مذكرات قلم 1/ 18-2-12
صفحة 1 من اصل 1
مذكرات قلم 1/ 18-2-12
*انها ذكريات مستمدة من من منتصف خمسينات القرن الماضي، والخاصة بقرية من قرى فحص طنجة .
كان الفصل شتاء حين استيقظ سكان القرية - في صباح ممطر عاصف على دقات طبل متقطعة ، يتخللها بين الفينة والأخرى نداء لا يخفي حزن صاحبه .
انه طبل " العسال " وصوته المبحوح الذي ألفناه يحرك غريزة الفضول في النساء والولدان من حين لآخر ، لتشرئب أعناقهم ، لا ليعرفوا مصدر الصوت ويتأكدوا من هويته ، فلقد درجت الجماعة على ربط صوت الطبل صباحا بالوفاة ما دام صوت الطبل في المساء يرمز الى أمر حكومي ، أو آخر يخص سكان القرية ، مما يقتضي الاجتماع الفوري بمكان اعتادوا تسميته ب" نوالة العسة " .
- اللهم اسمعنا خيرا " جملة ألقتها للا خدوج كعادتها وهي تندفع متثاقلة متثائبة خارج " نوالتها " منادية جارتها بصوت متكاسل :
- آفاطنة .. أتسمعين طبل العسال ؟ آفاطنة ..
انه صوته حقا يصل الى أذنيها متعبا متقطعا : آلجماعا .. آلجماعا ..نوضو تحفرو القبر، الله يرحم الوالدين .
أسئلة ترددها للا خدوج ، ونداء يدور في ذهنها في انتظار خروج الجارة وفي هذه الأثناء يعود أحمد من المسرح ( الذي تنطلق منه الماشية في الصباح وتعود اليه في المساء ) بعد أن يسلم الماعز الى الراعي علال الزمراني ليفاجأ بأمه فاطنة خارجة تحت بقية من مطر لمقابلة للا خدوج ، وهي تسأله بدورها عن المتوفى ، فيجيبها بقوله :
- لا أعرف بالضبط ياأماه ، كل ما يمكن قوله : انني التقيت في طريق عودتي بابنة اختيتي رحيمو وعلى وجهها أثر الحزن واضحا ، وكأنها باتت تبكي الليل بطوله .
قاطعته العجوز للا خدوج - وهي تتابع حديثه باهتمام بالغ - سؤالا كمن يكون على علم مسبق بالاجابة :أيكون المتوفى الشريف سيدي عبد اللع زوج آمنة ؟لقد اشتد مرضه في الأيام الأخيرة .. انني لاحظت ذلك جليا خلال زيارتي له يوم الجمعة الماضي .
- اللهم اسمعنا خيرا .. لم نعرف في القرية من لازمه المرض غيره قالت فاطنة واغرورقت عيناها بالدموع ، واستأنفت تقول : انه المرض اللعين .. مرض السقام ..ما سكن جسم بشر الا وأودى بحياته ، فمن جرائه توفي أبي وهو في عز شبابه دون أن تكتحل عيناه بمولدي .
تطع للا خدوج شريط ذكرياتها الحزينة وهي تقول : استغفر الله والرجوع ن الله .. لم تتوقف عيني عن الرف منذثلاثة أيام ، ولم أعهدها الا صادقة في مثل هذه المناسبات ، خاصة اليسرى ..
وعن طريق تداعي المعاني تسترسل العجوز قائلة : مسكينة أمينة ، لم تعرف للراحة طعما منذ أن دخل زوجها الى المستشفى الانجليزي لمرض السقام ، لقد حكت لي المسكينة اهمال النصارى لزوجها .. تصوري .. تصوري يافاطنة أن النصارى يرغمون المرضى على الدخول في دينهم والا تعرضوا للاهمال .
- أمر الله ياللا .. مرض السقام يظل صاحبه ينسل ويسقم ، لم نسمع عن أحد شفي منه رغم دخوله الى المستشفى .. فلطالما نصحنا أمينة باستعمال الأعشاب وبابقاء زوجها بين أبنائه حتى يستره التراب .. لكن من لا يقاسي من المرض ؟ انها معذورة ..
- صدقيني يافاطنة ، ان قلبي يحدثني بأمر غريب ، فاذا صدق حدسي وتأكدت وفاة الشريف سيدي عبد الله ، فسيكون الكفرة بالله مسؤولين عن قتله ، لأنه قبل أن يدخل المستشفى كان يخرج الى المجمع ( مكان تجمع أهل القرية) ، لكنه بعد خروجه لزم فراشه ، ولم يعد يطيق القيام حتى للاختلاء بنفسه .
يعود أحمد من المسجد مبكرا على غير عادته ليقطع بقدومه على المتحاورين حديثهم الشجي ، فتستحثه أمه على الاسراع بالدخول الى الدار لتغيير جلبابه الصوفي الذي بلله المطر القوي دون أن تنسى استفساره عن سبب عودته من المسجد مبكرا على غير عادته مع أن اليوم يوم الثلاثاء والوقت ضحى لا يسمح بالتحرر من القراءة الا اذا جد جديد .
لم ينتظر احمد أمه لتكمل سؤالها حتى ارتسمت على محياه المدور علامات الحزن التي كادت توفر عليها بقية الحديث لولا حرصها على على معرفة الحقيقة .
- هل توفي والد صديقك ياأحمد ياولدي ؟
لم يستطع احمد الاجابة ، وانما اكتفى بهز رأسه الصغير وهو يهم بالدخول الى البيت باكيا .
فلا شك أن الفقيه قد أطلق سراح المحضرة ليلتحق بدار المتوفى لاتمام مراسيم الجنازة يقول للا خدود .
لقد ـاكد صوت الناعي ، فأصبح لزاما على الجارات بخاصة ونساء القرية بعامة الالتحاق بدار العزاء لمواساة أهل الفقيد ، وليطلعن على بحكم فضولهن على تفاصيل الاحتضار ، وليتعرفن على فحوى الوصايا ونوعيتها ، وليقفن على آخر كلمة فاه بها الميت ، وليشهدن أخيرا وليس آخرا مراسيم الجنازة ، خاصة انشاد الفقهاء والطلبة سورة ياسين وبردة البوصيري في لحن شجي رهيب يناسب مقام التفجع والتكسب .
مسكين قطع الأكل ( أمسك عنه ) مدة يومين الا من شرب الماء الذي لم يكف عنه طرفة عين ، وسبحان الله لقد تحول في اليوم الأخير الى آكل نهم ، ألقت للا خدوج هذا الخبر في تأثر شديد وزهو لا يخلو من اعجاب ، لأنها كانت سباقة الى معرفة أخبارعن أحوال الميت من شأنها أن تملأ فراغ المعزين الفضوليين خاصة ، بينما اندفعت جارة أخرى معقبة وهي تتصنع الوقار رغم ما عرف عنها من مهاترات : مسكين .. كان يأكل زاده.
تعود للا خدوج الى الحديث فتقول في تحسر : كلنا للموت ، اللهم كن معنا ف النوبا ديانا ، الدنيا هذا حالها ، ألا تذكرون كرتية زوجة محمد الريفي رحمها الله ؟ من كان يظن أنها ستموت في صحة بدنها ؟ لعل الاتيان على ذكر محمد الريفي أيقظ ذاكرة احداهن لتسرع بدورها في القاء ما تختزن ذاكرتها ، بينما ظلت حتى الثواني الأخيرة تسجل ما يدور بين الخريات فاستطردت قائلة :
- مسكين محمد الريفي لم يطق صبرا على فراق زوجته ، خاصة وهو كبير السن يحتاج الى من يرعاه .
تتململ أخرى فتقول : قيل انه خطب بنت سعيد ، غير انها امتنعت وهددت باغتيال نفسها اذا ألح ابوها على زفها الرالى زوج يعد في عمر جدها .
- حرام عليه أن يغتصب شباب ابنته الوحيدة ، وهل تعذر وجود رجل يواتيها في هذه الدنيا العريضة ؟القت الرابعة .
تحاول فاطنة أن ترجع بالحديث الى مجراه وقد تشعب وطال ، فصاحت في الحاضرين : أولادي صلوا على النبي حتى يصبح .اتركن الناس تنام في سلام ألا تفكرن معي في مصير أمينة حبيبتنا جميعا ؟صدقنني اذا أبحت لكن بشعوري الخاص ، انني لا آسى على المرحوم ، فلقد أحسن الله اليه بضمه اليه بدل أن يظل يقاسي من مرضه العضال ، فالذي نأسف له هو أمينة وأبناؤها .
يتبع / مع تحيات العتيق
كان الفصل شتاء حين استيقظ سكان القرية - في صباح ممطر عاصف على دقات طبل متقطعة ، يتخللها بين الفينة والأخرى نداء لا يخفي حزن صاحبه .
انه طبل " العسال " وصوته المبحوح الذي ألفناه يحرك غريزة الفضول في النساء والولدان من حين لآخر ، لتشرئب أعناقهم ، لا ليعرفوا مصدر الصوت ويتأكدوا من هويته ، فلقد درجت الجماعة على ربط صوت الطبل صباحا بالوفاة ما دام صوت الطبل في المساء يرمز الى أمر حكومي ، أو آخر يخص سكان القرية ، مما يقتضي الاجتماع الفوري بمكان اعتادوا تسميته ب" نوالة العسة " .
- اللهم اسمعنا خيرا " جملة ألقتها للا خدوج كعادتها وهي تندفع متثاقلة متثائبة خارج " نوالتها " منادية جارتها بصوت متكاسل :
- آفاطنة .. أتسمعين طبل العسال ؟ آفاطنة ..
انه صوته حقا يصل الى أذنيها متعبا متقطعا : آلجماعا .. آلجماعا ..نوضو تحفرو القبر، الله يرحم الوالدين .
أسئلة ترددها للا خدوج ، ونداء يدور في ذهنها في انتظار خروج الجارة وفي هذه الأثناء يعود أحمد من المسرح ( الذي تنطلق منه الماشية في الصباح وتعود اليه في المساء ) بعد أن يسلم الماعز الى الراعي علال الزمراني ليفاجأ بأمه فاطنة خارجة تحت بقية من مطر لمقابلة للا خدوج ، وهي تسأله بدورها عن المتوفى ، فيجيبها بقوله :
- لا أعرف بالضبط ياأماه ، كل ما يمكن قوله : انني التقيت في طريق عودتي بابنة اختيتي رحيمو وعلى وجهها أثر الحزن واضحا ، وكأنها باتت تبكي الليل بطوله .
قاطعته العجوز للا خدوج - وهي تتابع حديثه باهتمام بالغ - سؤالا كمن يكون على علم مسبق بالاجابة :أيكون المتوفى الشريف سيدي عبد اللع زوج آمنة ؟لقد اشتد مرضه في الأيام الأخيرة .. انني لاحظت ذلك جليا خلال زيارتي له يوم الجمعة الماضي .
- اللهم اسمعنا خيرا .. لم نعرف في القرية من لازمه المرض غيره قالت فاطنة واغرورقت عيناها بالدموع ، واستأنفت تقول : انه المرض اللعين .. مرض السقام ..ما سكن جسم بشر الا وأودى بحياته ، فمن جرائه توفي أبي وهو في عز شبابه دون أن تكتحل عيناه بمولدي .
تطع للا خدوج شريط ذكرياتها الحزينة وهي تقول : استغفر الله والرجوع ن الله .. لم تتوقف عيني عن الرف منذثلاثة أيام ، ولم أعهدها الا صادقة في مثل هذه المناسبات ، خاصة اليسرى ..
وعن طريق تداعي المعاني تسترسل العجوز قائلة : مسكينة أمينة ، لم تعرف للراحة طعما منذ أن دخل زوجها الى المستشفى الانجليزي لمرض السقام ، لقد حكت لي المسكينة اهمال النصارى لزوجها .. تصوري .. تصوري يافاطنة أن النصارى يرغمون المرضى على الدخول في دينهم والا تعرضوا للاهمال .
- أمر الله ياللا .. مرض السقام يظل صاحبه ينسل ويسقم ، لم نسمع عن أحد شفي منه رغم دخوله الى المستشفى .. فلطالما نصحنا أمينة باستعمال الأعشاب وبابقاء زوجها بين أبنائه حتى يستره التراب .. لكن من لا يقاسي من المرض ؟ انها معذورة ..
- صدقيني يافاطنة ، ان قلبي يحدثني بأمر غريب ، فاذا صدق حدسي وتأكدت وفاة الشريف سيدي عبد الله ، فسيكون الكفرة بالله مسؤولين عن قتله ، لأنه قبل أن يدخل المستشفى كان يخرج الى المجمع ( مكان تجمع أهل القرية) ، لكنه بعد خروجه لزم فراشه ، ولم يعد يطيق القيام حتى للاختلاء بنفسه .
يعود أحمد من المسجد مبكرا على غير عادته ليقطع بقدومه على المتحاورين حديثهم الشجي ، فتستحثه أمه على الاسراع بالدخول الى الدار لتغيير جلبابه الصوفي الذي بلله المطر القوي دون أن تنسى استفساره عن سبب عودته من المسجد مبكرا على غير عادته مع أن اليوم يوم الثلاثاء والوقت ضحى لا يسمح بالتحرر من القراءة الا اذا جد جديد .
لم ينتظر احمد أمه لتكمل سؤالها حتى ارتسمت على محياه المدور علامات الحزن التي كادت توفر عليها بقية الحديث لولا حرصها على على معرفة الحقيقة .
- هل توفي والد صديقك ياأحمد ياولدي ؟
لم يستطع احمد الاجابة ، وانما اكتفى بهز رأسه الصغير وهو يهم بالدخول الى البيت باكيا .
فلا شك أن الفقيه قد أطلق سراح المحضرة ليلتحق بدار المتوفى لاتمام مراسيم الجنازة يقول للا خدود .
لقد ـاكد صوت الناعي ، فأصبح لزاما على الجارات بخاصة ونساء القرية بعامة الالتحاق بدار العزاء لمواساة أهل الفقيد ، وليطلعن على بحكم فضولهن على تفاصيل الاحتضار ، وليتعرفن على فحوى الوصايا ونوعيتها ، وليقفن على آخر كلمة فاه بها الميت ، وليشهدن أخيرا وليس آخرا مراسيم الجنازة ، خاصة انشاد الفقهاء والطلبة سورة ياسين وبردة البوصيري في لحن شجي رهيب يناسب مقام التفجع والتكسب .
مسكين قطع الأكل ( أمسك عنه ) مدة يومين الا من شرب الماء الذي لم يكف عنه طرفة عين ، وسبحان الله لقد تحول في اليوم الأخير الى آكل نهم ، ألقت للا خدوج هذا الخبر في تأثر شديد وزهو لا يخلو من اعجاب ، لأنها كانت سباقة الى معرفة أخبارعن أحوال الميت من شأنها أن تملأ فراغ المعزين الفضوليين خاصة ، بينما اندفعت جارة أخرى معقبة وهي تتصنع الوقار رغم ما عرف عنها من مهاترات : مسكين .. كان يأكل زاده.
تعود للا خدوج الى الحديث فتقول في تحسر : كلنا للموت ، اللهم كن معنا ف النوبا ديانا ، الدنيا هذا حالها ، ألا تذكرون كرتية زوجة محمد الريفي رحمها الله ؟ من كان يظن أنها ستموت في صحة بدنها ؟ لعل الاتيان على ذكر محمد الريفي أيقظ ذاكرة احداهن لتسرع بدورها في القاء ما تختزن ذاكرتها ، بينما ظلت حتى الثواني الأخيرة تسجل ما يدور بين الخريات فاستطردت قائلة :
- مسكين محمد الريفي لم يطق صبرا على فراق زوجته ، خاصة وهو كبير السن يحتاج الى من يرعاه .
تتململ أخرى فتقول : قيل انه خطب بنت سعيد ، غير انها امتنعت وهددت باغتيال نفسها اذا ألح ابوها على زفها الرالى زوج يعد في عمر جدها .
- حرام عليه أن يغتصب شباب ابنته الوحيدة ، وهل تعذر وجود رجل يواتيها في هذه الدنيا العريضة ؟القت الرابعة .
تحاول فاطنة أن ترجع بالحديث الى مجراه وقد تشعب وطال ، فصاحت في الحاضرين : أولادي صلوا على النبي حتى يصبح .اتركن الناس تنام في سلام ألا تفكرن معي في مصير أمينة حبيبتنا جميعا ؟صدقنني اذا أبحت لكن بشعوري الخاص ، انني لا آسى على المرحوم ، فلقد أحسن الله اليه بضمه اليه بدل أن يظل يقاسي من مرضه العضال ، فالذي نأسف له هو أمينة وأبناؤها .
يتبع / مع تحيات العتيق
العتيق- فارس المنتدى
- الجنس : عدد المساهمات : 1509
درجة التقدير : 6
تاريخ الميلاد : 01/01/1951
تاريخ التسجيل : 17/04/2011
العمر : 73
الموقع : البريد أعلاه وكذا منتدى جبالة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى