارى المسلمين، ودفع بارود وعدة، وغير ذلك ما تحملوا مما يكبر عليهم دفعه لولا خوفهم من سطوة المولى المنصور، والتزموا دفع بارود وعدة، وأشهدوا على أنفسهم، وشهد عليهم بذلك القسيسون والرهبان، ورجع القائد المذكور بأجر وغنيمة"(13)
أما في "الدر المنتخب" فإنه يتابع خبر وقائع "فتح طنجة" بعد سقوط تلك البساتين بما نصه:"....وبقي النصارى في مدينة طنجة منحصرين، فبعث القائد المذكور بخبر فتح البساتين لأمير المومنين، فأمده بجيش من المجاهدين، وقال له : أدم الحصار على القوم الكافرين، فتهيأ النصارى "النجليز" الذين بها لملاقاة المسلمين وطلبوا من جيرانهم النصارى "صبنيول" بعدد كثير من الشجعان والأبطال، وخرجوا من طنجة لمحاربة المسلمين أهل الكمال، وتركهم المسلمون حتى ساروا من طنجة سيرا له بال، فرجع المسلمون عليهم، وتمكنت سيوف المسلمين منهم، وقتل من المسلمين نحو الخمسين، ومن الكفار ما يزيد على ثلاثمائة، ورجعوا منهزمين لطنجة حصنهم، وطلبوا من القائد المذكور الصلح، فشرط عليهم شروطا، من فك أسارى المسلمين، ودفع بارود، وعدة، مما يكبر دفعه عليهم، والتزموا أن يدفعوا ذلك كل عام، وشهد القسيسون بذلك مما التزموه، ورجع القائد المذكور بأجر وغنيمة".
وهكذا انتهت أحداث المرحلة الأولى من "فتح طنجة" بعقد الصلح الذي أبرم عام 1097 هـ لتتحول محلة المجاهدين إلى حلق "وادي سبو" لافتتاح "حصن المعمورة".(14)
وإذا كانت أحداث هذه المرحلة – رغم عنائها وشدتها – لم تثمر ظاهريا سوى إزاحة بعض الأبراج، والاستحواذ على الغنائم التي التزم بها عقد الصلح، فإنها في العمق قد هيأت لعمليات الفتح الحاسمة التي ستشهدها فيما بعد الثغور المغربية الواقعة تحت قبضة النصارى.
إن نتائج أحداث هذه المرحلة قد أرست ظروف الاستقرار النفسي عند جيوش المغرب، وأعطت لها الثقة بجدوى العمل الجهادي، وذلك برد الاعتبار للمحلة المغربية كي يصبح الخصم النصراني أمامها للمرة الأولى في موقف ضعف، يذعن للشروط ويقبلها.
ولا شك أن هذا سيكون من العوامل المحفزة للمحلة المغربية على تكرار مثل هذا العمل الجهادي، والدخول في تجربة جديدة لمحاصرة بقية الثغور المحتلة.
لقد أزاح اختراق حاجز أبراج طنجة حواجز نفسية كثيرة كانت تثبط أعمال الجهاد، وتحول دون الوصول به إلى الفوز.
وأخيرا تعلم المجاهدون من كل هذا كيف يمكنهم كسب معركة حصار الحصون والقلاع.
* المرحلة الثانية:
وهي التي أثمرت "فتح طنجة" بصفة نهاية عام 1095 للهجرة، وتبدأ هذه المرحلة غداة فتح المعمورة سنة 1092 هـ حينما أمر "السلطان المولى إسماعيل" قائده "عمر بن حدو البطيوي" بما معه من المتطوعة، وجيش أهل الريف، بالنزول من جديد على طنجة، وإحكام محاصرتها الحصار الشديد، ففتح من حصونها "قصبة مرشان" وهدم أبراجها، وخرب أسوارها، فوسع بذلك دائرة الاختراق، وأصبحت طنجة وقد "بلغ النهب حصونها ودورها".(15)
في هذه اللحظة انتقلت قيادة الجيوش المحاصرة لطنجة بالنيابة إلى القائد "علي بن عبد الله الريفي"(16)ليتابع عملية الحصار والتضييق على نصارى طنجة.
وحدث أن توفي القائد "عمر بن حدو" (17) الذي كان في رحلة إلى مكناس من أجل لقاء السلطان، فاستقل لذلك القائد "علي بن عبد الله" بقيادة جيوش الجهاد من المتطوعة، وجيش الريف، وولاه "السلطان المولى إسماعيل" على ما كان بيد سلفه من ولاية القصر الكبير، وتطوان، والفحص، وغمارة، وجدد فيه الثقة، وحضه على متابعة الحصار يبعث له بالامدادات المختلفة، مما يتجدد معها في كل مرة الأمل في الوصول إلى الفتح واستخلاص المدينة من النصارى المحتلين.
ويتعدد الوصف الذي يقدمه المؤرخون للأحداث التي أسفرت معها عملية الفتح عن استخلاص طنجة، وتحريرها من الأسر، الذي امتد إلى ما يقارب مائتين وثلاثين سنة.
1) فصاحب "زهر الأكم" يقدم صورة الفتح كاملة بما فيها شدة المواجهة، وقوة عزيمة المجاهدين في مصادمة قلاع الدفاع عن المدينة وأبراج الحماية، وإفشال كل محاولة إنجاد ومعاونة من البر أو البحر، فقد كان :" أمير المومنين أمر قائده "عمر بن حدو" المذكور بعد فتح ثغر المعمورة أن يرحل وينزل على مدينة طنجة، على من بها من الروم، فصار إليها في جمع عظيم من العساكر والمتطوعة، فنازلها، وحاصرها الحصار الشديد، إلى أن أخذ "قصبة مرشان"، وخرب سورها، وتلاحق السبي والنهب حصونها ودورها، واستأصل الكماة أرجاءها طولا وعرضا، وقد احتوى على سلاح فاخر، وأثاث وغرض، وطالما أقام المسلمون في الأخاديد كامنين، وما كانوا عن رماية الخزايا بآمنين، قد عم الله السرور سائر الإسلام، لما هدموا ما شيده الكفرة اللئام، فتلك منازلهم خاوية، فهل ترى لهم من باقية ؟ لقد أذعن الكفار بالذل والانكسار، لما علموا أن الحصر يلحق سورها والديار...
هذا والمنادي ينادي هلموا للبحر للأعادي، فتلاحقت باليم الجيوش، كأنهم أقمار وشموس، عارية الغيوث، فعلوا المراكب بالنبال والرصاص، وثخنوهم جرحا وقتلا، ولات حين مناص، فانقلبوا خاسرين مع ما راعهم من أخذ برج الصفيحة والبحر، علموا أنهم أصيبوا بالدمار والخسر، واحتوى على ما كان فيها الغزاة الأكرمون، وخلص الفحص للمسلمين، فياله من مشهد عظيم يوم الجمعة! عم فيه البلاء للكفر ! وفل جمعه، في الخامس والعشرون لربيع الثاني، خربت "قصبة مرشان"، و"برج الصفيحة"، و"برج البحر"، بعد أن هدمت قبل بروج أربعة...فشد عليها الحصار إلى أن دخلها المسلمون سنة 1095 هـ، وهبت على المسلمين نسائم النصر....".(18)
2) ويتحدث القادري في "النشر" عن الإمدادات التي كانت تتوجه إلى طنجة لتشديد قبضة الحصار، والإسراع بعملية الفتح، فيحدد أوقات ورود هذه الإمدادات، ويبين مصدر انطلاقها، ثم يصف في الأخير الكيفية التي استوى بها الفتح ودخول المجاهدين إلى طنجة، وهكذا ذكر أنه :" في الثاني من المحرم من عام خمسة وتسعين وألف وقع "البريح" بخروج الشرفاء والفقهاء والمرابطين يوم الأحد السادس من الشهر نفسه لطنجة بقصد حركة الجهاد، فأصبح ذلك اليوم حاكم البلاد مريضا هالكا.
ثم من الغد وجد بعض الراحة، وأمرهم بالخروج، فخرجوا، ووصلوا، وقضوا من الأجر وطرا.وفي آخر ربيع النبوي من العام رجع الشرفاء والفقهاء والمرابطون من طنجة وقد فازوا بأجر عظيم".(19)
ب – ويذكر أيضا أنه " في ثالث رجب العام (20) وقع البريح بالخروج للجهاد مع ولد السلطان مولاي زيدان، وفي ثاني عشر منه خرج الناس معه لطنجة، وفي ثالث عشر شوال رجعت المحلة التي كانت مع مولاي زيدان بطنجة".(21)
ج- ويتحدث أخيرا ضمن حوادث عام 1095 هـ عن استرجاع طنجة من يد النصارى فقال:"...ففي أول ربيع الأول اشتد الحصار على النصارى في قصبة طنجة فتركوها بعد أن هدموا دورها وجميع ما هو داخل سورها، وهربوا عنها، فأخذها المسلمون والحمد لله ، وشرع المسلمون في بناء سورها أول جمادى الأولى".(22)
3) ويقدم ابن زيدان في "المنزع اللطيف" صورة كاملة لعملية الفتح، يعتمد فيها على ما ورد عند القادري وغيره، فيصوغ منها مشهد الفتح، ويسرد أحداثه بالتتابع، فقد دخلت سنة 1095هـ والقائد علي بن عبد الله يحاصر طنجة:" فشمر على ساق، وشدد الحصار، ووالى الهجوم والقتال، وجعل الفتح نصب عينيه، وصيره ضالته المنشودة بعزم لا يطرق ساحته كلل، ولا ملل، والسلطان يوالي عليه الإمداد بجيوش المسلمين إلى أن هم بتوجيه الفقهاء والشرفاء وذوي الحيثيات، حتى إنه في يوم الأحد السادس من المحرم فاتح العام أعلن النداء بفاس بخروج العلماء والأشراف والمرابطين للجهاد في سبيل رب العالمين...وخرجوا كغيرهم في لفيف المسلمين، ولم تزل الجيوش تفد على القائد علي للرباط معه بكل قوة واستعداد ونجدة ونشاط إلى أن سدت في وجوه الأعداء سبل النجاة، ولحقهم من الرعب والفشل بسبب ذلك ما لم يلحقهم من الرمي بالقنابل والنبال، وطلبوا الخلاص، ولات حين مناص، فعمد النصارى إلى دور طنجة وهدموها، كما هدموا كل محل يهم في نظرهم، وتركوا طنجة بلاقع وركبوا سفنهم، وفروا ناجين بأنفسهم، ودخل المسلمون طنجة يوم الجمعة فاتح ربيع الأول من العام ...".(23)
ثانيا : فتح طنجة في الأدب:
على أن موقف الفتح هذا إن كان قد تم بهذه الصورة الجهادية المثيرة، فإنه قد صاحبته صيحة كبيرة من شعراء الفترة وكتابها تخلد هذا الحدث، وتعلن عن الابتهاج الذي حصل به للإسلام وللمغرب.
فقد تغنى بالفتح ووقائعه ونتائجه بعض الشعراء ممن شاركوا في هذا الفتح، وصنعوا مع بقية المجاهدين وقائعه وأحداثه، ورفعوا أصواتهم يسجلون البشرى بتخليص طنجة من أيادي الشرك، وظلام الأسر، ويعلنون عن فرحة الإسلام بهذه العملية التي استرجعت بها طنجة إلى الهدى وأهله.
1- فالقاضي أبو مروان عبد المالك التجموعتي(24) "ت 1118 هـ" يفتتح قصيدته، التي قالها بالمناسبة، برفع التهنئة إلى طنجة لخلاصها من الأسر، وعودتها إلى الإسلام في قوله:
يهنيك أن زدت الهدى بهجه
بثغرك الأشنب يا طنجة
وانفك أسراك وقد طالما
كنت بأيدي الشرك كالعلجه
ويتذكر بالمناسبة حدث ضياع طنجة وسقوطها بيد النصارى، فيتحدث عن الأقوام الذين أسلموها إلى الأعداء دون مقاومة كبيرة، فيحمل عليهم حملة شعراء، منددا بمواقفهم المخزية، وخذلائهم في الدفاع عن مدينة طنجة، والحفاظ على إسلاميتها:
سحقا لقوم أسلموك وهل
أسلم، قبل، مسلم زوجه
لكن إذا الغدر عادى التقى
يخذل منه فرده زوجه
ولأول مرة يعلو صوت صريح يحمل المسؤولية في احتلال طنجة لأمراء بني وطاس لتخاذلهم عن الدفاع عنها، واستنهاض الهمم لاستنقاذها واستخلاصها، بل لانصرافهم عنها إلى لهوهم وزهوهم وانشغالهم بمجالس سكرهم ونشوتهم، فلا يسمعون صريخها، ولا يعبأون بما أتت به الحملة النصرانية عليها من احتلال وعدوان وتقتيل:
وطاس عن (نار) الوطيس ونى
وآثرت أثرته لبنجـــه
نشوان لا يلوي على أحد
فكم أباد الشرك من مهجه
لم يستفق إلا وقد طمست
سكرته من الهدى نهـجـه
قد جرأ الشرك على الغرب من
زهو ولهو أنتـجـا هـرجـه
ويلتفت القاضي التجموعتي وهو في غمرة الانفعال بهذه الأحداث المثيرة إلى طنجة، فينقل إليها البشرى بما شملها من فتح، ويجدد تهنئتها بعودة الإسلام إليها، وإسراج أهله سرجه فيها:
يا طنجة الإسلام بشراك قد
أسرج فيك أهله سرجه
ولا ينسى – وهو يدعو لصانع هذا الفتح العظيم –" السلطان المولى إسماعيل " بارتقاء في مدارج التقوى، أن يلتفت من جديد إلى طنجة بنية الإسلام كما يسميها، فيدعو لها بالبقاء رباطا للجهاد، رافلة في الأمن واليمن مع الإيمان طول الزمان، لاسيما وقد كانت طنجة قبل وقوعها في الاحتلال النصراني دار علم ودراسة، وموطن إقراء كبير وشهير للقرآن وتلاوته:
أبقاه ربه طويل المدى
مرتقيا من التقى أوجه
وأنت للرباط تبقين إذ
فيك الرباط يعدل الحجه
كم من علوم عنك قد أخذت
ودرست بالبحث والحجه
والحصرى القرآن فيك تلا
بلهجة ما مثلها لهجه
بقيت في أمن ويمن مع الإيـ
ـمان ما تجددت حجه(25)
2- ويرد في "ديوان" الفقيه الشاعر محمد الرافعي التطواني (26)" كان حيا 1096 هـ" عدد من القصائد الثغرية التي تمجد أعمال المجاهدين في المرابطة على الثغور المحتلة من طرف النصارى، وتستنهض هممهم وعزائهم لمحاصرتها والتضييق عليها، والوصول بها إلى مرحلة الافتكاك من الأسر، وتحقيق الفتح لها، وقد كان الشاعر الرافعي من المرابطين المجاهدين الذين شاركوا فعليا في أعمال الحصار، ومعايشة لحظات فتح الثغور واستلامها، وبخاصة، فتغنى – وفي أكثر من قصيدة – بما تحقق مع هذا الفتح من مزايا، فينقل التهنئة والبشرى كما في قصيدته النونية:
هنيئا وبشرى بنيل المنى
وفتح سعيد أزال العنا
أنارت بشائره جهرة
ونصر من الله لاح لنا
وتختص "قصيدته الحائية" بوصف حصار طنجة، ورباط المجاهدين عليها، وتسجيل فروسية جيوش المغاربة في اقتحامهم أبراج المدينة، وتحريرها واسترجاع، وتعلن عن الفرحة العارمة التي غمرت الناس في المغرب بمناسبة هذا الفتح، كما في قوله:
هنيئا وبشرى يا سراة بأنجم
علت في ذرى الأفلاك بالخير والصلاح
سمت ملة الإسلام لما تضعضعت
معاقل كفر بالصواعق والصفاح
وجاشت جيوش في أباطح طنجة
ونادى منادي الجيش حي على الفلاح
وسار لنا الفتح السعيد لطنجة
فياله من فتح وياله من نجاح
وهي قصيدة طويلة يتمثل فيها الشاعر ظروف الاستعداد للجهاد، وتعبئة المجاهدين وإصرارهم لأجل الفتح، فيتحقق ذلك، ويكبر معه زهو النصر، فيستيقظ في النفوس الأمل لبعث مغرب العهود الزاهرة، ويتولد معه شعور باسترجاع الأندلس من جديد:
فنسأل مولانا الجزيرة مسكنا
وفتحا يكون للعباد به صلاح
وإذا كانت مسألة استرجاع الأندلس قد أيقظها فتح طنجة، فأصبحت نغما في أشعار الذين مجدوا فتوحات السلطان "المولى إسماعيل" في بقية الثغور المغربية المحتلة، وبخاصة في تحرير مدينة العرائش (عام 1102هـ)، كما في قصيدة "الشيخ عبد الواحد البوعناني"(27) بالمناسبة :
أيا مولاي قم وانهض وشمر
لأندلس، فأنت لها الأمير
وجاهدهم وحاربهم وفرق
جموعهم فربكم النصير
ولا يمنع بفضل الله منها
كما قد قيل، بر أو بحور
لسان الحال ينشد كل يوم
ومعنى الحال تفهمه الصدور
بقرطبة تنال المجد طرا
ويأتي العز والملك الكبير
فإن حدث الفتح الذي مثله استرجاع طنجة وقد ولد شعورا عاما بضرورة التعبئة لمتابعة فتح بقية الثغور المحتلة، ولتتحول طنجة بذلك إلى مجمع للمجاهدين، ومعسكر للمرابطين لتنطلق منها بقية الأعمال الجهادية الأخرى.
ولذلك كان النجاح في عملية استرجاع طنجة بداية لعهد تستوي فيه الشخصية المغربية، وتعود إليها ثقتها وإيمانها، فأكثر الشعراء من الحديث على فتح طنجة، ومن التهنئة بهذا الفتح الذي ما كان ليعدله إلا فتح سبتة لو أنه تحقق.
3) ونجد الشاعر "أبا عسرية الفاسي القصري"(28) "ت 1117هـ"، وقد صاغ رائعته القافية،(29) يمجد هذا الفتح وما تحقق معه، ويثني على المجاهدين القائمين بالحق لأجل التحرير، فيمدح السلطان المجاهد "المولى إسماعيل"، ويمدح بعض رجاله ممن كانوا في طليعة الجيوش الفاتحة.
ولروعة هذا الفتح وشدة وقعه في النفوس، وما أحدثه من رجة فيها، نجد الشاعر "أبا عسرية" يمتلكه الموقف بعمقه وشعوره، فيمزج فيه سكرة الفرح بسكرة الخمر. ويتجاوز في ذلك ما يختلط به الأمر في الحالتين، فيخلع العذار، ويعلن عن نشوته، إذ يفتتح قصيدته بوصف الراح ومجالسها وساقيها، ليكون الموقف أكثر انفعالا وأشد تأثيرا، فيقول:
أعرف المسك أم ريح التراقي
تضوع بين أخلاط الرفاق
أم الصهباء قد عبقت غبوقا
من الدّنّ المقدّم بالرواق
أزاح ختامها ظبي رخيم
رشيق القد بابلي المآقي
وناولها على الأرواح صرفا
معتقة بكاسات دهاق
فصرنا من نسائمها ملوكا
نشاوى في اصطباح واغتباق
ذروني إن خلعت بها عذاري
فليس لنا سوى المحبوب ساق
ثم يخلص للحديث عن المجاهدين وفعلهم في فتح الثغور، وقهر الكفر، وبخاصة في اقتحام "حصن مرشان"، وما بجانبه من "الأبراج" التي أعدها العدو للمراقبة والدفاع:
فكم من معقل للكفر هدوا
منيع لا يساوم باللحاق
كمرشان الشهير وما يليه
من الأبراج والأطم الغماق
ولاشك أن طنجة بهذه الحصون والأبراج المنيعة المحدقة بها، قد أصبحت في مأمن من أي أذى يمكن أن يتوجه إليها، أو هجوم بري يمكن أن يستهدف أسوارها وأبوابها، فكانت المدينة من المنعة والقوة ما جعلها في موقع المتحكم في المنطقة، لا يهددها ضغط المجاهدين الذي توالى عليها منذ أول يوم وقعت فيه فريسة للاحتلال النصراني.
ولكي تبرز القيمة الحقيقية لفتح طنجة، وما أنجزه المجاهدون من عمل بطولي في اقتحام أسوارها، كان على الشاعر أن يتمثل صورة طنجة باعتبارها مركزا قويا في المنطقة، بحصونها، وجبروتها، وعدوانيتها، تحول مناعتها وقوتها دون إنجازات المجاهدين المتواصلة، ولذلك صور طنجة وقد أصبحت تمثل العناد والشقاق، أو تمثل الداء العضال الذي استعصى على العلاج:
وهل بالغرب أو بالشرق ثغر
كطنجة في عناد أو شقاق
غدت في ملتقى البحرين داء
عضالا، لا لذاك الداء راق
وحاول فتحها قدما أناس
ففرق سوقهم قبل النفــاق
ولم تظفر بها إلا أسود
أجمتها من الأسل الرشاق
ولهذا عم بفتحها الثناء الواسع على السلطان المجاهد "المولى إسماعيل"، وقد هيأ بهذا الفتح نصرا كبيرا للإسلام، يسري صداه في أرض العروبة والإسلام من السوس إلى العراق:
وأرض الله قد ملئت ثناء
من السوس البعيد إلى العراق
على مولاي إسماعيل من قد
تسنم قدره أعلى المراقي
هزبر ألبس الإسلام عزا
وألبس ضده ثوب المحاق
وجدل عصبة الإلحاد قهرا
وعمر بالهدى أرض النفاق
وصير آية الرحمان تتلى
بدور المشركين على الرفاق
وتعلو نبرة الفتح بالقهر والغلبة في هذه الأشعار لتحمل إصرار المجاهدين على الفتح ومتابعته، وشحذ النفوس وتهيئتها وتعبئتها لاسترجاع بقية الثغور، ولذلك لا غرابة في أن يستيقظ في النفوس ما نومه امتداد القرنين السالفين من مأساة ضياع الأندلس وغياب الإسلام عنها.
وتتحرك في أعماق هذه القصائد الثغرية جدلية الإفراغ والتعمير، والتقتيل والإحياء، فيتهدم الشرك وحصونه، وينمحق الكفر وأهله، ليعم كل ذلك عمران الهدى، وبناء الإسلام.
وقد تردد هذا النغم أيضا في الثغريات التي رافقت أحداث فتح المعمورة من قبل، كما في قول "الشيخ عبد الواحد البوعناني" يهنئ "المولى إسماعيل" بهذا الفتح.(30)
لمولاي إسماعيل عز ورفعة
وآثارها عند الخليفة فاشيه
به أصبح الإسلام يعلو مناره
ومعمورة الكفار بالسيف خاليه
فلم يك ذا، والله ، قبل ،وإنما
له الله قد أعطى الفتوح علانيه
وتلك من الرحمن جل جلاله
مواهب لا تفنى ولا متناهيه
وسيرد هذا النغم وبشكل واسع في بقية الثغريات التي قيلت بمناسبة فتح العرائش (31) واسترجاعها.
هنيئا وبشرى يا سراة بأنجم
علت في ذرى الأفلاك بالخير والصلاح
سمت ملة الإسلام لما تضعضعت
معاقل كفر بالصواعق والصفاح
وجاشت جيوش في أباطح طنجة
ونادى منادي الجيش حي على الفلاح
وسار لنا الفتح السعيد لطنجة
فياله من فتح وياله من نجاح
وهي قصيدة طويلة يتمثل فيها الشاعر ظروف الاستعداد للجهاد، وتعبئة المجاهدين وإصرارهم لأجل الفتح، فيتحقق ذلك، ويكبر معه زهو النصر، فيستيقظ في النفوس الأمل لبعث مغرب العهود الزاهرة، ويتولد معه شعور باسترجاع الأندلس من جديد:
فنسأل مولانا الجزيرة مسكنا
وفتحا يكون للعباد به صلاح
وإذا كانت مسألة استرجاع الأندلس قد أيقظها فتح طنجة، فأصبحت نغما في أشعار الذين مجدوا فتوحات السلطان "المولى إسماعيل" في بقية الثغور المغربية المحتلة، وبخاصة في تحرير مدينة العرائش (عام 1102هـ)، كما في قصيدة "الشيخ عبد الواحد البوعناني"(27) بالمناسبة :
أيا مولاي قم وانهض وشمر
لأندلس، فأنت لها الأمير
وجاهدهم وحاربهم وفرق
جموعهم فربكم النصير
ولا يمنع بفضل الله منها
كما قد قيل، بر أو بحور
لسان الحال ينشد كل يوم
ومعنى الحال تفهمه الصدور
بقرطبة تنال المجد طرا
ويأتي العز والملك الكبير
فإن حدث الفتح الذي مثله استرجاع طنجة وقد ولد شعورا عاما بضرورة التعبئة لمتابعة فتح بقية الثغور المحتلة، ولتتحول طنجة بذلك إلى مجمع للمجاهدين، ومعسكر للمرابطين لتنطلق منها بقية الأعمال الجهادية الأخرى.
ولذلك كان النجاح في عملية استرجاع طنجة بداية لعهد تستوي فيه الشخصية المغربية، وتعود إليها ثقتها وإيمانها، فأكثر الشعراء من الحديث على فتح طنجة، ومن التهنئة بهذا الفتح الذي ما كان ليعدله إلا فتح سبتة لو أنه تحقق.
3) ونجد الشاعر "أبا عسرية الفاسي القصري"(28) "ت 1117هـ"، وقد صاغ رائعته القافية،(29) يمجد هذا الفتح وما تحقق معه، ويثني على المجاهدين القائمين بالحق لأجل التحرير، فيمدح السلطان المجاهد "المولى إسماعيل"، ويمدح بعض رجاله ممن كانوا في طليعة الجيوش الفاتحة.
ولروعة هذا الفتح وشدة وقعه في النفوس، وما أحدثه من رجة فيها، نجد الشاعر "أبا عسرية" يمتلكه الموقف بعمقه وشعوره، فيمزج فيه سكرة الفرح بسكرة الخمر. ويتجاوز في ذلك ما يختلط به الأمر في الحالتين، فيخلع العذار، ويعلن عن نشوته، إذ يفتتح قصيدته بوصف الراح ومجالسها وساقيها، ليكون الموقف أكثر انفعالا وأشد تأثيرا، فيقول:
أعرف المسك أم ريح التراقي
تضوع بين أخلاط الرفاق
أم الصهباء قد عبقت غبوقا
من الدّنّ المقدّم بالرواق
أزاح ختامها ظبي رخيم
رشيق القد بابلي المآقي
وناولها على الأرواح صرفا
معتقة بكاسات دهاق
فصرنا من نسائمها ملوكا
نشاوى في اصطباح واغتباق
ذروني إن خلعت بها عذاري
فليس لنا سوى المحبوب ساق
ثم يخلص للحديث عن المجاهدين وفعلهم في فتح الثغور، وقهر الكفر، وبخاصة في اقتحام "حصن مرشان"، وما بجانبه من "الأبراج" التي أعدها العدو للمراقبة والدفاع:
فكم من معقل للكفر هدوا
منيع لا يساوم باللحاق
كمرشان الشهير وما يليه
من الأبراج والأطم الغماق
ولاشك أن طنجة بهذه الحصون والأبراج المنيعة المحدقة بها، قد أصبحت في مأمن من أي أذى يمكن أن يتوجه إليها، أو هجوم بري يمكن أن يستهدف أسوارها وأبوابها، فكانت المدينة من المنعة والقوة ما جعلها في موقع المتحكم في المنطقة، لا يهددها ضغط المجاهدين الذي توالى عليها منذ أول يوم وقعت فيه فريسة للاحتلال النصراني.
ولكي تبرز القيمة الحقيقية لفتح طنجة، وما أنجزه المجاهدون من عمل بطولي في اقتحام أسوارها، كان على الشاعر أن يتمثل صورة طنجة باعتبارها مركزا قويا في المنطقة، بحصونها، وجبروتها، وعدوانيتها، تحول مناعتها وقوتها دون إنجازات المجاهدين المتواصلة، ولذلك صور طنجة وقد أصبحت تمثل العناد والشقاق، أو تمثل الداء العضال الذي استعصى على العلاج:
وهل بالغرب أو بالشرق ثغر
كطنجة في عناد أو شقاق
غدت في ملتقى البحرين داء
عضالا، لا لذاك الداء راق
وحاول فتحها قدما أناس
ففرق سوقهم قبل النفــاق
ولم تظفر بها إلا أسود
أجمتها من الأسل الرشاق
ولهذا عم بفتحها الثناء الواسع على السلطان المجاهد "المولى إسماعيل"، وقد هيأ بهذا الفتح نصرا كبيرا للإسلام، يسري صداه في أرض العروبة والإسلام من السوس إلى العراق:
وأرض الله قد ملئت ثناء
من السوس البعيد إلى العراق
على مولاي إسماعيل من قد
تسنم قدره أعلى المراقي
هزبر ألبس الإسلام عزا
وألبس ضده ثوب المحاق
وجدل عصبة الإلحاد قهرا
وعمر بالهدى أرض النفاق
وصير آية الرحمان تتلى
بدور المشركين على الرفاق
وتعلو نبرة الفتح بالقهر والغلبة في هذه الأشعار لتحمل إصرار المجاهدين على الفتح ومتابعته، وشحذ النفوس وتهيئتها وتعبئتها لاسترجاع بقية الثغور، ولذلك لا غرابة في أن يستيقظ في النفوس ما نومه امتداد القرنين السالفين من مأساة ضياع الأندلس وغياب الإسلام عنها.
وتتحرك في أعماق هذه القصائد الثغرية جدلية الإفراغ والتعمير، والتقتيل والإحياء، فيتهدم الشرك وحصونه، وينمحق الكفر وأهله، ليعم كل ذلك عمران الهدى، وبناء الإسلام.
وقد تردد هذا النغم أيضا في الثغريات التي رافقت أحداث فتح المعمورة من قبل، كما في قول "الشيخ عبد الواحد البوعناني" يهنئ "المولى إسماعيل" بهذا الفتح.(30)
لمولاي إسماعيل عز ورفعة
وآثارها عند الخليفة فاشيه
به أصبح الإسلام يعلو مناره
ومعمورة الكفار بالسيف خاليه
فلم يك ذا، والله ، قبل ،وإنما
له الله قد أعطى الفتوح علانيه
وتلك من الرحمن جل جلاله
مواهب لا تفنى ولا متناهيه
وسيرد هذا النغم وبشكل واسع في بقية الثغريات التي قيلت بمناسبة فتح العرائش (31) واسترجاعها.
******
(1) هو محمد بن العياشي المكناسي، توفي عام 1139هـ.ترجمته في : الإنحاف : 4/100 – 105- المصادر للمنوني : 1 / 179. واسم كتابي بالكامل هو : زهر البستان في أخبار أحوال مولانا زيدان
(2) زهر البستان 70 أ.
(3) الدرر المنتخب 6/139.
(4) راجع النشر 2/295.
(5) راجع التقاط الدرر:221.
(6) النشر 2/295
(7) النشر 2/296.
( راجع / التقاط الدرر : 222.
(9) راجع عن أحداث فتح المعمورة في : زهر البستان : 71 أ – نشر المثاني 2/301 وزهر الأكم : للريفي 177 –الدرر المنتخب : 6/153 – الاستقصا : 7/63 – المنزع اللطيف : 134 وما بعدها.
(10) الدرر المنتخب : 6/216.
(11) التقاط الدرر : 216.
(12) الاستقصا : 7/61.
(13) زهر البستان : 70 ب.
(14) الدرر المنتخب : 6/140
(15) الدرر المنتخب : 6/157
(16) ظل قائدا على منطقة الشمال واليا على طنجة وتطوان والقصر الكبير، وتكلف بقيادة المجاهدين في "فتح طنجة" و"العرائش" و"محاصرة سبتة". توفي عام 1125 /راجع / ترجمته في النشر 3/216 – تاريخ تطوان : 1/258.
(17) ترجمته وأخباره في : الدر المنتخب : 6/157 – زهر الأكم 8 للريفي : 182 وزهر البستان : 71 - تاريخ تطوان : 1/254.
(18) زهر الأكم : للريفي : 180 وما بعدها.
(19) نشر المثاني : 8/323.
(20) هكذا في "النشر" ضمن حوادث سنة 1095هـ. إلا أنه في شهر رجب من عام 1095هـ كانت عملية الجهاد في طنجة قد انتهت، واسترجعت المدينة. ولذلك فلا معنى لبعث الإمدادات إلى طنجة وهي بين أيدي المجاهدين، والراجع أن ثالث رجب يكون من عام 1094هـ.
(21) نشر المثاني : 2/324.
(22) نشر المثاني : 2/322.
(23) المنزع اللطيف : 138 / نفس هذا التاريخ ورد عند القادري في التقاط الدرر : 230 / غير أن الأفراني يحدد تاريخ الفتح بشهر الثاني من عام 1095 /راجع /نزهة الحادي : 306.
(24) تنظر ترجمته في :نشر المثاني : 3/162 –الإعلام : للمراكشي 8/302 –فهارس علماء المغرب : 660، والمراجع المذكورة.
(25) القصيدة واردة في مجموع (مخ خ ع) بالرباط رقم : د 1030 ورقة 69ب.
(26) ديوان الرافعي التطواني :مخطوط بخزانة داود بتطوان –تنظر ترجمة الرافعي في تاريخ تطوان : 1/390.
(27) القصيدة واردة في الاستقصا : 7/74 / توفي عام 1106 / ترجمته في نشر المثاني : 3/66.
(28) ترجمته في : نشر المثاني : 3/158.
(29) نشر القصيدة الأستاذ الزعيم علال الفاسي في مجلة المغرب الجديد التي كانت تصدر بتطوان.
(30) تقييد صغير في مدح المولى إسماعيل لمؤلف غير معروف : 69 أ (مخ خ ع): د 1030.
(31) راجع عن فتح العرائش : الاستقصا : 7/73.
(2) زهر البستان 70 أ.
(3) الدرر المنتخب 6/139.
(4) راجع النشر 2/295.
(5) راجع التقاط الدرر:221.
(6) النشر 2/295
(7) النشر 2/296.
( راجع / التقاط الدرر : 222.
(9) راجع عن أحداث فتح المعمورة في : زهر البستان : 71 أ – نشر المثاني 2/301 وزهر الأكم : للريفي 177 –الدرر المنتخب : 6/153 – الاستقصا : 7/63 – المنزع اللطيف : 134 وما بعدها.
(10) الدرر المنتخب : 6/216.
(11) التقاط الدرر : 216.
(12) الاستقصا : 7/61.
(13) زهر البستان : 70 ب.
(14) الدرر المنتخب : 6/140
(15) الدرر المنتخب : 6/157
(16) ظل قائدا على منطقة الشمال واليا على طنجة وتطوان والقصر الكبير، وتكلف بقيادة المجاهدين في "فتح طنجة" و"العرائش" و"محاصرة سبتة". توفي عام 1125 /راجع / ترجمته في النشر 3/216 – تاريخ تطوان : 1/258.
(17) ترجمته وأخباره في : الدر المنتخب : 6/157 – زهر الأكم 8 للريفي : 182 وزهر البستان : 71 - تاريخ تطوان : 1/254.
(18) زهر الأكم : للريفي : 180 وما بعدها.
(19) نشر المثاني : 8/323.
(20) هكذا في "النشر" ضمن حوادث سنة 1095هـ. إلا أنه في شهر رجب من عام 1095هـ كانت عملية الجهاد في طنجة قد انتهت، واسترجعت المدينة. ولذلك فلا معنى لبعث الإمدادات إلى طنجة وهي بين أيدي المجاهدين، والراجع أن ثالث رجب يكون من عام 1094هـ.
(21) نشر المثاني : 2/324.
(22) نشر المثاني : 2/322.
(23) المنزع اللطيف : 138 / نفس هذا التاريخ ورد عند القادري في التقاط الدرر : 230 / غير أن الأفراني يحدد تاريخ الفتح بشهر الثاني من عام 1095 /راجع /نزهة الحادي : 306.
(24) تنظر ترجمته في :نشر المثاني : 3/162 –الإعلام : للمراكشي 8/302 –فهارس علماء المغرب : 660، والمراجع المذكورة.
(25) القصيدة واردة في مجموع (مخ خ ع) بالرباط رقم : د 1030 ورقة 69ب.
(26) ديوان الرافعي التطواني :مخطوط بخزانة داود بتطوان –تنظر ترجمة الرافعي في تاريخ تطوان : 1/390.
(27) القصيدة واردة في الاستقصا : 7/74 / توفي عام 1106 / ترجمته في نشر المثاني : 3/66.
(28) ترجمته في : نشر المثاني : 3/158.
(29) نشر القصيدة الأستاذ الزعيم علال الفاسي في مجلة المغرب الجديد التي كانت تصدر بتطوان.
(30) تقييد صغير في مدح المولى إسماعيل لمؤلف غير معروف : 69 أ (مخ خ ع): د 1030.
(31) راجع عن فتح العرائش : الاستقصا : 7/73.
الزاهوية- عضو نشيط
- الجنس : عدد المساهمات : 62
درجة التقدير : 0
تاريخ الميلاد : 14/12/1976
تاريخ التسجيل : 16/09/2012
العمر : 47
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى