الربيع العربي: رؤية في المنطلق والآفاق
صفحة 1 من اصل 1
الربيع العربي: رؤية في المنطلق والآفاق
الربيع العربي: رؤية في المنطلق والآفاق
بقلم: أحمد حسيسو
الفهرس
مقدمة:
إشارات تاريخية:
انطلاق الشرارة من تونس!
دوافع مادية و بواعث روحية:
شروط التمكين:
مقدمة:
إن الدراسات الفيزيائية و الكيميائية التي أجريت حول تفاعلات المادة والطاقة، تؤكد صدقية قانون الضغط والانفجار، غير أن هذه القاعدة لا تسري على المادة المجردة فحسب، بل هي سارية المفعول والصلاحية على الكثير من السلوكيات والتصرفات الصادرة عن الكائنات الأخرى، وهي أكثر جلاء وأوضح مظهرا لدى بني البشر، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، ويكفي تفحص التاريخ للوقوف على نماذج غاية في الروعة وجديرة بالاعتبار لأولي الألباب، ولذلك فإن نهضة الشعوب العربية والإسلامية ليست بدعا من سنن التاريخ، مع أن لكل أمة خصوصياتها ودوافعها المادية وبواعثها الروحية المحركة لفعلها التاريخي، وفي كل الأحوال نستطيع القول بأن هذه الثورات طبيعية ومنسجمة مع منطق قانون الضغط والانفجار.
إشارات تاريخية:
سوف لن نغوص كثيرا في أعماق التاريخ، نكتفي بالتأمل في ثلاثة أمثلة قريبة لأمم أخرى تركت بصمات غير قابلة للمحو والنسيان، ولسنا هنا بصدد تقييم جوانبها المشرقة ولا المظلمة، بقدر ما نتناولها من حيث تفاعلات الفعل الذي هو الضغط، وردة الفعل وهو الانفجار. ننظر إلى أمم سبقت العرب إلى الانتفاضة كيف حدث فيها الانفجار الحاصل نتيجة للضغط الذي تجاوز حد التحمل:
لقد كانت الثورة الفرنسية مثالا ناصعا في أوروبا، شعب محكوم عليه بالأعمال الشاقة وصمت القبور، مقابل شظف العيش إبقاءً على الأجسام العاملة الناصبة، لخدمة للسادة النبلاء الأثرياء ليس إلا، و قد تجندت الكنيسة لتكريس الواقع وشرعنة الاستبداد بلا حدود، فكان ظهور مفكري عصر "التنوير" أمرا طبيعيا هيأ الأرضية لانتفاضة عارمة غيرت نظام الحكم السائد، وأسست لنمط حكم جديد أكثر إشراكا للشعب في تدبير الشأن العام بلسان العصر، وأكثر صيانة لكرامة الأفراد والجماعات، فما لبثت روح تلك الثورة أن سَرَتْ في أوساط الشعوب الأروبية التي ترزح تحت نير الاضطهاد المركب من تحالف السياسة والكنيسة، فثارت بدورها وانفجرت في وجه الاستعباد.
ننتقل إلى ثورة أقرب إلينا من حيث الزمان، هي الثورة الاشتراكية، والتي انقلبت عليها ثورة مضادة بعد سبعة عقود؛ فقد قاد لينين ثورة الطبقة الكادحة الروسية ضد المُلاَّكِ الجشعين تحت شعار "يا عمال العالم اتحدوا"! هيجان جماهيري قوي بمثابة ردة فعل على الضغط والحرمان، أودى بالعرش القيصري، لكن البديل القادم الذي وعد بالمساواة والملكية الجماعية، و"الجنة" الاشتراكية، ما لبث أن انقلب إلى نظام الحزب الواحد المستبد بكل شيء، وما على القطيع إلا السمع والطاعة، وإلا تعرض المشكك في قدسية النظام الثوري لتهمة الخيانة الكبرى، لسان حال الحزب الشيوعي يقول: واجبك هو العمل والإنتاج وحقك أن تأكل الطعام لتعيش! ولا تعتقد ديانة غير الشيوعية، ولا تفكر في شيء اسمه الملكية الفردية أو الكرامة والحرية! ذاك هو الضغط الذي فجر أركان دولة الاتحاد السوفياتي العظمى، فتناثرت أشلاؤها بعد نهضة شعوبها لأجل الانعتاق من أغلالٍ قهرت الفطرة الإنسانية، فذهب ما تم بناؤه سبعين عاما أدراج الرياح، وخلت الحلبة الدولية لهيمنة لاعب عملاق واحد، هو الولايات المتحدة الأمريكية "و م أ"، وسنشير لاحقا، إن شاء الله، بشكل مقتضب إلى تأثير هيمنة "و م أ" ودور طغيانها في تأجيج شرارة الثورات العربية.
ونختم الأمثلة بالثورة الشعبية الإيرانية التي انفجرت في وجه "شاهنشاه"؛ يكفي أن نعرف أن هذا الديكتاتور يلقب بملك الملوك لنعرف مدى الجبروت الذي يستشعره ويتجلى في تصرفاته، غير آبه بمشاعر المواطنين، ولا بمطالبهم ومتطلباتهم، فقد عصر حياة شعبه بالقمع والتفقير، ومرغ أنف كرامته في التراب حينا من الدهر بعمالته للصهاينة والأمريكان على حساب قضية فلسطين، قضية كل المسلمين على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم.
انطلاق الشرارة من تونس!
ما في هذه الإشارات إلا غيض من فيض، وها نحن في تونس، كاميرات العالم على ذلك البلد الإفريقي الصغير جغرافيا وديمغرافيا، إزاء نظام كان يَعُدُّ أنفاس العباد حتى في خصوصيات حياتهم، تجاوزت رقابة عيونه الأسواق والمساجد والمنتديات، وبلغ به الأمر حد التجسس لمعرفة البيوت التي يشتعل منها الضوء وقت السحر والفجر، والشباب المواضبين على صلاة الصبح، فتلك سلوكيات خطيرة في نظره تهدد استقرار البلد، وجب التصدي لها بالمرصاد، لا مكان كان هنالك لمن يغرد خارج سرب آل بن علي وزبانيته، ويشاء رب العزة أن تكون تونس منطلقا للربيع العربي الزاهرةِ ورودُه، القادمةِ ثمارُه، تقطفها أجيال الخلافة الثانية على منهاج النبوة بحول الله عز وجل، فما هي إلا أسابيع معدودة على إهانة محمد البوعزيزي رحمه الله من طرف بوليس بن علي، ثم وفاته، ومن ثم اندلاع الثورة الشعبية، حتى فرَّ الديكتاتور مذعورا إلى غير رجعة أبدا، وتحرر الشعب من قبضته الحديدية التي دامت ما يناهز ثلاثين عاما.
وقد سئل وزير الخارجية المصري إبان ثورة تونس، عما إذا كانت العدوى ستنتقل إلى مصر، فأجاب مستعليا بأن مصر ليست هي تونس، وهي ذات المقولة التي لا يزال يرددها الببغاوات الناطقون باسم الأنظمة العربية، لكن الواقع لم يتأخر طويلا حتى برهن على عكس ما زعمه أبو الغيط، إذ فوجئ النظام بخروج الملايين إلى الشوارع في كبريات المدن، يجمعها شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، كيف لا وقد ذاق الشعب المصري الأمرين طوال عقود حكم الرئيس المخلوع مبارك ومن قبله؛ اعتقالات، محاكمات ظالمة، تعذيب، أحكام الطوارئ، مضايقات، مصادرات الأرزاق، إفساح المجال لنشر الرذيلة والأخلاق الدنيئة مقابل محاربة أهل البناء والفضيلة وتكميم أفواه دعاة الإصلاح... وهلم جرا، ناهيك عن خدمة الكيان الصهيوني ومحاصرة الفلسطينيين ليس برا وبحرا وجوا فحسب، بل و من تحت الأرض أيضا! لقد كان نظام مبارك معتمدا على حماية "و م أ" ومخابراتها لحكمه ومعتدا بخبرتها وقوتها، نظرا للخدمات الكبيرة التي أسداها لها في ملف "محاربة الإرهاب" وغزو العراق، وغير ذلك، لكن الأهم بالنسبة لأمريكا الملتزمة بحماية أمن "إسرائيل" هو تفاهم هذا النظام مع العدو الصهيوني وتحالفه معه ضد خيار المقاومة الشريفة التي تجاهد لتحرير أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، والذي وقع أسيرا بين مخالب أرذل الخلق، فكان ذلك من أهم الأمور التي أججت عليه نار النقمة الشعبية؛ ثم إن التصرفات الصليبية لأمريكا ضد العرب والمسلمين، تضع كل عميل لها في خانة خونة الأمة وتجعله مكروها يجب التخلص منه مهما كان الثمن، والنظام المصري البائد كان من أشد النماذج وقاحة في ذلك الشأن، تُرى كيف كافأت أمريكا خادمها الوفي وقت شدته وبعد خلعه وانطلاق مسلسل محاكمته؟ الجواب السريع عندها باختصار هو التخلي عن كل عميل انتهت صلاحيته، وليذهب إلى الجحيم.
وتوالت الأحداث، فامتد اللهيب إلى ليبيا واليمن والبحرين وسوريا، فمن الظلمة من رحل ومنهم من ينتظر دوره، ومن الشعوب من انتفضت، ومنها من تتهيأ لأجل علمه عند الله، لكن هذا الربيع في كل الأحوال يعتبر بمثابة نذير شؤم للاستبداد القروني على أمة الإسلام عموما، وإعلان عن بداية رحيله غير مأسوف عليه إن شاء الله، وهو قبل ذلك بشارة لأمة المصطفى سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بأن النصر آت، وأن مرحلة الملك الجبري إلى زوال، لتسطع شمس الخلافة على منهاج النبوة، وعدٌ غير مكذوب من الصادق المصدوق عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى السلام.
دوافع مادية و بواعث روحية:
إذا كان قانون "الضغط يولد الانفجار" مشتركا في سلوكيات الأمم والشعوب، زيادة على حافزية القيم الإنسانية العامة النبيلة كالحرية والكرامة والعدالة وغيرها من مكارم الأخلاق التي بُعِث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لإتمامها، فثمت خصوصيات عقدية إيمانية تختلف باختلاف المرجعيات الدينية والروحية لكل أمة على حدة؛ فقد شهد العالم العجب العجاب من العمليات الفدائية للطيارين اليابانيين أثناء الحرب العالمية الثانية، إذ كانوا يسقطون بطائراتهم الحربية على حاملات الطائرات والبوارج الحربية الأمريكية لإغراقها، عمليات نوعية مخططة بدقة دفاعا عن عزة إمبراطوريتهم اليابانبة وعقيدتهم البوذية.
أما في أحضان خير أمة أخرجت للناس، فبالإضافة إلى دافعية رفع الحيف والظلم، وصون الحقوق العامة، فإن المرء المؤمن يخرج من بيته في سبيل الله ساعيا لإحدى الحسنيين، النصر أو الشهادة، راجيا ثواب "قول كلمة حق عند سلطان جائر"، الذي وصفه البيان النبوي بأفضل الجهاد، ومن مات دون ماله أو عرضه أو أهله فهو في سبيل الله، شهيد عند ربه، " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا، بل أحياء عند ربهم يرزقون".
إحقاق الحق وإزهاق الباطل ونصرة المظلوم وبذل الجهد لإقامة الحكم العادل، ولا حكم أعدل من الحكم بما أنزل الله، عبادات يتقرب بها العبد المومن من ربه عز وجل وينال بها مغفرته ورضاه في الدنيا والآخرة.
شروط التمكين:
تضحيات جسام لا حصر لها تقدمها الشعوب العربية حاليا، هذه الشعوب التي كان يُسخر منها حتى وقت قريب ويتم وَصْمُها بالجبن والخنوع، أبانت عن ثبات منقطع النظير وإصرار أدهش العالم، لما تجاوز الشباب والشيوخ بل والأطفال والنساء في هذه البلدان الثائرة منها حاجز الخوف، وأقبل جند الله هاجمين على الموت، مسترخصين الغالي والنفيس لاسترجاع الكرامة والحرية وكافة الحقوق الضائعة؛ في أثناء كتابة هذه السطور بالضبط، تمضي سنة كاملة على اندلاع القومة البطولية في بلاد الشام، حيث يصل آل الأسد مجزرة حماة الرهيبة بالأمس في عهد الرئيس الهالك، بمجازر اليوم الأكثر دموية والعامة لكل المدن الملتهبة الثائرة ، وعلى مرآى ومسمع من العالم، سندهم الحقيقي هو الله تعالى ويقينهم بنصره لا محالة، لا سند أمريكا ولا روسيا ولا غيرهما، قال عز من قائل: "وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا، يعبدونني لا يشركون بي شيئا"، توازيا مع إعداد العدة المادية التي أمر جند الله بها في قول الحق جل جلاله: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل، ترهبون به عدو الله وعدوكم". تكتمل شروط الاستخلاف والتمكين بالإيمان والعمل الصالح والدعاء بالتذلل والإلحاح بين يدي ناصر المستضعفين، أرحم الراحمين.
بعد هذا الربيع، ربيع الشعوب الذي هو في ذات الوقت خريف سلاطين الجور، وفي زمان تكنولوجيا التواصل، لن يكون بالإمكان خداع الشعوب والكذب عليها أو تزوير إرادتها واختياراتها، ولن يتم السكوت على رعونات الحكام و عبثهم بعد اليوم بحول الله، لقد استفاق العرب من السبات و نفضوا عنهم غبار الوهن، و لن تتوقف هذه الهبة المباركة إن شاء الله الفعال لما يريد، قبل تحرير ما تبقى من البلدان العربية والإسلامية من نكد الاستبداد، طال الزمن أم قصر، وعودة مجد الإسلام ونور هديه في العالمين، وما ذلك على الله بعزيز، وإنها لعقبة واقتحام حتى النصر. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تاريخ النشر: الإثنين 9 أبريل/نيسان 2012
Atlasse- عضو أساسي بالمنتدى
- الجنس : عدد المساهمات : 161
درجة التقدير : 3
تاريخ الميلاد : 04/10/1965
تاريخ التسجيل : 18/01/2010
العمر : 59
مواضيع مماثلة
» الربيع .. العربي .. ؟؟
» ‘الربيع العربي’ والإسلام السياسي …
» وثيقة سرية صادمة تكشف أن “الربيع العربي” حدث بقرار وتحريض من الولايات المتحدة الأمريكية
» ونحن على أبواب فاكهة الربيع: ماذا تعرفون عن المشمش؟
» هكذا تنبَّأ “عابد الجابري” بمآلات الربيع والخريف العربيين منذ أكثر من عقد
» ‘الربيع العربي’ والإسلام السياسي …
» وثيقة سرية صادمة تكشف أن “الربيع العربي” حدث بقرار وتحريض من الولايات المتحدة الأمريكية
» ونحن على أبواب فاكهة الربيع: ماذا تعرفون عن المشمش؟
» هكذا تنبَّأ “عابد الجابري” بمآلات الربيع والخريف العربيين منذ أكثر من عقد
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى