الخيانة
صفحة 1 من اصل 1
الخيانة
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته ،،
في قول الحق سبحانه و تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (الأنفال:27)
قال ابن عباس نزلت هذه الآية في أبي لبابة حين بعثه رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى قريظة لمّا حاصرهم... و كان أهله و ولده فيهم فقالوا يا أبا لبانة ما ترى لنا... أننزل إلى حكم سعد بن معاذ فينا...؟ فأشار أبو لبانة إلى حلقه أي أنه الذبح فلا تفعلوا فكان ذلك منه خيانة لله و للرسول.
و الخَون: هو النقص في كل شيء... في القول و في الفعل
و المُخانة: هي خون النصح يعني لم يخلص في النصح و نقصه
و خون الود كذلك عدم الإخلاص فيه و الإنتقاص منه فكانت منه خيانة لأنه اؤتمن على أمر كالنصيحة مثلاً فلم يخلص.
إن الأمانة تكون متصورة ضمن مفاهيم معينة. فإن نظرة الجاهلي للأمانة قد نبعت من مفاهيمه الجاهلية بناء على أنه قد اوتمن على أمر فإن أداه كان أميناً و إن لم يؤده كان خائناً لأمانته في هذا الأمر، فهو بناءً على مفاهيمه قد إعتُبِر أبا رغال خائناً.
فكانت الأمانة عندهم لها مدلول لمفهوم معين متصور في الذهن و له واقع ثم جاء تصور المفهوم المخالف للأمانة و هو الخيانة و لم يكن تصور الخيانة أولا ثم الأمانة بل الأصل هو الأمانة فما خالف الأصل كان الخيانة.
فمن اؤتمن على أمرٍ معيّن فأداه كان حافظاً للأمانة فإن لم يؤدِ هذا الأمر كان خائناً لعدم تأديته لهذا الأمر.
و كذلك الرأسمالي و الإشتراكي و البوذي و أي صاحب ملّة حاله واحد فلا يوصف من لم يؤدِ حقّ الأمر الذي أوتمن عليه إلا بأنه خائن كالكاذب الذي أخبر الخبر على غير وجهه لا يوصف إلا بهذا الوصف و الصادق الذي يخبر بالخبر على و جهه كذلك، و صدق الله العظيم (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ) (آل عمران: من الآية75 )
هذا بما هو دون العقيدة..
قال القتبيّ: أصل الخيانة أن يؤتمن الرجل على أمر فلا يؤدي الأمانة فيه، قول الحق سبحانه (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ )(البقرة: من الآية187) يعني تخونوا أنفسكم بالمباشرة في ليالي الصوم.
فقد ذكر الطبري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجع من عند النبي صلى الله عليه و سلم و قد سَمِر عنده ليلة فوجد امرأته قد نامت فأرادها فقالت قد نمت فقال لها ما نمت فوقع بها. و صنع كعب بن مالك مثله، فغدا عمر على النبي فقال أعتذر إلى الله و إليك فإن نفسي زيّنت لي فواقعت أهلي فهل تجد لي من رخصة..؟ فقال لي لم تكن حقيقاً يا عمر.. فلما بلغ بيته أرسل إليه فأنبأه بعذره في آية من القرآن.
قول الحق سبحانه و تعالى (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (غافر:19) هو ما تُسارق النظر إلى ما لا يحل النظر إليه أو هو النظرة المريبة.. فالناظر إلى ما لا يحل له النظر إليه نظرة خيانة يُسيّرها مسارقة يعلمها الله... لأنه إذا نظر أول نظرة – الفجاءة – غير معتمد الخيانة غير آثم و لا خائن، فإن اعتاد النظر و نيته الخيانة فهو خائن النظر، و في الحديث ( ما كان لنبي أن يكون له خائنة الأعين ) ؛ يعني أن يضمر في نفسه غير ما يظهر... فإذا كفّ لسانه و أومأ بعينه فقد خان، و قد روى أحمد قال حدثنا حسن بن موسى حدثنا بن لهيعة حدثتنا أبو الأسود عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: ( لا يجتمع الإيمان و الكفر في قلب امرءٍ و لا يجتمع الصدق و الكذب جميعاً و لا تجتمع الخيانة و الأمانة جميعاً).
قول الحق (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)
1. يا أيها الذين آمنوا: هو خطاب عام لجماعة المؤمنين و كذلك الأمانات عامة و فيه تفصيل فهو خطاب لكل واحد من المؤمنين بعينه ؛ كالأستاذ حين يقول للطلاب أخرجوا أقلامكم فهذا أمر لكل طالب أن يخرج قلمه، ( لا تخونوا ) نهي و تحذير فإياك أن تخون بعد أن آمنت بالله رباً بمحض إختيارك و أنت تعلم أن الإيمان بالله يوجب طاعته فيما أمر.
فلا تخن لأن الخيانة كلها الإنتقاص و عدم التمام و عدم الوفاء وهي الغدر، و أما الإنتقاص فهو الوقوف بعيداً عن الكمال و الإتمام المطلوب و الإنسان حين آمن أصبح الإيمان عنده أمانة، و أمانة هذا الإيمان يقتضي أن لا يجعل لمخلوقٍ و لاية عليه و لا ولاء له إلا أن يكون هذا الولاء نابعاً من اتباع منهج الله تعالى و هذه هي أمانة الشهادة و أمانة الرسالة و حملها فهو الحرص على تطبيق كل ما بلغه الرسول صلى الله عليه و سلم.
فكان الخطاب للمؤمنين من الله تعالى حين حملوا أمانة الإيمان بقولهم لا اله إلا الله إعتقاداً بأنه لا أحد يمكنه أن يتصرف فيهم أو يملك لهم ضراً أو نفعاً غير الله تعالى و أنه و حده المُعِزّ المُذل الناصر المحيي و المميت.
يقول السيد قطب رحمه الله في الظلال (( إن التخلي عن تكاليف الأمة المسلمة في الأرض خيانة لله و للرسول، فالقضية الأولى في هذا الدين هي قضية ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) قضية إفراد لله سبحانه و تعالى بالألوهية و الأخذ في هذا بما بلغه محمد صلى الله عليه و سلم وحده، و البشرية في تاريخها كله لم تكن تجحد الله البتة ؛ و لكنها إنما كانت تشرك معه آلهة أخرى هو أحياناً قليلة في الإعتقاد و العبادة، و أحياناً كثيرة في الحاكمية و السلطان و هذا غالب الشرك و معظمه، و من ثم كانت القضية الأولى لهذا الدين ليست حمل الناس على الإعتقاد بألوهية الله و لكن حملهم على إفراده – سبحانه – باللألوهية و شهاده أن لا إله إلا الله محمد رسول الله أي إفراده بالحاكمية في حياتهم الأرضية كما أنهم مقرون بحاكميته في الكون تحقيقاً لقوله سبحانه (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ )(الزخرف: من الآية84)
و هذه هي قضية هذا الدين إعتقاداً لتقريره في الضمير و حركةً لتقريره في الحياة، و من هنا كان التخلي عنها خيانة لله و للرسول يحذر الله منها العصبة المسلمة التي آمنت به و أعلنت هذا الإيمان فأصبح متعيناً عليها أن تجاهد لتحقيق مدلوله الواقعي و النهوض بتكاليف هذا الجهاد في الأنفس و الأموال و الأولاد ) (1)
2. لا تخونوا الله و الرسول: بعد أن آمنتم بأنه هو الخالق البارئ الموجد من عدم، لا تخونوا الله بعد أن أرشدكم إلى الخير في الأفعال و الأقوال و أتمّ عليكم نعمه و قبلتم بحمل الأمانة التي عرضها على غيركم فقبلتموها أنتم فلا تخونوا الله بعد حملكم للأمانة. روى الترمذي الحكيم أبو عبد الله: حدثنا اسماعيل بن نصر عن صالح بن عبد الله عن محمد بن يزيد بن جوهر عن الضحاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ( قال الله تعالى لآدم: يا آدم إني عرضت الأمانة على السموات و الأرض فلم تطقها فهل أنت
حاملها بما فيها؟ فقال: و ما فيها يا رب؟
قال: إن حملتها أُجرت و إن ضيعتها عُذّبت، فاحتملها بما فيها فلم
يلبث في الجنة إلا قدر ما بين الصلاة الأولى إلى العصر حتى أخرجه الشيطان منها ).
قلنا إنّ الأمانة يُقابلها الخيانة و الأمانة هي الأمر الذي يستودعه واحد عند آخر بدون وثيقة أو شهود، و هي لا تكون إلا عن قناعة و اطمئنان و رضاً فلا تحصل بالجبر و الإكراه، ثم تُحدث في النفس التزاماً بمقتضياتها، فمن مقتضياتها عدم التفريط و الحفظ و الدفاع عنها.
و الإلتزام هو ضبط التصرفات من أفعال وأقوال وفق منهج ومفهوم و وجهة نظر محددة يكون الضابط فيها للامر والنهي ثم تأتي بعد ذلك التكاليف الشرعيه لتحدد سلوك الانسان، فالذي قال ( لا اله الا الله محمد رسول الله ) هذا التزام منه حصل بطاعته واختياره ورضاه فلا بد له من ضبط سلوكه وفق هذه التكاليف الشرعية فمن كان عنده الالتزام تقبّل التكاليف ومن لم يحصل عنده الالتزام لم يقبل بالتكاليف وتعتبر كل مخالفة لحكم قبلته من الله الذي آمنت به خيانة للامانه.
فالإيمان بوجود الله التزام، ومقتضيات هذا الالتزام طاعته جل وعلا في كل ما أمر في السر والعلن واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:
(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) (آل عمران:32)
فالإسلام ليس كلمات تقال باللسان وابتهالات وتضرع بل هو منهج حياة وضابط للسلوك في كل أمر جلّ أو دقّ وهو شهادة وقناعة وتبليغ ؛ فالقناعة أمانة والتبليغ أمانة والعمل لإيجاده في واقع الحياة أمانة، و رد المجتمع من الاحتكام إلى الطاغوت إلى حاكميه الله أمانة وكلها أمانات ومن لم ينهض بها فقد خانها وخان عهده مع الله الذي عاهده عليه ونقض بيعته التي بايع بها رسول الله.
وهذه الأمانات كلها بحاجة إلى تضحية وصبر واحتمال وترفع عن فتـنة المال و الولد لأن الله عنده الأجر العظيم.
3. و أنتم تعلمون: و أنتم تعلمون أنكم تخونون ؛ فالخيانة توجد منكم عن تعمدٍ لا عن سهو، و أنتم علماء تعلمون قبح القبيح و حسن الحسن، و أنتم تعلمون أن الصدق حسن و الكذب قبيح، فحين تكذبون فإنكم تخونون و أنتم تعلمون، ففي الحديث عن وكيع قال: سمعت الأعمش قال: حُدثت عن أبي أُمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ( يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة و الكذب )، و قوله صلى الله عليه و سلم: ( اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع و من الخيانة فإنها بئس البطانة ) خرجه النسائي عن أبي هريره.
فصاحب البدعة الذي أحدث في الإسلام أو نسب إلى الإسلام ما ليس فيه خائن و هو يعلم أنه خائن، و الذي يعين الظالم على ظلمه لتكون له يد عنده خائن، و الذي يوالي من نهى الله عن موالاتهم خائن و هو يعلم أنه خائن.
أما نهاية الخونة في الدنيا فحكمة الله اقتضت أن تكون على أيدي أسيادهم و من والوهم حتى تكون الحسرة عليهم أشد و أوقع في النفس، فهذا الوزير مؤيد الدين أبو طالب ابن العلقمي الذي خان الله و رسوله و أمير المؤمنين المستعصم و مالأ هولاكو أذله الله على يد سيده هولاكو حتى مرّت به امرأة و هو راكب برذوناً و سائق يسوق به و يضرب فرسه، قالت له: يا ابن العلقمي هكذا كان يعاملونك بنو العباس...؟؟
و شاه ايران و غيره و غيره و العبرة قائمة متجددة تحمل البشرى لبداية ظهور الحق و نهاية الباطل يتجرع فيها الخائن الذل على أيدي من طلب العزّ منهم و صدق الله العظيم (لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ) (الرعد:34)
بقيت في الموضوع مسألة واحدة يشرحها حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي رواه الحاكم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: ( تأتي على الناس سنوات خدّاعات يُصَدّق فيها الكاذب و يُكَذّب فيها الصادق و يؤتمن فيها الخائن و يُخَوَّن فيها الأمين و ينطق فيهم الرويـبضة، قيل يا رسول الله: و ما الرويـبضة؟؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة ).
ففي محاولة فهمنا للحديث نرى أنه سوف يكون كاذب يُصَدّق و يؤتَمن، و صادق يُكذّب و يُخَوّن، و الذي يُصدق الكاذب و يأتمنه و يكذب الصادق و يخونه هم الملأ الذين كانوا في عهد فرعون يصدقونه و يأتمنوه و يكذبوا موسى و يخونونه و يتهمونه بالفساد في الأرض و يُزينون لفرعون عمله و أنه مصلح لا يريد إلا الرشاد.
و قد أخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم عن حالهم في الحديث الذي رواه الحاكم و الذهبيّ عن سعيد بن جبير عن أبي هريرة قال: ( و الذي نفس محمد بيده لا تقوم الساعة حتى يظهر الفُحش و البُخل و يُخَوّن الأمين و يؤتمن الخائن و يهلك الوعول و يظهر التحوت، قالوا يا رسول الله: ما الوعول و ما التحوت قال: الوعول و جوه الناس و أشرافهم و التحوت الذين كانوا تحت أقدام الناس لا يُعلم بهم
منقوووول
في قول الحق سبحانه و تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (الأنفال:27)
قال ابن عباس نزلت هذه الآية في أبي لبابة حين بعثه رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى قريظة لمّا حاصرهم... و كان أهله و ولده فيهم فقالوا يا أبا لبانة ما ترى لنا... أننزل إلى حكم سعد بن معاذ فينا...؟ فأشار أبو لبانة إلى حلقه أي أنه الذبح فلا تفعلوا فكان ذلك منه خيانة لله و للرسول.
و الخَون: هو النقص في كل شيء... في القول و في الفعل
و المُخانة: هي خون النصح يعني لم يخلص في النصح و نقصه
و خون الود كذلك عدم الإخلاص فيه و الإنتقاص منه فكانت منه خيانة لأنه اؤتمن على أمر كالنصيحة مثلاً فلم يخلص.
إن الأمانة تكون متصورة ضمن مفاهيم معينة. فإن نظرة الجاهلي للأمانة قد نبعت من مفاهيمه الجاهلية بناء على أنه قد اوتمن على أمر فإن أداه كان أميناً و إن لم يؤده كان خائناً لأمانته في هذا الأمر، فهو بناءً على مفاهيمه قد إعتُبِر أبا رغال خائناً.
فكانت الأمانة عندهم لها مدلول لمفهوم معين متصور في الذهن و له واقع ثم جاء تصور المفهوم المخالف للأمانة و هو الخيانة و لم يكن تصور الخيانة أولا ثم الأمانة بل الأصل هو الأمانة فما خالف الأصل كان الخيانة.
فمن اؤتمن على أمرٍ معيّن فأداه كان حافظاً للأمانة فإن لم يؤدِ هذا الأمر كان خائناً لعدم تأديته لهذا الأمر.
و كذلك الرأسمالي و الإشتراكي و البوذي و أي صاحب ملّة حاله واحد فلا يوصف من لم يؤدِ حقّ الأمر الذي أوتمن عليه إلا بأنه خائن كالكاذب الذي أخبر الخبر على غير وجهه لا يوصف إلا بهذا الوصف و الصادق الذي يخبر بالخبر على و جهه كذلك، و صدق الله العظيم (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ) (آل عمران: من الآية75 )
هذا بما هو دون العقيدة..
قال القتبيّ: أصل الخيانة أن يؤتمن الرجل على أمر فلا يؤدي الأمانة فيه، قول الحق سبحانه (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ )(البقرة: من الآية187) يعني تخونوا أنفسكم بالمباشرة في ليالي الصوم.
فقد ذكر الطبري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجع من عند النبي صلى الله عليه و سلم و قد سَمِر عنده ليلة فوجد امرأته قد نامت فأرادها فقالت قد نمت فقال لها ما نمت فوقع بها. و صنع كعب بن مالك مثله، فغدا عمر على النبي فقال أعتذر إلى الله و إليك فإن نفسي زيّنت لي فواقعت أهلي فهل تجد لي من رخصة..؟ فقال لي لم تكن حقيقاً يا عمر.. فلما بلغ بيته أرسل إليه فأنبأه بعذره في آية من القرآن.
قول الحق سبحانه و تعالى (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (غافر:19) هو ما تُسارق النظر إلى ما لا يحل النظر إليه أو هو النظرة المريبة.. فالناظر إلى ما لا يحل له النظر إليه نظرة خيانة يُسيّرها مسارقة يعلمها الله... لأنه إذا نظر أول نظرة – الفجاءة – غير معتمد الخيانة غير آثم و لا خائن، فإن اعتاد النظر و نيته الخيانة فهو خائن النظر، و في الحديث ( ما كان لنبي أن يكون له خائنة الأعين ) ؛ يعني أن يضمر في نفسه غير ما يظهر... فإذا كفّ لسانه و أومأ بعينه فقد خان، و قد روى أحمد قال حدثنا حسن بن موسى حدثنا بن لهيعة حدثتنا أبو الأسود عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: ( لا يجتمع الإيمان و الكفر في قلب امرءٍ و لا يجتمع الصدق و الكذب جميعاً و لا تجتمع الخيانة و الأمانة جميعاً).
قول الحق (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)
1. يا أيها الذين آمنوا: هو خطاب عام لجماعة المؤمنين و كذلك الأمانات عامة و فيه تفصيل فهو خطاب لكل واحد من المؤمنين بعينه ؛ كالأستاذ حين يقول للطلاب أخرجوا أقلامكم فهذا أمر لكل طالب أن يخرج قلمه، ( لا تخونوا ) نهي و تحذير فإياك أن تخون بعد أن آمنت بالله رباً بمحض إختيارك و أنت تعلم أن الإيمان بالله يوجب طاعته فيما أمر.
فلا تخن لأن الخيانة كلها الإنتقاص و عدم التمام و عدم الوفاء وهي الغدر، و أما الإنتقاص فهو الوقوف بعيداً عن الكمال و الإتمام المطلوب و الإنسان حين آمن أصبح الإيمان عنده أمانة، و أمانة هذا الإيمان يقتضي أن لا يجعل لمخلوقٍ و لاية عليه و لا ولاء له إلا أن يكون هذا الولاء نابعاً من اتباع منهج الله تعالى و هذه هي أمانة الشهادة و أمانة الرسالة و حملها فهو الحرص على تطبيق كل ما بلغه الرسول صلى الله عليه و سلم.
فكان الخطاب للمؤمنين من الله تعالى حين حملوا أمانة الإيمان بقولهم لا اله إلا الله إعتقاداً بأنه لا أحد يمكنه أن يتصرف فيهم أو يملك لهم ضراً أو نفعاً غير الله تعالى و أنه و حده المُعِزّ المُذل الناصر المحيي و المميت.
يقول السيد قطب رحمه الله في الظلال (( إن التخلي عن تكاليف الأمة المسلمة في الأرض خيانة لله و للرسول، فالقضية الأولى في هذا الدين هي قضية ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) قضية إفراد لله سبحانه و تعالى بالألوهية و الأخذ في هذا بما بلغه محمد صلى الله عليه و سلم وحده، و البشرية في تاريخها كله لم تكن تجحد الله البتة ؛ و لكنها إنما كانت تشرك معه آلهة أخرى هو أحياناً قليلة في الإعتقاد و العبادة، و أحياناً كثيرة في الحاكمية و السلطان و هذا غالب الشرك و معظمه، و من ثم كانت القضية الأولى لهذا الدين ليست حمل الناس على الإعتقاد بألوهية الله و لكن حملهم على إفراده – سبحانه – باللألوهية و شهاده أن لا إله إلا الله محمد رسول الله أي إفراده بالحاكمية في حياتهم الأرضية كما أنهم مقرون بحاكميته في الكون تحقيقاً لقوله سبحانه (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ )(الزخرف: من الآية84)
و هذه هي قضية هذا الدين إعتقاداً لتقريره في الضمير و حركةً لتقريره في الحياة، و من هنا كان التخلي عنها خيانة لله و للرسول يحذر الله منها العصبة المسلمة التي آمنت به و أعلنت هذا الإيمان فأصبح متعيناً عليها أن تجاهد لتحقيق مدلوله الواقعي و النهوض بتكاليف هذا الجهاد في الأنفس و الأموال و الأولاد ) (1)
2. لا تخونوا الله و الرسول: بعد أن آمنتم بأنه هو الخالق البارئ الموجد من عدم، لا تخونوا الله بعد أن أرشدكم إلى الخير في الأفعال و الأقوال و أتمّ عليكم نعمه و قبلتم بحمل الأمانة التي عرضها على غيركم فقبلتموها أنتم فلا تخونوا الله بعد حملكم للأمانة. روى الترمذي الحكيم أبو عبد الله: حدثنا اسماعيل بن نصر عن صالح بن عبد الله عن محمد بن يزيد بن جوهر عن الضحاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ( قال الله تعالى لآدم: يا آدم إني عرضت الأمانة على السموات و الأرض فلم تطقها فهل أنت
حاملها بما فيها؟ فقال: و ما فيها يا رب؟
قال: إن حملتها أُجرت و إن ضيعتها عُذّبت، فاحتملها بما فيها فلم
يلبث في الجنة إلا قدر ما بين الصلاة الأولى إلى العصر حتى أخرجه الشيطان منها ).
قلنا إنّ الأمانة يُقابلها الخيانة و الأمانة هي الأمر الذي يستودعه واحد عند آخر بدون وثيقة أو شهود، و هي لا تكون إلا عن قناعة و اطمئنان و رضاً فلا تحصل بالجبر و الإكراه، ثم تُحدث في النفس التزاماً بمقتضياتها، فمن مقتضياتها عدم التفريط و الحفظ و الدفاع عنها.
و الإلتزام هو ضبط التصرفات من أفعال وأقوال وفق منهج ومفهوم و وجهة نظر محددة يكون الضابط فيها للامر والنهي ثم تأتي بعد ذلك التكاليف الشرعيه لتحدد سلوك الانسان، فالذي قال ( لا اله الا الله محمد رسول الله ) هذا التزام منه حصل بطاعته واختياره ورضاه فلا بد له من ضبط سلوكه وفق هذه التكاليف الشرعية فمن كان عنده الالتزام تقبّل التكاليف ومن لم يحصل عنده الالتزام لم يقبل بالتكاليف وتعتبر كل مخالفة لحكم قبلته من الله الذي آمنت به خيانة للامانه.
فالإيمان بوجود الله التزام، ومقتضيات هذا الالتزام طاعته جل وعلا في كل ما أمر في السر والعلن واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:
(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) (آل عمران:32)
فالإسلام ليس كلمات تقال باللسان وابتهالات وتضرع بل هو منهج حياة وضابط للسلوك في كل أمر جلّ أو دقّ وهو شهادة وقناعة وتبليغ ؛ فالقناعة أمانة والتبليغ أمانة والعمل لإيجاده في واقع الحياة أمانة، و رد المجتمع من الاحتكام إلى الطاغوت إلى حاكميه الله أمانة وكلها أمانات ومن لم ينهض بها فقد خانها وخان عهده مع الله الذي عاهده عليه ونقض بيعته التي بايع بها رسول الله.
وهذه الأمانات كلها بحاجة إلى تضحية وصبر واحتمال وترفع عن فتـنة المال و الولد لأن الله عنده الأجر العظيم.
3. و أنتم تعلمون: و أنتم تعلمون أنكم تخونون ؛ فالخيانة توجد منكم عن تعمدٍ لا عن سهو، و أنتم علماء تعلمون قبح القبيح و حسن الحسن، و أنتم تعلمون أن الصدق حسن و الكذب قبيح، فحين تكذبون فإنكم تخونون و أنتم تعلمون، ففي الحديث عن وكيع قال: سمعت الأعمش قال: حُدثت عن أبي أُمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ( يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة و الكذب )، و قوله صلى الله عليه و سلم: ( اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع و من الخيانة فإنها بئس البطانة ) خرجه النسائي عن أبي هريره.
فصاحب البدعة الذي أحدث في الإسلام أو نسب إلى الإسلام ما ليس فيه خائن و هو يعلم أنه خائن، و الذي يعين الظالم على ظلمه لتكون له يد عنده خائن، و الذي يوالي من نهى الله عن موالاتهم خائن و هو يعلم أنه خائن.
أما نهاية الخونة في الدنيا فحكمة الله اقتضت أن تكون على أيدي أسيادهم و من والوهم حتى تكون الحسرة عليهم أشد و أوقع في النفس، فهذا الوزير مؤيد الدين أبو طالب ابن العلقمي الذي خان الله و رسوله و أمير المؤمنين المستعصم و مالأ هولاكو أذله الله على يد سيده هولاكو حتى مرّت به امرأة و هو راكب برذوناً و سائق يسوق به و يضرب فرسه، قالت له: يا ابن العلقمي هكذا كان يعاملونك بنو العباس...؟؟
و شاه ايران و غيره و غيره و العبرة قائمة متجددة تحمل البشرى لبداية ظهور الحق و نهاية الباطل يتجرع فيها الخائن الذل على أيدي من طلب العزّ منهم و صدق الله العظيم (لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ) (الرعد:34)
بقيت في الموضوع مسألة واحدة يشرحها حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي رواه الحاكم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: ( تأتي على الناس سنوات خدّاعات يُصَدّق فيها الكاذب و يُكَذّب فيها الصادق و يؤتمن فيها الخائن و يُخَوَّن فيها الأمين و ينطق فيهم الرويـبضة، قيل يا رسول الله: و ما الرويـبضة؟؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة ).
ففي محاولة فهمنا للحديث نرى أنه سوف يكون كاذب يُصَدّق و يؤتَمن، و صادق يُكذّب و يُخَوّن، و الذي يُصدق الكاذب و يأتمنه و يكذب الصادق و يخونه هم الملأ الذين كانوا في عهد فرعون يصدقونه و يأتمنوه و يكذبوا موسى و يخونونه و يتهمونه بالفساد في الأرض و يُزينون لفرعون عمله و أنه مصلح لا يريد إلا الرشاد.
و قد أخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم عن حالهم في الحديث الذي رواه الحاكم و الذهبيّ عن سعيد بن جبير عن أبي هريرة قال: ( و الذي نفس محمد بيده لا تقوم الساعة حتى يظهر الفُحش و البُخل و يُخَوّن الأمين و يؤتمن الخائن و يهلك الوعول و يظهر التحوت، قالوا يا رسول الله: ما الوعول و ما التحوت قال: الوعول و جوه الناس و أشرافهم و التحوت الذين كانوا تحت أقدام الناس لا يُعلم بهم
منقوووول
عائشة البربية- عضو أساسي بالمنتدى
- الجنس : عدد المساهمات : 120
درجة التقدير : 1
تاريخ الميلاد : 01/01/1970
تاريخ التسجيل : 29/09/2010
العمر : 54
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى