مت أمس
صفحة 1 من اصل 1
مت أمس
[size=18]مت أمس[/size]
أنا مت أمس ، بعد مرض طويل ، عانيت معه كثيرا وعذبت معي أحبائي . قبل شهر نقلت إلى المستشفى الذي مت فيه ، كنت ما أزال أستطيع التوجه لوحدي إلى المرحاض . في أول أمس ، حينما ذهبت إلى الحمام ، نظرت إلى وجهي المنعكس على المرآة المثبتة فوق "اللافابو" ، فلم أجده وجهي ، غادره وجه الشاب الذي كنته وحل مكانه وجه بائس لعجوز لم يسبق لي معرفته ... لما عدت إلى فراشي بدأ حوار بين روحي وجسدي وأنا أستمع ، قال
لها : (إنني أتعبتك معي كثيرا يا روحي العزيزة ، يا زوجتي وتوأمي ، ولم أعد أرى فائدة ترجى من بقائنا معا ، غير المعاناة والآلام ، لماذا لا نتفق على الفراق ؟ فأنا أظن أن الخير فيه لكلينا. فأنت ترين ما حل بي من مرض وهوان ، وتقاسين من الاستهانة التي بدأت أتلقاها من الأطباء والأهل مؤخرا ، وأنت شفافة حساسة وأصبح بديهيا أن يكون ملك الموت في طريقه لتفريقنا ، وسيقوم بذلك سواء قبلنا أم أبينا. ولكن إذ قبلت مفارقتي عن طواعية ، ولم أتشبث أنا بك كثيرا فآلام الموت ستكون يسيرة ، فماذا ترين ؟) ، أطرقت مفكرة روحي ثم قالت : (الرأي رأيك يا عزيزي ، ولو أنه يعز علي الفراق ، كنت أريد أن أسكنك طويلا طويلا ، أن أمارس زواجي معك لسنين ، لكن ما باليد حيلة فبقاؤنا معا أصبح ميئوسا منه ، وأشاطرك الرأي في الفراق !) وبدأ العناق بين جسمي وروحي ، عناق حار كان من آثاره الظاهرة الارتعاشات الاهتزازية التي كانت تطال حتى السرير ، والعرق البارد الذي كان يغطي كل مساحة البدن ، والأصوات الطنانة التي كان يرتد صداها داخل رأسي ... عناق وإرسال وتماسك ثم ... حضر ملك الموت كيان جليل ، وأمر روحي أن اخرجي فعانقت الجسد للمرة الأخيرة عناقا حارا ... فارتعش من لوعة العجز والفراق جسدي ، الرعشة الأخيرة حتى تدحرج على السرير وسقط مرتطما بالأرض جثة هامدة ، بوجه معوج وعينين مبحلقتين وبتعبير عميق عن الألم ؛ ألم الفراق !
جاءت الممرضة ، ألقت نظرة على الجثة ، ثم غادرت الغرفة لتعود صحبة الممرض الرئيس ، جس النبض ، ووضع السماعة على القلب ثم أضاء عمق العين وقال : مات ! وترك رأسي يرتطم بالرخام ... آه ما أمر الاستهانة ! ... عادوا بعد ذلك وحملوني – دائما بقسوة معلنة وباستهانة كبيرة – إلى مستودع الأموات. الفحص الأخير كان على يد الطبيب الكبير ، قصد الجثة وأضاء قعر العين باستهانة ، ثم دفع وجهي بتقزز وراح يغسل يديه – بعد أن نزع القفازين – بالماء والصابون وماء جافيل ، عاد إلى مكتبه وكتب شهادة الوفاة وبعنف حملني الموظفون ووضعوني داخل البراد ... وفي اليوم الموالي رأيتهم يجرونني إلى الخارج ، لفوني في إزار بعدما نزعوا ثيابي ثم حملوني إلى سيارة نقل الموتى ... وفي الطريق سمعت ابن خالتي يتحدث عني ، عن شمائلي وخصالي الحميدة ، وعن زوجتي وأولادي الذين تركتهم للضياع. كنت أرى ببصيرتي وأسمع بها أيضا ، دونما حاجة لعيون وآذان ولا عقل ! وفي المنزل كان المعزون قد تجمعوا نساء ورجالا ، وكان القرآن يتلى والنحيب يتعالى ، وشد انتباهي منظر جارتنا – عدوة زوجتي على الدوام – وهي تبكي بحرارة ، تبكي ولا تتباكى ككثير من المعزين ، أنا متيقن من ذلك لأنني وأنا ميت أستطيع التمييز بين الباكين والمتباكين ، أرى الجوهر بوضوح صاف ؛ بصيرتي تنفذ إلى الأعماق ! حز في نفسي أن يتعاملوا مع جثتي بكل هذا القدر من التقزز والاستهانة والخوف ، فحينما طالبهم عمال المستشفى أن يعيدوا "الإزار الحكومي" الذي كنت ملفوفا به ، إزارا قذرا به بقع من دم وسوائل أخرى رطبة ويابسة ، ترددوا ثم جذبوه عني بقسوة محاذرين اللمس دونما اعتبار لتدحرج الجسد الساجب العاري فوق الرخام وارتطام رأسي ووجهي بالأرضية ثم سارعوا إلى غسل أيديهم بالماء والصابون وماء جافيل ، وسمعت ابن خالتي يردد إن هذا اللباس لن يطهره إلا النار ! ...
حملوني إلى المغسلة ، كانوا أربعة رجال ميزت من بينهم الفقيه الذي غسلني بنية صافية ، ثم حملوني إلى الصالة حيث ألبسوني الكفن الذي خاطه الفقيه مسبقا ... ولينطلق الموكب الجنائزي ، حناجر تردد اللازمة الجنائزية بكل خشوع ، آه كم ميزت من المنافقين ! لما أرادوا أن يمدوني في القبر زلت قدم أحدهم فارتطم رأسي بالأرض ، وسمعت بعضهم يلوم ويلعن ، مددوني في القبر وخلصوني من قيود الكفن ، ثم ردوا التراب وبدأ الضجيج يخفت إلى أن خيم الصمت المطبق ، وفجأة سمعت صوتا يأتي من الخارج : (يا مراد بن مليكة يا عبد الله بن أمة الله ، إنك مت ...) نعم أنا ميت وأعرف ذلك ، وغادر الفقيه لأبقى وحيدا أنتظر ما يكون ... لا مكان للزمن الآن ولا للمكان ، هنا المطلق ... لا أستطيع تقدير كم مر من الوقت بقياس أهل الدنيا ، لكن الجسد بدأ ينتفخ وينتفخ ... فتمزق الكفن ، وبدأت أكوام الدود تنهشه من الداخل فيما الذبيبات السوداء التي كانت مرتاعة في أول الأمر بدأت تتكوم على سطح الجسد المكور البني اللون ، ثم بدأ القبر يضيق ويضيق ، وفجأة دوى انفجار عظيم إيذانا بقرب موعد الحساب والعقاب !
أنا مت أمس ، بعد مرض طويل ، عانيت معه كثيرا وعذبت معي أحبائي . قبل شهر نقلت إلى المستشفى الذي مت فيه ، كنت ما أزال أستطيع التوجه لوحدي إلى المرحاض . في أول أمس ، حينما ذهبت إلى الحمام ، نظرت إلى وجهي المنعكس على المرآة المثبتة فوق "اللافابو" ، فلم أجده وجهي ، غادره وجه الشاب الذي كنته وحل مكانه وجه بائس لعجوز لم يسبق لي معرفته ... لما عدت إلى فراشي بدأ حوار بين روحي وجسدي وأنا أستمع ، قال
لها : (إنني أتعبتك معي كثيرا يا روحي العزيزة ، يا زوجتي وتوأمي ، ولم أعد أرى فائدة ترجى من بقائنا معا ، غير المعاناة والآلام ، لماذا لا نتفق على الفراق ؟ فأنا أظن أن الخير فيه لكلينا. فأنت ترين ما حل بي من مرض وهوان ، وتقاسين من الاستهانة التي بدأت أتلقاها من الأطباء والأهل مؤخرا ، وأنت شفافة حساسة وأصبح بديهيا أن يكون ملك الموت في طريقه لتفريقنا ، وسيقوم بذلك سواء قبلنا أم أبينا. ولكن إذ قبلت مفارقتي عن طواعية ، ولم أتشبث أنا بك كثيرا فآلام الموت ستكون يسيرة ، فماذا ترين ؟) ، أطرقت مفكرة روحي ثم قالت : (الرأي رأيك يا عزيزي ، ولو أنه يعز علي الفراق ، كنت أريد أن أسكنك طويلا طويلا ، أن أمارس زواجي معك لسنين ، لكن ما باليد حيلة فبقاؤنا معا أصبح ميئوسا منه ، وأشاطرك الرأي في الفراق !) وبدأ العناق بين جسمي وروحي ، عناق حار كان من آثاره الظاهرة الارتعاشات الاهتزازية التي كانت تطال حتى السرير ، والعرق البارد الذي كان يغطي كل مساحة البدن ، والأصوات الطنانة التي كان يرتد صداها داخل رأسي ... عناق وإرسال وتماسك ثم ... حضر ملك الموت كيان جليل ، وأمر روحي أن اخرجي فعانقت الجسد للمرة الأخيرة عناقا حارا ... فارتعش من لوعة العجز والفراق جسدي ، الرعشة الأخيرة حتى تدحرج على السرير وسقط مرتطما بالأرض جثة هامدة ، بوجه معوج وعينين مبحلقتين وبتعبير عميق عن الألم ؛ ألم الفراق !
جاءت الممرضة ، ألقت نظرة على الجثة ، ثم غادرت الغرفة لتعود صحبة الممرض الرئيس ، جس النبض ، ووضع السماعة على القلب ثم أضاء عمق العين وقال : مات ! وترك رأسي يرتطم بالرخام ... آه ما أمر الاستهانة ! ... عادوا بعد ذلك وحملوني – دائما بقسوة معلنة وباستهانة كبيرة – إلى مستودع الأموات. الفحص الأخير كان على يد الطبيب الكبير ، قصد الجثة وأضاء قعر العين باستهانة ، ثم دفع وجهي بتقزز وراح يغسل يديه – بعد أن نزع القفازين – بالماء والصابون وماء جافيل ، عاد إلى مكتبه وكتب شهادة الوفاة وبعنف حملني الموظفون ووضعوني داخل البراد ... وفي اليوم الموالي رأيتهم يجرونني إلى الخارج ، لفوني في إزار بعدما نزعوا ثيابي ثم حملوني إلى سيارة نقل الموتى ... وفي الطريق سمعت ابن خالتي يتحدث عني ، عن شمائلي وخصالي الحميدة ، وعن زوجتي وأولادي الذين تركتهم للضياع. كنت أرى ببصيرتي وأسمع بها أيضا ، دونما حاجة لعيون وآذان ولا عقل ! وفي المنزل كان المعزون قد تجمعوا نساء ورجالا ، وكان القرآن يتلى والنحيب يتعالى ، وشد انتباهي منظر جارتنا – عدوة زوجتي على الدوام – وهي تبكي بحرارة ، تبكي ولا تتباكى ككثير من المعزين ، أنا متيقن من ذلك لأنني وأنا ميت أستطيع التمييز بين الباكين والمتباكين ، أرى الجوهر بوضوح صاف ؛ بصيرتي تنفذ إلى الأعماق ! حز في نفسي أن يتعاملوا مع جثتي بكل هذا القدر من التقزز والاستهانة والخوف ، فحينما طالبهم عمال المستشفى أن يعيدوا "الإزار الحكومي" الذي كنت ملفوفا به ، إزارا قذرا به بقع من دم وسوائل أخرى رطبة ويابسة ، ترددوا ثم جذبوه عني بقسوة محاذرين اللمس دونما اعتبار لتدحرج الجسد الساجب العاري فوق الرخام وارتطام رأسي ووجهي بالأرضية ثم سارعوا إلى غسل أيديهم بالماء والصابون وماء جافيل ، وسمعت ابن خالتي يردد إن هذا اللباس لن يطهره إلا النار ! ...
حملوني إلى المغسلة ، كانوا أربعة رجال ميزت من بينهم الفقيه الذي غسلني بنية صافية ، ثم حملوني إلى الصالة حيث ألبسوني الكفن الذي خاطه الفقيه مسبقا ... ولينطلق الموكب الجنائزي ، حناجر تردد اللازمة الجنائزية بكل خشوع ، آه كم ميزت من المنافقين ! لما أرادوا أن يمدوني في القبر زلت قدم أحدهم فارتطم رأسي بالأرض ، وسمعت بعضهم يلوم ويلعن ، مددوني في القبر وخلصوني من قيود الكفن ، ثم ردوا التراب وبدأ الضجيج يخفت إلى أن خيم الصمت المطبق ، وفجأة سمعت صوتا يأتي من الخارج : (يا مراد بن مليكة يا عبد الله بن أمة الله ، إنك مت ...) نعم أنا ميت وأعرف ذلك ، وغادر الفقيه لأبقى وحيدا أنتظر ما يكون ... لا مكان للزمن الآن ولا للمكان ، هنا المطلق ... لا أستطيع تقدير كم مر من الوقت بقياس أهل الدنيا ، لكن الجسد بدأ ينتفخ وينتفخ ... فتمزق الكفن ، وبدأت أكوام الدود تنهشه من الداخل فيما الذبيبات السوداء التي كانت مرتاعة في أول الأمر بدأت تتكوم على سطح الجسد المكور البني اللون ، ثم بدأ القبر يضيق ويضيق ، وفجأة دوى انفجار عظيم إيذانا بقرب موعد الحساب والعقاب !
محمد اغبالو
28/02/2008
28/02/2008
محمد أغبالو- عضو جديد
- عدد المساهمات : 4
درجة التقدير : 0
تاريخ الميلاد : 11/05/1970
تاريخ التسجيل : 29/12/2010
العمر : 54
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى