الشعراء الصعاليك في الجاهلية ، ( تأبط شراً نموذجاً )
صفحة 1 من اصل 1
الشعراء الصعاليك في الجاهلية ، ( تأبط شراً نموذجاً )
يقول الأزهري في معنى الصعلوك : هو الفقير الذي لا مال له ولا إعتماد .
ويقول د. شوقي ضيف في كتابه ( العصر الجاهلي ) : الصعلوك في اللغة هو الفقير الذي لا يملك من المال ما يُعينه على أعباء الحياة .
وفي جمهرة أشعار العرب ، الصعلوك : هو الفقير ، وهو أيضاً المتجرد للغارات .
والصعاليك أفراداً خرجوا على طاعة بيوتهم وعشائرهم وقبائلهم لأسباب عديدة أغلبها يتعلق بعدم قدرة الفرد منهم على التجانس مع الجماعة وبغض النظر عن تعدد الأسباب وتنوعها ، والتي تؤدي في النهاية إلى قيام الصعلوك بالإنسلاخ الكلي عن قبيلته ومجتمعه ، والعيش إعتماداً على النفس وعن طريق الإغارة على كل من حوله من بشر وخطف ما لديهم من خيرات . وكانت القوافل التجارية وقوافل الحجاج من أكبر أهدافهم في السلب والنهب ، حيث كانوا ينتشرون حول المدينة والطائف وأطراف اليمن الشمالية . وكان أكثر تواجدهم في نجد وسط الجزيرة العربية .
كلمة ( صعلوك ) مفردة لغوية أُطلقت على بعض أفراد العشائر الذين يقومون بأعمال منكرة لا تتفق مع السلوك العالم المتعارف عليه للقبيلة أيام الجاهلية ، ولم يكن الصعاليك يعترفون بالمعاهدات والإتفاقيات المقامة بين العشائر ، وبأوصافنا المُعاصرة اليوم فهم ( الخارجون على القانون ) ، لهذا كانت القبيلة تقوم بخلع وطرد الصعلوك الذي سيلجأ بعد طردهِ للعيش مع أفراد يشابهونه سلوكياً وأخلاقياً ويعيشون في مجتمع خاص ومغلق لهم .
الصعلوك يعيش في حالة خوف دائم وترقب قلق وحذر على أعلى المستويات ، خوفاً من أن يحظى بهِ طالب ثأرٍ أو مترقب مترصد يقتفي أثره محاولاً إنهاء حياته وشره الدائم على سلامة الناس !، لهذا نرى الصعلوك يتآلف ويلتحم ويتكتل مع أفراد من نوعيته يتراوح عددهم بحسب الحاجة لذلك العدد ، فقد يكونون إثنين كما في ثنائي ( تأبط شراً والشنفري ) أو بأعداد كبيرة كالتي كان يُحارب بها الشاعر الصعلوك عروة بن الورد ، وهذه التكلات تعطيهم حماية ومرجعية فقدوها بعد أن خرجوا من عشائرهم أو بعد أن خلعتهم تلك العشائر بسبب إجرامهم وعدائيتهم وجَرَدَتهم من حقوق (( الأخذ بالثأر ، والإنتقام ، والحماية ممن يعتدي عليهم لو كانوا تحت حماية العشيرة وبحسب مفاهيم وتقاليد العصبية القبيلة )) ، لذلك نراهم يتوحدون ويتآخون ويتساعدون في أمور صعلكتهم ووحدة هدفهم وربما مصيرهم ومصالحهم المشتركة .
كذلك تمت تسميتهم ب ( الخلعاء ) !، لأن قبائلهم خلعتهم ورفضتهم بسبب أعمالهم الشريرة ، وكان شيوخ العرب يومها يُشهِرون في سوق عطاظ وغيرها من الأسواق خلعهم لبعض أبناء القبيلة من الأشرار ، كما نفعل اليوم في التبرؤ من أشخاص في العائلة أساؤوا لإسم تلك العائلة أو العشيرة !، لهذا كانت تنمو في داخل الصعاليك مشاعر الحقد والضغينة والنقمة والتمرد على مجتمعاتهم وقومهم وعشائرهم ، وتنمو في دواخلهم عقداً نفسية عميقة الندوب ولا تشفى بمرور الزمن والتقادم ، بل قد تبرد بأخذ الثأر والإنتقام والتنكيل بمن خلعهم وحرمهم من حق الدم ، وكان هذا سبباً كبيراً لقسوتهم ووحشيتهم في معاملة الناس وبطشهم حتى بأبناء عشائرهم الأصلية !.
كان الموت يترصد الصعلوك في كل دقيقة من حياته ، لأنه مطلوب لعدالة المجتمع يومذاك ، ومُطارد ومُستهدف من قبل كل المجتمع الجاهلي المحيط به ، لِذا تتولد في داخله روح الإستهانة بالموت الذي هو أقرب للصعلوط من حبل وريدهِ ، ومن حالة إرتباطهم اليومي الدائم بالموت وتوقعه تولدت فيهم روح العبث والقدرية والشجاعة والإقدام وتحدي المخاطر والشراسة والضراوة في القتال لأنهم يعرفون يقيناً بأن سقوطهم مرة واحدة فقط يعني نهايتهم وموتهم على أيدي مطارديهم وخصومهم الكثيرين ، وأن لا أحد سيرحمهم أبداً !.
وفي أغلب أشعارهم يلمس المرء حالة القلق والمآساة والمرارة والشعور بالوحدة الحياتية التي لا نصير لهم فيها غير سيوفهم ورفاقهم من الصعاليك ، يقول الشاعر الصعلوك الشنفري :
إذا ما أتتني ميتتي لمْ أُبالِها ===== ولم تذر خالاتي الدموع وعمتي
لكل ذلك كان الصعلوك قاسياً همجياً مستميتاً في قتالهِ ، ولا يوقفه سبب عن البطش بأي إنسان من أجل أن يسد رمقه وجوعه وإملاقهِ ليعيش يوماً إضافياً !، بالضبط كذئبٍ بري إن لم يَقتُل فسيُقتَل .
ولم تكن للصعاليك أية أخلاقيات في نمط عيشهم وسلوكهم وتوجهاتهم ، لأنهم كانوا يعيشون ليومهم فقط وكما تعني المفردة الأنكليزية ( Survivor,s ) حيث كان همهم الوحيد هو البقاء على قيد الحياة لمدة زمنية أطول ، وحياة كهذه تُسْقِطُ عن الفرد كل أنواع القِيَم الحياتية بحيث يصبح شائعاً مبدأ ( الغاية تُبرر الوسيلة ) ، والتي تدعو الصعلوك إلى عدم الإطمئنان والركون والوثوق بأحد ، ومن ثم تحفيزه وتشجيعه على الفتك حتى بصاحبه ورفيقه الصعلوك أحياناً فيما لو إقتضى الأمر ، كما حدث بين ( الأخينس بن كعب الجهني ) و ( الحصين العمري ) ، وكلاهما كان من أعنف الفتاك الصعاليك وأشرسهم ، فحين خرجا للغارة والسلب ، لقيا رجلاً من تجار كندة ، فقام الحصين بقتلهِ ، وإقتسم الغنيمة مع صاحبه الأخينس ، لكن الأخينس طمع بحصة الحصين المسكين ، وقام بغدره وقتله ، وسلبه حصته من الغنيمة . وتقول الروايات أن ( صخرة ) زوجة الحصين بقيت تسأل الناس والمسافرين والقوافل عن خبر أخيها الحصين !، فجاء فيها الشعر الذي القاه الأخينس الجهني ، وإحدى أبياتهِ القائلة :
تُسائِلُ عن حصينٍ كل ركبٍ ===== وعند جهينة الخبر اليقينْ
وجهينة هو الأخنس الجهني ، قاتل الحصين العمري !. وأصبح بيت الشعر هذا من أمثال العرب !.
كانت أسلحة الصعلوك : السيف والقوس والرمح والدرع والِمغفر ( لباس الرأس ، وهو كالبيضة ، وفيه أطرافاً مسدولة على قفا وأذني لابسهِ ، وربما جعل منها وقاية لأنفه أيضاً ، وقد تكون من زرد أيضاً ) ، ومن أسلحة الصعلوك أيضاً ضراوته وإستبساله وسرعته في التحرك والمراوغة والتكتيك في الكر والفر السريع الذي كان غاية الصعلوط في التخلص من الموت والهرب بجلده قدر الإمكان ، ونرى هنا أنه لم يكن يهتم بمقولات ومفاهيم الشجاعة والجبن والصمود والسمعة بقدر إهتمامهِ وتركيزهِ على أن يبقى على قيد الحياة ، لِذا كان يتبع في غاراته مبدأ ( المباغتة والضرب والهرب السريع ) ، وهذا يذكرنا بحرب العصابات ( Hit & Run ) أضرب وإهرب . ولم يكن الصعلوك المقاتل يخاف أو يستحي من الهرب عندما يحس بالخطر ، وفي هذا يقول الشاعر الصعلوك أبي كبير الهذلي :
فإن تزعمي أني جبنتُ فإنني ===== أفر وأرمي مرة كل ذلك
أقاتل حتى لا أرى لي مُقاتلاً ===== وأنجو إذا ما خفتُ بعض المهالكِ ( من ديوان الهذليين ) .
كان الشعراء الصعاليك يتباهون ويتفاخرون بسرعة عَدْوِهِم التي كانت تنقذهم أحياناً من تحديق العدو ومحاصرته لهم ، وكانوا يعتبرون الفرار من القتال عند إحساسهم بالخطر نوع من البطولة والشطارة والقدرة على ضبط الأعصاب وحسن التصرف في الملمات والمخاطر ، وإن الفرار يوفر لهم فرصة ثانية لمعاودة خلق المواجهة في ظروف أحسن تميل لصالحهم ، وفلسفتهم هذه جعلتهم يسخرون من الحمقى الذين يرمون أنفسهم في التهلكة من أجل أن يقول عنهم الناس ( شجعان ) !!، وما فائدة الشجاعة إذا كانت ستورثك الموت المؤكد !!؟ .
كان الصعاليك يعيبون الصعلوك الذليل القانع بمصيره وتشرده وجوعه والعائش على الصدقات ، ويكنون كل صعلوك لا يعتمد على سيفه في إعالة نفسه ب ( العيل - جمعها عِيال ) ، وحول هذا يقول السليك بن السلكة ، وهو أحد شعراء الجاهلية الصعاليك :
فلا يصلي بصعلوك نَئوم ===== إذا أمسى يُعد من العيالِ
ولكن كل صعلوكٍ ضروبٍ ===== بنصل السيف هامات الرجالِ
وكان عرب الجاهلية يطلقون على بعض الصعاليك تسمية ( أغربة العرب ) !، ويقول كِتاب تاج العروس ( أن أغربة العرب : سودانهم ) . أي الزنوج السود ، وكلهم سَرى إليهم السواد من أمهاتهم . وتصعلك بعضهم بسبب إحتقار عشائرهم لهم والتقليل من شأنهم وقيمتهم ، ولعدم إعتراف آبائهم ببنوتهم لهم ، لأنهم أبناء إماء ، أو لفقرهم وظلم المجتمع لهم ومعاملتهم كطبقة مملوكة كالحيوان المملوك ليس لأحدهم جسمه أو أهله أو نسله ، وكل ما يملكه أو يحصل عليه يكون ملكاً لسيده الذي قد يكون والده العربي في أغلب الأحيان !، وكل من كان يُخالف العرف السائد منهم جاز لسيده قتله ، كذلك كان للسيد حق الإستمتاع بمملوكته وبجواريه من غير قيد أو شرط" . ( د . جواد علي - المفصل في تأريخ العرب قبل الإسلام ) .
و ( أغربة العرب ) أيضاَ هم كل من كان أبوه حراً وأمه ( آمة ) زنجية سوداء ، وبسبب لونهم لم يعترف آبائهم بهم ، وبمعنى آخر أنهم طبقة من العبيد من أبناء الأمهات الحبشيات ، ولهذا أُطلق عليهم تسمية ( أغربة العرب ) أو ( الغِربان ) تشبيهاً لهم بالغراب ولونه الأسود ، وكان من أبناء الإماء الشاعر الفارس عنترة بن شداد العبسي ، لكنه لم يكن من الصعاليك .
كان الصعاليك السود البشرة ( من أصول زنجية ) كثيرون ، لأن رجال العرب نكحوا ما لا يُحصى عدده من النساء والإماء الزنجيات في الجاهلية والإسلام ، وهذا أدى إلى تواجد شريحة إجتماعية كبيرة جداً من الهجناء الأقوياء الجسد الذين إمتازوا تأريخياً بتحمل الصعاب والمشقات والركض والحرب واللامبالاة في مواجهة المخاطر ، كما هم زنوج أميركا وأروربا وأفريقيا اليوم ، وتفوقهم اللا محدود في الألعاب الرياضية والأولمبية وخاصة العاب القوة والجري لمسافات قصيرة وطويلة . وكان أشهر سودان صعاليك الجاهلية يومذاك هم : السليط بن السليكة ، تأبط شراً ، والشنفري .
ولآن الصعاليك كانوا من الفقراء ، فكان من الصعوبة بمكان أن يقتنوا فرساً يخدمهم في غاراتهم وتنقلاتهم السريعة الخاطفة ، لِذا إعتمدوا على ركضهم وعَدوِهِم وخفة حركتهم في التنقل ، وعلى سرعة هربهم من متعقبيهم في حالة فشل أو نجاح غاراتهم وغزواتهم الصغيرة تلك ، فكانوا يلجأون للإختباء والتستر في الأماكن الوعرة جغرافياً ، والكهوف والمغاور وشعاب الجبال والمرتفعات الصعبة التي كانت تطل على الطرق الجبلية الضيقة ، وهذا كان يعطيهم المبادرة والفرصة على التربص بالأفراد والجماعات ومن ثم مهاجمتهم وأخذ ما معهم من خيرات . وتقول بعض الكتب أنهم كانوا يُخبئون الماء في تلك المغاور محفوظاً في بيض النعام !!.
وقد عرفت أيام الجاهلية الكثير من الشعراء الصعاليك العدائين ، مثال : الشنفري ، السليك بن السلكة ، ، تأبط شراً ، المنتشر بن وهب الباهلي ، أوقى بن مطر المازني ، عمر بن البراق ، أسيد بن جابر .
وكان لبعض هؤلاء الصعاليك أفراساً سرقوها في غاراتهم الكثيرة ، لِذا فبعضهم كان من الفرسان الذين يحترفون القتال والغزو وهم على ظهور الجياد ، وكان لعروة بن الورد فرس إسمه ( قرمل ) ، وللسليك بن السليكة فرس أسمه ( النحام ) ، وللشنفري فرس يدعى ( اليحموم ) .
كان أغنياء القوم هدفاً كبيراً للصعاليك وخاصة من كان شحيحاً وبخيلاً ومعروف في معاملته السيئة للفقراء ، وبسرقة أموالهم ومقتنياتهم كان الصعاليك يحافظون على ديمومة حياتهم وحياة غيرهم من الصعاليك الضعفاء المرضى الذين كان يفتك بهم الجوع والمرض والفقر الذي لا يرحم ، وهذا يذكرني بقول لأبو ذر الغفاري ، وقد ينسب لأبا حيان التوحيدي ، يقول : "عجبتُ لمن لا يجد القوت في بيته ، كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه" ؟ .
وبجانب كل أحكامنا القاسية على نهج وسلوك وحياة الصعاليك فأيضاً علينا أن نعترف بالوجه المضيئ والخصال الجيدة والإنسانية فيهم ، ومنها عطفهم ومساعدتهم للمرضى والضعفاء والمسحوقين والمحاويج من أبناء مجتمعهم الفقراء ، وكمثال نرى ذلك واضحاً في سيرة بعضهم أمثال ( عروة بن الورد ) و ( أبو خراش الهذلي ) الذين كانوا يساعدون المئات من الصعاليك الذين لا يقدرون على توفير لقمة يومهم ، وكان عروة بن الورد قد جمع حوله الكثير منهم ، إستعمل بعضهم في غزو ونهب الأثرياء والموسرين وإستعمال أموالهم في إطعام الضعفاء والمرضى والفقراء من نفس أبناء ذلك المجتمع القاسي ، ولهذا فبعض المؤرخين يُشَبِهون سيرة عروة بن الورد بسيرة ( روبن هود ) قاطع الطريق الأنكليزي الذي كان يسرق الأغنياء ليُطعِم الفقراء .
كان الصعاليك في الجاهلية قد إنتشروا كالوباء المُعدي في كل الجزيرة العربية التي كانت بصورة عامة تُعاني من الفقر والجوع والتصحر وقلة الموارد وإستبداد السادة والقادة والموسرين فيها وإنتشار إستغلال الإنسان القوي للإنسان الضعيف بصورة غير عادلة ، وكل هذه الظروف القاسية ساعدت جداً على إنتشار الصعلكة كطريقة للحياة يضمن فيها الفقير والمنبوذ والمحروم لقمة عيشهِ بسيفه وغزواته ، وخاصة أن مجتمع الجزيرة العربية كان مجتمع بوادي وعوادي يعيش على الغزو والسلب والنهب والقسوة ، وهذا ساعد على أن تكون الصعلكة قوة ضاربة مرهوبة الجانب ، وبالضبط كما كان ( العيارون والشطار ) في زمن الدولة العباسية في بغداد .
ولم يكن يهم الصعلوك أن يستخدمه في القتال أي فرد من مجتمع الجزيرة العربية ، فغاية الصعلوك كانت دائماً توفير مستلزمات الحياة اليومية ، لِذا لم يكن يهمه قيمة أو توجه أو سياسة وسلوك وأخلاق من سيستخدمه كمقاتل وغازي !، ودليل ذلك أن ( أمرؤ القيس ) وبعد أن أصبح ضليلاً خليعاً ، قام بجمع الكثير من الصعاليك العرب من قبائل بكر بن وائل وحِمْيَر وغيرهم من المقاتلين بخبز بطنهم ( العضاريط ) وما يُصيبونه من القتال والغزو من غنائم وأسلاب ، وراح يُحارب بهم ، فأفاد وإستفاد !.
ملاحظة : العضاريط مفردة عربية فصحى تعني الطبقة من الناس الذين يخدمون بعض الأسياد أو الأغنياء بخبز بطونهم ، أي لا معاش أو رواتب لهم ، وقد جاء ذكرهم في واحدة من أشعار المتنبي في قوله :
ولذلك أيضاً نرى أنه حين ظهر الإسلام ، إتصل رسول الإسلام محمد بن عبد الله بالصعاليك ، وأعطاهم ما كانوا يحلمون به من طريقة حياة وحقوق وإمتيازات ، وكانت رسالته وشروطه لهم : (( إن آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ، وصدقوا ، فيكون عبدهم حر ، ومولاهم محمد ، ومن كان منهم من قبيلة لا يُرد إليها لمعاقبته ، ومن كان فيهم من دمٍ أصابوه أو مالٍ أخذوه فهو لهم ، وما كان لهم من دَينٍ في الناس رُد لهم ، ولا ظلم عليهم ولا عدوان )) ( طبقات إبن سعد ) .
وهنا نرى أن محمداً قد ضرب عصفورين بحجر واحد كما في أغلب تدبيراته وسياسته ، فهو قد ضمنهم إلى جانبه وأمن شر قتالهم الذي كان سيكلفه الكثير الكثير فيما لو فكر في محاربتهم وإستئصال شأفتهم ، وبنفس الوقت عزز جيشه والموالين له بأحسن وأبسل وأشجع المقاتلين العرب قاطبةً يومذاك !.
والجدير بالذكر هنا هو أن أغلب عرب الجاهلية من الذين إلتحقوا بجيش محمد بن عبد الله يومذاك ، لم يلتحقوا به لأنه أعلن النبوة وبشر بالإسلام كدين جديد !، بل لأنهم كانوا جميعاً من رجال الصحراء والبوادي والمدن التي تحيط بها الصحارى ، أي كانوا على أخلاق الصعاليك ، بحيث جاءت سلوكيات الإسلام وحروبه ومغانمه وكأنها قد فًصِلَت لهم ، وهذا يقول لنا عن مدى ذكاء ومكر محمد .
أما هؤلاء الصعاليك الذين يشبهون وحدات وتنظيمات ( المرتزقة ) اليوم ، فأعتقد أن إنضمامهم لمحمد كان أسعد يوم في حياتهم ، لأنهم إستفادوا جداً من غزواته وتوسعاته والخيرات التي جاءت مع تلك الغزوات ، والتي لم يكن يحلم بها سيد أو عبد أو صعلوك في كل الجزيرة العربية ، فمحمد وفر لهم الغزو والنهب والسبي والقسوة والنساء والإماء والعبيد وتعدد الزوجات والخيرات والذهب والأراضي الخضراء في العراق ومصر والشام وغيرها ، وحتى في موتهم وهم يُدافعون عن أحلامه كان قد وعدهم بجنة لم يسبق أن وجدت لها فكرة إلا في رؤوس الحالمين،ومنهم محمد بن عبد الله !.
تأبط شراً ، أشهر الشعراء الصعاليك :
================
الشاعر ( تأبط شراً ) هو ثابت بن جابر بن سفيان الفهمي ، وسموه أيضاً "أبو زهير الفهمي" نسبة إلى قبيلته ( فهم ) في تُهامة . وهو أحد رآبيل العرب ، جمعها رآبيل … لأن أمه لم تلد سواه ، ورآبيل العرب هي تسمية للسباع كثيري اللحم وصغار السن والذئب الخبيث . وترأبلوا : تلصصوا أو أغاروا على الناس وفعلوا فعل الأسد ، أو غزوا على أرجلهم وحدهم بلا والٍ عليهم ، وهذا المعنى هو أقرب المعاني إلى الصحة في تفسير ( رآبيل العرب ) ، وهم الصعاليك واردي الذكر في مقالنا هذا .
تأبط شراً من الشعراء الصعاليك الفحول ، ومن فتاك العرب الأشداء في الجاهلية ، وكان من أشهر العدائين ، لا بل أعدى ذي رجلين وساقين في زمانه كما تدعي الكتب ، ويُقال أنه كان إذا جاع ينظر إلى الضباء فينتقي أسمنها ثم يجري خلفها حتى يظفر بها !. وطبعاً هي من مبالغات وتراكمات الزمن ، إذ يكفي أن نعلم أن سرعة الضبي هي 95 ميل في الساعة !!. وإن سرعة البشر تقل بصورة سريعة بعد ال 100 متر الأولى ، بينما سرعة الضبي تزداد وتشتد بعد ال 100 متر الأولى !!.
كان تأبط شراً إبن آمةٍ حبشية سوداء ورث عنها سواد لونها ، وقد إختلف الباحثون في تعليل مصدر كنيته ( تأبط شراً ) ، فقال بعضهم : لقبته أمه بهِ إذ تأبط سكيناً أو سيفاً وخرج ، وهذا غير مُقنِع ، لأن الصعاليك المقاتلين لا تخلو دقيقة واحدة في حياتهم من حمل السلاح تحسباً وخوفاً من أن يُفاجئهم عدو ، فلِمَ تتعجب أمه لمجرد أنه حمل سلاحاً وخرج !!!؟
وقال آخرون أنه قاتَلَ حيواناً في الفلاة ذات ليلة مظلمة وقتله ، ووضعه تحت أبطه وتوجه نحو قبيلته ، لكن الحيوان لم يكن قد مات بعد ، ولما وصل الرجل قبيلته وكان قد إنبلج النهار ، وجد أن ما تأبطه كان غولاً قبيحاً !!.
ومهما قيل بشأنِ أسباب إسمه فالظاهر أن قبيلته لقبته ب ( تأبط شراً ) لشراسته ولكثرة خروجه على قوانين ونواميس تلك الأيام وجنوحه للشر على الدوام .
ويظهر من خلال أشعاره أن أباه قد مات وهو صغير ، فتزوجت أمه من ( أبي كبير الهذلي ) وكان واحداً من الشعراء الصعاليك المعروفين ، فزاد هذا من إقتباس وتبني تأبط شراً لخصال الشر والصعلكة !، ويعتقد بعض الكتاب والمحللين أن لونه الأسود وتعيير عشيرته له بذلك ولكونه إبن آمةٍ حبشية قد أثرا في أسباب صعلكته وجنوحه للشر في محاولة نفسية للثورة على كل ما حوله والإنتقام من الناس الذين همشوه وإزدروه وعيروه وآذوا مشاعره مذ كان طفلاً !.
وكان كل رفاقه في غاراته وسلبه وغزواته الليلية من الصعاليك الفتاك ، وأبرزهم الشاعر ( الشنفري ) ومعنى أسمه : ( الغليظ الشفاه ) !، وكان أسود اللون ، ومن أم -آمة- حبشية أيضاً !، وأشعار الشنفري تدل القارئ على نفس حياة وظروف تأبط شراً الإجتماعية والبيئية ، ولهذا كانت هناك علاقة صداقة وود وتآخي بين الأثنين .
الشنفري كان من عشيرة الأواس بن الحجر الأزدية اليمنية ، وهو قحطاني النسب ، لكنه لم ينشأ في أحضان قبيلته ( الأزد ) ، إنما نشأ في قبيلة ( فهم ) وهي قبيلة زميله تأبط شراً ، حيث نزل فيها مع أمه وأخ له ، لأن قبيلته ( الأزد ) قتلت أباه ، ولهذا تحولت أمه عنها إلى قبيلة ( فهم ) . وتقول بعض الكتب أن الذي روضه على الصعلكة كان رفيقه المفضل تأبط شراً ، وكانوا يغيرون معاً على قبيلة ( ألأزد ) وينكلون بها قدر مستطاعهم إنتقاماً للشنفري ووالده المقتول ، وتقول المبالغات الشعبية في كتب السيرة أن عدد الرجال الذين قتلهم الشنفري لوحده من الأزد بلغ تسعة وتسعين رجلاً ، وفي النهاية تمكن الأزد أن ينصبوا له كميناً وقع فيه ، فمثلوا به تمثيلاً فظيعاً وقطعوا جسده ورموه للسباع والوحش ، ويقال أن رجلاً منهم عثر بجمجمته فعقرته ( لدغته ) فمات لساعته ، وبذلك يبلغ عدد قتلاه من قبيلته الأزد المائة !!.
في قصص كهذه نجد المبالغات القصصية والخرافة تأخذ مساحة واسعة من الحدث التأريخي ، وتؤسطره بطريقة يتلذذ بها المستمع الشعبي على لسان الراوية في مختلف العصور والأزمان !. كذلك نجد الكثير من المبالغة حول سرعة جري وركض هؤلاء العدائين من الشعراء الصعاليك ، وخاصة في قصص الشاعر ( تأبط شراً ) وسرعته ( السوبر مانية ) الخارقة في العدو والجري وحوادثه العجيبة مع المردة والغيلان والجن !، والتي كانت السبب الأول في كنيته ( تأبط شراً ) وفي كونه أشهر شعراء الصعاليك العرب في الجاهلية .
لحد اليوم ليس لتأبط شراً ديوان شعر مطبوع !، إلا أن أشعاره الكثيرة متناثرة هنا وهناك في متون كتب التأريخ والأدب والروايات الغريبة ، وفيها بعض أشعاره حول لقاءه مع الجن أو الغول ، كذلك يتبين بوضوح من خلال أشعاره نمط وملامح شخصية الصعلوك اللص وقاطع الطريق في الجاهلية ، وروحه البدوية بكل مكرها وعنادها وصلابتها وجرأتها على إقتحام الموت في الليالي الممطرة المظلمة !!، كذلك كانت تنعكس على الصعلوك أيضاً صفات الشجاعة والجرأة والحيلة وقوة الشكيمة والإرادة التي لا تقهر بسهولة رغم كون هؤلاء الصعاليك يمتازون بالهزال والنحافة وضمور الجسد ، وهذه بالضبط كانت صفات ( العيارين والشطار ) وهم برأيي من صعاليك المدن في زمن الدولة العباسية في بغداد كما ذكرتُ سابقاً ، وكان الخليفة الأمين قد إعتمد بالإضافة لجيشه ومواليه على جيش مرتزقة منهم لمحاربة أخيه المأمون في تنافسهم على الخلافة العباسية بعد موت والدهم الخليفة هارون الرشيد ، وكان الأمين والمأمون من والدتين مختلفتين فالأمين كان إبن السيدة زبيدة بنت جعفر بن المنصور وكانت عربية ، والمأمون كان إبن سيدة من الفرس البرامكة ، وكانت قد ماتت أثناء ولادته .
الأمين تولى الخلافة من سنة 193 إلى سنة 198 هجرية ، لكنه خَلَعَ أخاه المأمون من ولاية العهد وأعطاها لولده الرضيع موسى !، وكانت هذه غلطة لا تُغتفر ، ولهذا قامت حرب شعواء بين الأمين والمأمون دارت رحاها في منطقة ( الري ) وإنتهت بهزيمة جيش الأمين ، وقام جيش المأمون بحصار بغداد لمدة ( 12 ) شهراً وضربها بالمنجنيق وخرب أسوارها والكثير من معالمها وحرق أسواقها إلى أن تم لهم قتل الأمين وإرسال رأسه إلى أخيه المأمون في خراسان ، وقد إستمرت خلافة المأمون ( 20 ) عاماً 198- 218 هجرية ، 813 - 833 ميلادية .
وعودة للموضوع بعد هذا الإستطراد نقول :
نهاية الشاعر ( تأبط شراً ) كانت في عام ( 80 ) قبل الهجرة ، الموافق لعام ( 540 ميلادية ) ، وكان قد قُتِلَ خلال إحدى غاراته على منازل هُذَيْلْ ، تلك القبيلة التي طالما ترصدته ولاحقته إلى أن حظيت بهِ وأصابته بجراح خطيرة هرب على أثرها وإختفى ، لكن بعض الأعراب وجدوا جثته في غار يقال لها ( رخمان ) بعد أن مات وحيداً ومتأثراً بجراحه البليغة ، ومن خلال أشعاره وأشعار زميله الشنفري يتوضح أنهما كانا كثيري الإغارة على قبائل الأزد وهذيل وبُجيلة .
أما عن قصة تأبط شراً مع الغيلان !، فيقول بأنه لقي الغولَ في ليلة ظلماء في موقع يُقال له ( رحى بطان ) ، وإنها إعترضتهُ وسدت عليه الطريق !، فراح يُقاتلها بضراوة بسيفه حتى أصاب منها مقتلاً ، وحملها تحت أبطه وسار بها طوال الليل إلى أن وصل إلى قبيلته وأهله وأصحابه ، فوجد في نور الصباح أنها كانت غولاً قبيحة ، ولهذا أطلقوا عليهِ إسم : ( تأبط شراً ) ، وقام بعدها بكتابة القصيدة التالية حول ما حدث في تلك الليلة الظلماء :
نأبطُ شراً : ألا مَن مُبلِغٌ فتيانَ فَهْمِ ===== بما لاقيتُ عندَ رحى بطانِ
وأني قد رأيتُ الغولَ تهوي ===== بسهُبٍ كالصحيفة صَحصَحانِ
فقلتُ لها : كِلانا نِضْوُ أينٍ ===== أخو سفرٍ ، فخلي لي مكانِ
فشدت شدةً نحوي ، فأهوى ===== لها كفي بمصقولٍ يماني
فأضربها بلا دَهَشٍ فخرتْ ===== صريعاً لليدينِ وللجرانِ
فقالت : عُدْ ، فقلتُ لها : رُويداً ===== مكانكِ ! أنني ثَبتُ الجِنانِ
فلم أنفك متكئاً عليها ===== لأنظرَ مُصبحاً ماذا أتاني
إذا عينانِ في رأسٍ قبيحٍ ===== كرأسِ الهرِ مشقوقَ اللسانِ
وساقاً مُخدَج وشواة كلبٍ ===== وثوبٌ من عَباءٍ أو شنانِ
السهب : الفلاة
الصحصحان : ما إستوى من الأرض وإتسع
النضو : المجهد من السفر
الأين : الإعياء والتعب
مصقول يماني : السيف اليماني الصنع
خرت : سقطت وهوت
الجران : باطن العنق من البعير
الجنان : القلب
مخدج : ملقى
شواة كلب : جثة كلب
شنان : من شنَ أي يبس
ولو تَمَعَّنا في البيت السادس من هذه القصيدة ، عن ما قالته الغول بعد أن ضربها بسيفه وأصاب منها مقتلاً :
فقالت : عُدْ ، فقلتُ لها : رويداً ===== مكانكِ ! إنني ثبتُ الجِنانِ
في هذا البيت نجد أن الغول وبعد أن أصاب منها مقتلاً تطلب منه أن يضربها ضربة ثانية بسيفهِ ، إلا أنه يرفض عن فطنةٍ ومعرفة ، حيث زعمت العرب في الجاهلية أن الغولَ إذا ضُرِبَت بالسيف مرة واحدة ماتت ، وإذا ضُرِبَت ثانية عادت لها الحياة ، فتقوم لتقتل ضاربها !!. وهذا يُذكرني ببعض القصص الشعبية التي سمعتها مراراً من والدتي الراحلة ، حيث كانت تذكر في سياق تلك القصص أن بطل القصة ضرب بسيفه الجني أو المارد او العفريت أو السعلوة والغول ضربة واحدة فقط ، وإن الوحش عندئذٍ يصرخ في وجه بطل القصة ، وباللهجة العراقية قائلاً : إثني ( أي أضربني ثانية ) ! ، لكن البطل يرفض عن ذكاء وخبرة قائلاً : أُمي وأبوية ما علموني ع الثني !!. ومن خلال هذه المعلومة الشعبية نجد تلك التضمينة الخرافية المعروفة في قصص الجان وحكايات الفولكلور الشعبي الشرقي ، ومؤادها ان ضربة البطل الصنديد هي ضربة واحدة قاتلة !.
أما الغول فهي نوع من المخلوقات الخرافية ، وقيل أنها على خلقة الإنسان ولكن بصورة قبيحة ومزعجة ، وأن رجلاها رجلا حمار ، وفي كتاب الحيوان للجاحظ أن الغول إسمٌ لكل شيئ من الجن يتعرض للمسافرين وخاصة في الليالي الظلماء ، وقد ذُكِرَت الغول في المثل الذي يستبعد وجود ثلاثة أشياء ، حيث قالت العرب : (( المستحيلات ثلاث إن بحثت عنهم فلن تجدهم : الغول والعنقاء والخِلُ الوفي )) !.
وكانت العرب تعتبر الغيلان نوع من الشياطين تظهر للناس في الفلاة فتتلون لهم في صور شتى وتظللهم وتهلكهم . وتعتبر الغول كائنات خرافية بين الإنسانية والحيوانية ، وهي كذلك بين الذكر والأنثى ، لكن غالبية من تطرق للغول يقول أنها أنثى أكثر مما هي ذكر ، ويبقى شاعرنا ( تأبط شراً ) أكثر من أقترن أسمه بهذه الغيلان الوهمية !.
في كتاب ( جولة في أقاليم اللغة والأسطورة ) يقول الكاتب علي الشوك : [ من أصناف الجن : الغول والعفريت والسعلاة ، والظاهر أن كلمة ( غول ) مستعارة من السومرية ، وقد وجد البحاثين في قاموس شيكاغو للآشوريات أن كلمة ( gullu - غول أو عفريت ) الأكدية ، مستعارة من اللغة السومرية .
ومن المعروف أن الإسلام يعترف بالجن ، ولكن كان هناك دائماً من يُشكك بوجودهم كالمعتزلة مثلاً ، وحاول الفارابي التملص من الموضوع في كلامه عنهم ( خوفاً من عقاب المسلمين ) ، إلا أن إبن سينا أكد في تعريف الكلمة ، وعلى نحو واضح بأنها لا تمت للحقيقة بصلة !، ] .
وفي كتاب ما قرأتُ أن السر ( هاري دجانسون ) العالم الأنثروبولوجي البريطاني كان قد سجل هذه الفرضية الجريئة التالية : (( أن الكائن الذي سماه العلماء بِ ( النيانتردال ) وهو نوع من الإنسان القديم ، كان ذا جبين منخفض مع واقية وجه مدارية ، وكان قصيراً مع نوع من الجسامة ، وعلى صورة حيوان أشقر شعر الرأس والجسد ، وكان ثقيلاً لا ذقن له ، وله مشية تشبه مشية الغوريلا ، كذلك كانت له ميول متوحشة ، وربما كانت شخصيته لا تزال متناقلة شفاهياً ومنها إستوحى البشر تأريخياً شخصية الغول الميثولوجي !!!؟ .
[ وفي ذكر الغول والغيلان والتغول أخبار وحكايات كثيرة وعجيبة ، فقد زعم العرب أن الغول يتغول لهم في الخلوات في أنواع الصور ، فيخاطبونها وتُخاطبهم . وزعمت طائفة من الناس أن الغول حيوان مشؤوم وأنه خرج منفرداً لم يستأنس ، فتوحش وطلب القفار ، وهو يشبه الإنسان والبهيمة ، ويتراءى لبعض المسافرين في أوقات الخلوات والليالي المظلمة
كذلك تقول القصص أن عمر بن الخطاب رأى الغول في سفرهِ إلى الشام فضربها بالسيف وقتلها !!.
أما الجاحظ فقال في الغول : الغول كل شيئ يتعرض للسيارة ( الكائنات السائرة ) ويتلون في ضروب من الصور والثياب ، وزعموا أنه ذكر وأنثى ، إلا أن غالبيتهم أكدت أنه أنثى .
وهناك مخلوق خرافيٌ آخر آمَنَ العرب بوجوده وأطلقوا عليه إسم ( القطرب ) وهو نوع من الأشخاص المتشيطنة ، وقيل أنه كان يظهر في أنحاء اليمن وفي أعالي صعيد مصر ، وقيل أنه كان يُلاحق الإنسان فينكحهُ !!، فيدود دبر الإنسان فيموت ، وربما أمسك القطرب بالإنسان ثم أطلقه حراً ، وكان الناس في هذه الحالة يتساءلون : أمنكوحٌ هو أم خائف مذعور ؟ فإن كان منكوحاً أيسوا منه وتركوه ، وإن كان مذعوراً سكنوا من روعه وشجعوا قلبه ] . ( كتاب المستطرف في كل فن مستظرف ) .
الصعلكة والصعاليك الشعراء العرب في الجاهلية وصدر الإسلام كانت ظاهرة إجتماعية برزت وتكاثرت بسبب الحاظنة الملائمة التي أفرزنها وإحتوتها وساعدت على نموها وإنتشارها ، وهذه الظاهرة موجودة في كل مجتمعات العالم حتى المتحضر منه ، ولكن بأسماء وأشكال وتعبيرات مختلفة أخذت شكل الإناء الإجتماعي والبيئي للمجتمع الذي ظهرت فيه ، في أميركا مثلاً هناك العديد من الصرعات الإجتماعية التي تميل إلى الجريمة والعنف وإستعمال القوة ، والتي تحمل نفس مسببات الصعلكة في الجاهلية ، وحتى أن الكثير منهم فنانين أمثال مغني الراب وغيرهم ، وهم نسخة من الصعاليك الشعراء العرب في الجاهلية ، ولكن بشكل مغاير ، لِذا بإمكاننا القول أن الصعلكة كانت موجودة منذ بدء الزمان ومنذ مجتمع الكهف ربما ، وستتواصل بأشكال لا تُحصى ولا تخطر على بال ، وفي كل دول ومجتمعات العالم المتحضر أو المتأخر .
هديتي للقراء الكرام ، معزوفة موسيقية رائعة بعنوان (( بغداد )) ، للموسيقي الكَنَدي جيسي كوك ، مع تحيات طلعت ميشو .
الخامس عشر من أيار 2012
مصادر المقال :
موسوعة أساطير العرب …………………….. د. محمد عجينة
العصر الجاهلي ……………………………. د. شوقي ضيف
أدب الجن ………………………………. محمد عبد الرحيم
الأغاني ………………………………….. الأصفهاني
الفولكلور والأساطير العربية …………………. شوقي عبد الكريم
المفصل في تأريخ العرب قبل الإسلام …… د. جواد علي
المستطرف في كل فن مستظرف ……………… شهاب الدين الأبشيهي
ويقول د. شوقي ضيف في كتابه ( العصر الجاهلي ) : الصعلوك في اللغة هو الفقير الذي لا يملك من المال ما يُعينه على أعباء الحياة .
وفي جمهرة أشعار العرب ، الصعلوك : هو الفقير ، وهو أيضاً المتجرد للغارات .
والصعاليك أفراداً خرجوا على طاعة بيوتهم وعشائرهم وقبائلهم لأسباب عديدة أغلبها يتعلق بعدم قدرة الفرد منهم على التجانس مع الجماعة وبغض النظر عن تعدد الأسباب وتنوعها ، والتي تؤدي في النهاية إلى قيام الصعلوك بالإنسلاخ الكلي عن قبيلته ومجتمعه ، والعيش إعتماداً على النفس وعن طريق الإغارة على كل من حوله من بشر وخطف ما لديهم من خيرات . وكانت القوافل التجارية وقوافل الحجاج من أكبر أهدافهم في السلب والنهب ، حيث كانوا ينتشرون حول المدينة والطائف وأطراف اليمن الشمالية . وكان أكثر تواجدهم في نجد وسط الجزيرة العربية .
كلمة ( صعلوك ) مفردة لغوية أُطلقت على بعض أفراد العشائر الذين يقومون بأعمال منكرة لا تتفق مع السلوك العالم المتعارف عليه للقبيلة أيام الجاهلية ، ولم يكن الصعاليك يعترفون بالمعاهدات والإتفاقيات المقامة بين العشائر ، وبأوصافنا المُعاصرة اليوم فهم ( الخارجون على القانون ) ، لهذا كانت القبيلة تقوم بخلع وطرد الصعلوك الذي سيلجأ بعد طردهِ للعيش مع أفراد يشابهونه سلوكياً وأخلاقياً ويعيشون في مجتمع خاص ومغلق لهم .
الصعلوك يعيش في حالة خوف دائم وترقب قلق وحذر على أعلى المستويات ، خوفاً من أن يحظى بهِ طالب ثأرٍ أو مترقب مترصد يقتفي أثره محاولاً إنهاء حياته وشره الدائم على سلامة الناس !، لهذا نرى الصعلوك يتآلف ويلتحم ويتكتل مع أفراد من نوعيته يتراوح عددهم بحسب الحاجة لذلك العدد ، فقد يكونون إثنين كما في ثنائي ( تأبط شراً والشنفري ) أو بأعداد كبيرة كالتي كان يُحارب بها الشاعر الصعلوك عروة بن الورد ، وهذه التكلات تعطيهم حماية ومرجعية فقدوها بعد أن خرجوا من عشائرهم أو بعد أن خلعتهم تلك العشائر بسبب إجرامهم وعدائيتهم وجَرَدَتهم من حقوق (( الأخذ بالثأر ، والإنتقام ، والحماية ممن يعتدي عليهم لو كانوا تحت حماية العشيرة وبحسب مفاهيم وتقاليد العصبية القبيلة )) ، لذلك نراهم يتوحدون ويتآخون ويتساعدون في أمور صعلكتهم ووحدة هدفهم وربما مصيرهم ومصالحهم المشتركة .
كذلك تمت تسميتهم ب ( الخلعاء ) !، لأن قبائلهم خلعتهم ورفضتهم بسبب أعمالهم الشريرة ، وكان شيوخ العرب يومها يُشهِرون في سوق عطاظ وغيرها من الأسواق خلعهم لبعض أبناء القبيلة من الأشرار ، كما نفعل اليوم في التبرؤ من أشخاص في العائلة أساؤوا لإسم تلك العائلة أو العشيرة !، لهذا كانت تنمو في داخل الصعاليك مشاعر الحقد والضغينة والنقمة والتمرد على مجتمعاتهم وقومهم وعشائرهم ، وتنمو في دواخلهم عقداً نفسية عميقة الندوب ولا تشفى بمرور الزمن والتقادم ، بل قد تبرد بأخذ الثأر والإنتقام والتنكيل بمن خلعهم وحرمهم من حق الدم ، وكان هذا سبباً كبيراً لقسوتهم ووحشيتهم في معاملة الناس وبطشهم حتى بأبناء عشائرهم الأصلية !.
كان الموت يترصد الصعلوك في كل دقيقة من حياته ، لأنه مطلوب لعدالة المجتمع يومذاك ، ومُطارد ومُستهدف من قبل كل المجتمع الجاهلي المحيط به ، لِذا تتولد في داخله روح الإستهانة بالموت الذي هو أقرب للصعلوط من حبل وريدهِ ، ومن حالة إرتباطهم اليومي الدائم بالموت وتوقعه تولدت فيهم روح العبث والقدرية والشجاعة والإقدام وتحدي المخاطر والشراسة والضراوة في القتال لأنهم يعرفون يقيناً بأن سقوطهم مرة واحدة فقط يعني نهايتهم وموتهم على أيدي مطارديهم وخصومهم الكثيرين ، وأن لا أحد سيرحمهم أبداً !.
وفي أغلب أشعارهم يلمس المرء حالة القلق والمآساة والمرارة والشعور بالوحدة الحياتية التي لا نصير لهم فيها غير سيوفهم ورفاقهم من الصعاليك ، يقول الشاعر الصعلوك الشنفري :
إذا ما أتتني ميتتي لمْ أُبالِها ===== ولم تذر خالاتي الدموع وعمتي
لكل ذلك كان الصعلوك قاسياً همجياً مستميتاً في قتالهِ ، ولا يوقفه سبب عن البطش بأي إنسان من أجل أن يسد رمقه وجوعه وإملاقهِ ليعيش يوماً إضافياً !، بالضبط كذئبٍ بري إن لم يَقتُل فسيُقتَل .
ولم تكن للصعاليك أية أخلاقيات في نمط عيشهم وسلوكهم وتوجهاتهم ، لأنهم كانوا يعيشون ليومهم فقط وكما تعني المفردة الأنكليزية ( Survivor,s ) حيث كان همهم الوحيد هو البقاء على قيد الحياة لمدة زمنية أطول ، وحياة كهذه تُسْقِطُ عن الفرد كل أنواع القِيَم الحياتية بحيث يصبح شائعاً مبدأ ( الغاية تُبرر الوسيلة ) ، والتي تدعو الصعلوك إلى عدم الإطمئنان والركون والوثوق بأحد ، ومن ثم تحفيزه وتشجيعه على الفتك حتى بصاحبه ورفيقه الصعلوك أحياناً فيما لو إقتضى الأمر ، كما حدث بين ( الأخينس بن كعب الجهني ) و ( الحصين العمري ) ، وكلاهما كان من أعنف الفتاك الصعاليك وأشرسهم ، فحين خرجا للغارة والسلب ، لقيا رجلاً من تجار كندة ، فقام الحصين بقتلهِ ، وإقتسم الغنيمة مع صاحبه الأخينس ، لكن الأخينس طمع بحصة الحصين المسكين ، وقام بغدره وقتله ، وسلبه حصته من الغنيمة . وتقول الروايات أن ( صخرة ) زوجة الحصين بقيت تسأل الناس والمسافرين والقوافل عن خبر أخيها الحصين !، فجاء فيها الشعر الذي القاه الأخينس الجهني ، وإحدى أبياتهِ القائلة :
تُسائِلُ عن حصينٍ كل ركبٍ ===== وعند جهينة الخبر اليقينْ
وجهينة هو الأخنس الجهني ، قاتل الحصين العمري !. وأصبح بيت الشعر هذا من أمثال العرب !.
كانت أسلحة الصعلوك : السيف والقوس والرمح والدرع والِمغفر ( لباس الرأس ، وهو كالبيضة ، وفيه أطرافاً مسدولة على قفا وأذني لابسهِ ، وربما جعل منها وقاية لأنفه أيضاً ، وقد تكون من زرد أيضاً ) ، ومن أسلحة الصعلوك أيضاً ضراوته وإستبساله وسرعته في التحرك والمراوغة والتكتيك في الكر والفر السريع الذي كان غاية الصعلوط في التخلص من الموت والهرب بجلده قدر الإمكان ، ونرى هنا أنه لم يكن يهتم بمقولات ومفاهيم الشجاعة والجبن والصمود والسمعة بقدر إهتمامهِ وتركيزهِ على أن يبقى على قيد الحياة ، لِذا كان يتبع في غاراته مبدأ ( المباغتة والضرب والهرب السريع ) ، وهذا يذكرنا بحرب العصابات ( Hit & Run ) أضرب وإهرب . ولم يكن الصعلوك المقاتل يخاف أو يستحي من الهرب عندما يحس بالخطر ، وفي هذا يقول الشاعر الصعلوك أبي كبير الهذلي :
فإن تزعمي أني جبنتُ فإنني ===== أفر وأرمي مرة كل ذلك
أقاتل حتى لا أرى لي مُقاتلاً ===== وأنجو إذا ما خفتُ بعض المهالكِ ( من ديوان الهذليين ) .
كان الشعراء الصعاليك يتباهون ويتفاخرون بسرعة عَدْوِهِم التي كانت تنقذهم أحياناً من تحديق العدو ومحاصرته لهم ، وكانوا يعتبرون الفرار من القتال عند إحساسهم بالخطر نوع من البطولة والشطارة والقدرة على ضبط الأعصاب وحسن التصرف في الملمات والمخاطر ، وإن الفرار يوفر لهم فرصة ثانية لمعاودة خلق المواجهة في ظروف أحسن تميل لصالحهم ، وفلسفتهم هذه جعلتهم يسخرون من الحمقى الذين يرمون أنفسهم في التهلكة من أجل أن يقول عنهم الناس ( شجعان ) !!، وما فائدة الشجاعة إذا كانت ستورثك الموت المؤكد !!؟ .
كان الصعاليك يعيبون الصعلوك الذليل القانع بمصيره وتشرده وجوعه والعائش على الصدقات ، ويكنون كل صعلوك لا يعتمد على سيفه في إعالة نفسه ب ( العيل - جمعها عِيال ) ، وحول هذا يقول السليك بن السلكة ، وهو أحد شعراء الجاهلية الصعاليك :
فلا يصلي بصعلوك نَئوم ===== إذا أمسى يُعد من العيالِ
ولكن كل صعلوكٍ ضروبٍ ===== بنصل السيف هامات الرجالِ
وكان عرب الجاهلية يطلقون على بعض الصعاليك تسمية ( أغربة العرب ) !، ويقول كِتاب تاج العروس ( أن أغربة العرب : سودانهم ) . أي الزنوج السود ، وكلهم سَرى إليهم السواد من أمهاتهم . وتصعلك بعضهم بسبب إحتقار عشائرهم لهم والتقليل من شأنهم وقيمتهم ، ولعدم إعتراف آبائهم ببنوتهم لهم ، لأنهم أبناء إماء ، أو لفقرهم وظلم المجتمع لهم ومعاملتهم كطبقة مملوكة كالحيوان المملوك ليس لأحدهم جسمه أو أهله أو نسله ، وكل ما يملكه أو يحصل عليه يكون ملكاً لسيده الذي قد يكون والده العربي في أغلب الأحيان !، وكل من كان يُخالف العرف السائد منهم جاز لسيده قتله ، كذلك كان للسيد حق الإستمتاع بمملوكته وبجواريه من غير قيد أو شرط" . ( د . جواد علي - المفصل في تأريخ العرب قبل الإسلام ) .
و ( أغربة العرب ) أيضاَ هم كل من كان أبوه حراً وأمه ( آمة ) زنجية سوداء ، وبسبب لونهم لم يعترف آبائهم بهم ، وبمعنى آخر أنهم طبقة من العبيد من أبناء الأمهات الحبشيات ، ولهذا أُطلق عليهم تسمية ( أغربة العرب ) أو ( الغِربان ) تشبيهاً لهم بالغراب ولونه الأسود ، وكان من أبناء الإماء الشاعر الفارس عنترة بن شداد العبسي ، لكنه لم يكن من الصعاليك .
كان الصعاليك السود البشرة ( من أصول زنجية ) كثيرون ، لأن رجال العرب نكحوا ما لا يُحصى عدده من النساء والإماء الزنجيات في الجاهلية والإسلام ، وهذا أدى إلى تواجد شريحة إجتماعية كبيرة جداً من الهجناء الأقوياء الجسد الذين إمتازوا تأريخياً بتحمل الصعاب والمشقات والركض والحرب واللامبالاة في مواجهة المخاطر ، كما هم زنوج أميركا وأروربا وأفريقيا اليوم ، وتفوقهم اللا محدود في الألعاب الرياضية والأولمبية وخاصة العاب القوة والجري لمسافات قصيرة وطويلة . وكان أشهر سودان صعاليك الجاهلية يومذاك هم : السليط بن السليكة ، تأبط شراً ، والشنفري .
ولآن الصعاليك كانوا من الفقراء ، فكان من الصعوبة بمكان أن يقتنوا فرساً يخدمهم في غاراتهم وتنقلاتهم السريعة الخاطفة ، لِذا إعتمدوا على ركضهم وعَدوِهِم وخفة حركتهم في التنقل ، وعلى سرعة هربهم من متعقبيهم في حالة فشل أو نجاح غاراتهم وغزواتهم الصغيرة تلك ، فكانوا يلجأون للإختباء والتستر في الأماكن الوعرة جغرافياً ، والكهوف والمغاور وشعاب الجبال والمرتفعات الصعبة التي كانت تطل على الطرق الجبلية الضيقة ، وهذا كان يعطيهم المبادرة والفرصة على التربص بالأفراد والجماعات ومن ثم مهاجمتهم وأخذ ما معهم من خيرات . وتقول بعض الكتب أنهم كانوا يُخبئون الماء في تلك المغاور محفوظاً في بيض النعام !!.
وقد عرفت أيام الجاهلية الكثير من الشعراء الصعاليك العدائين ، مثال : الشنفري ، السليك بن السلكة ، ، تأبط شراً ، المنتشر بن وهب الباهلي ، أوقى بن مطر المازني ، عمر بن البراق ، أسيد بن جابر .
وكان لبعض هؤلاء الصعاليك أفراساً سرقوها في غاراتهم الكثيرة ، لِذا فبعضهم كان من الفرسان الذين يحترفون القتال والغزو وهم على ظهور الجياد ، وكان لعروة بن الورد فرس إسمه ( قرمل ) ، وللسليك بن السليكة فرس أسمه ( النحام ) ، وللشنفري فرس يدعى ( اليحموم ) .
كان أغنياء القوم هدفاً كبيراً للصعاليك وخاصة من كان شحيحاً وبخيلاً ومعروف في معاملته السيئة للفقراء ، وبسرقة أموالهم ومقتنياتهم كان الصعاليك يحافظون على ديمومة حياتهم وحياة غيرهم من الصعاليك الضعفاء المرضى الذين كان يفتك بهم الجوع والمرض والفقر الذي لا يرحم ، وهذا يذكرني بقول لأبو ذر الغفاري ، وقد ينسب لأبا حيان التوحيدي ، يقول : "عجبتُ لمن لا يجد القوت في بيته ، كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه" ؟ .
وبجانب كل أحكامنا القاسية على نهج وسلوك وحياة الصعاليك فأيضاً علينا أن نعترف بالوجه المضيئ والخصال الجيدة والإنسانية فيهم ، ومنها عطفهم ومساعدتهم للمرضى والضعفاء والمسحوقين والمحاويج من أبناء مجتمعهم الفقراء ، وكمثال نرى ذلك واضحاً في سيرة بعضهم أمثال ( عروة بن الورد ) و ( أبو خراش الهذلي ) الذين كانوا يساعدون المئات من الصعاليك الذين لا يقدرون على توفير لقمة يومهم ، وكان عروة بن الورد قد جمع حوله الكثير منهم ، إستعمل بعضهم في غزو ونهب الأثرياء والموسرين وإستعمال أموالهم في إطعام الضعفاء والمرضى والفقراء من نفس أبناء ذلك المجتمع القاسي ، ولهذا فبعض المؤرخين يُشَبِهون سيرة عروة بن الورد بسيرة ( روبن هود ) قاطع الطريق الأنكليزي الذي كان يسرق الأغنياء ليُطعِم الفقراء .
كان الصعاليك في الجاهلية قد إنتشروا كالوباء المُعدي في كل الجزيرة العربية التي كانت بصورة عامة تُعاني من الفقر والجوع والتصحر وقلة الموارد وإستبداد السادة والقادة والموسرين فيها وإنتشار إستغلال الإنسان القوي للإنسان الضعيف بصورة غير عادلة ، وكل هذه الظروف القاسية ساعدت جداً على إنتشار الصعلكة كطريقة للحياة يضمن فيها الفقير والمنبوذ والمحروم لقمة عيشهِ بسيفه وغزواته ، وخاصة أن مجتمع الجزيرة العربية كان مجتمع بوادي وعوادي يعيش على الغزو والسلب والنهب والقسوة ، وهذا ساعد على أن تكون الصعلكة قوة ضاربة مرهوبة الجانب ، وبالضبط كما كان ( العيارون والشطار ) في زمن الدولة العباسية في بغداد .
ولم يكن يهم الصعلوك أن يستخدمه في القتال أي فرد من مجتمع الجزيرة العربية ، فغاية الصعلوك كانت دائماً توفير مستلزمات الحياة اليومية ، لِذا لم يكن يهمه قيمة أو توجه أو سياسة وسلوك وأخلاق من سيستخدمه كمقاتل وغازي !، ودليل ذلك أن ( أمرؤ القيس ) وبعد أن أصبح ضليلاً خليعاً ، قام بجمع الكثير من الصعاليك العرب من قبائل بكر بن وائل وحِمْيَر وغيرهم من المقاتلين بخبز بطنهم ( العضاريط ) وما يُصيبونه من القتال والغزو من غنائم وأسلاب ، وراح يُحارب بهم ، فأفاد وإستفاد !.
ملاحظة : العضاريط مفردة عربية فصحى تعني الطبقة من الناس الذين يخدمون بعض الأسياد أو الأغنياء بخبز بطونهم ، أي لا معاش أو رواتب لهم ، وقد جاء ذكرهم في واحدة من أشعار المتنبي في قوله :
ولذلك أيضاً نرى أنه حين ظهر الإسلام ، إتصل رسول الإسلام محمد بن عبد الله بالصعاليك ، وأعطاهم ما كانوا يحلمون به من طريقة حياة وحقوق وإمتيازات ، وكانت رسالته وشروطه لهم : (( إن آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ، وصدقوا ، فيكون عبدهم حر ، ومولاهم محمد ، ومن كان منهم من قبيلة لا يُرد إليها لمعاقبته ، ومن كان فيهم من دمٍ أصابوه أو مالٍ أخذوه فهو لهم ، وما كان لهم من دَينٍ في الناس رُد لهم ، ولا ظلم عليهم ولا عدوان )) ( طبقات إبن سعد ) .
وهنا نرى أن محمداً قد ضرب عصفورين بحجر واحد كما في أغلب تدبيراته وسياسته ، فهو قد ضمنهم إلى جانبه وأمن شر قتالهم الذي كان سيكلفه الكثير الكثير فيما لو فكر في محاربتهم وإستئصال شأفتهم ، وبنفس الوقت عزز جيشه والموالين له بأحسن وأبسل وأشجع المقاتلين العرب قاطبةً يومذاك !.
والجدير بالذكر هنا هو أن أغلب عرب الجاهلية من الذين إلتحقوا بجيش محمد بن عبد الله يومذاك ، لم يلتحقوا به لأنه أعلن النبوة وبشر بالإسلام كدين جديد !، بل لأنهم كانوا جميعاً من رجال الصحراء والبوادي والمدن التي تحيط بها الصحارى ، أي كانوا على أخلاق الصعاليك ، بحيث جاءت سلوكيات الإسلام وحروبه ومغانمه وكأنها قد فًصِلَت لهم ، وهذا يقول لنا عن مدى ذكاء ومكر محمد .
أما هؤلاء الصعاليك الذين يشبهون وحدات وتنظيمات ( المرتزقة ) اليوم ، فأعتقد أن إنضمامهم لمحمد كان أسعد يوم في حياتهم ، لأنهم إستفادوا جداً من غزواته وتوسعاته والخيرات التي جاءت مع تلك الغزوات ، والتي لم يكن يحلم بها سيد أو عبد أو صعلوك في كل الجزيرة العربية ، فمحمد وفر لهم الغزو والنهب والسبي والقسوة والنساء والإماء والعبيد وتعدد الزوجات والخيرات والذهب والأراضي الخضراء في العراق ومصر والشام وغيرها ، وحتى في موتهم وهم يُدافعون عن أحلامه كان قد وعدهم بجنة لم يسبق أن وجدت لها فكرة إلا في رؤوس الحالمين،ومنهم محمد بن عبد الله !.
تأبط شراً ، أشهر الشعراء الصعاليك :
================
الشاعر ( تأبط شراً ) هو ثابت بن جابر بن سفيان الفهمي ، وسموه أيضاً "أبو زهير الفهمي" نسبة إلى قبيلته ( فهم ) في تُهامة . وهو أحد رآبيل العرب ، جمعها رآبيل … لأن أمه لم تلد سواه ، ورآبيل العرب هي تسمية للسباع كثيري اللحم وصغار السن والذئب الخبيث . وترأبلوا : تلصصوا أو أغاروا على الناس وفعلوا فعل الأسد ، أو غزوا على أرجلهم وحدهم بلا والٍ عليهم ، وهذا المعنى هو أقرب المعاني إلى الصحة في تفسير ( رآبيل العرب ) ، وهم الصعاليك واردي الذكر في مقالنا هذا .
تأبط شراً من الشعراء الصعاليك الفحول ، ومن فتاك العرب الأشداء في الجاهلية ، وكان من أشهر العدائين ، لا بل أعدى ذي رجلين وساقين في زمانه كما تدعي الكتب ، ويُقال أنه كان إذا جاع ينظر إلى الضباء فينتقي أسمنها ثم يجري خلفها حتى يظفر بها !. وطبعاً هي من مبالغات وتراكمات الزمن ، إذ يكفي أن نعلم أن سرعة الضبي هي 95 ميل في الساعة !!. وإن سرعة البشر تقل بصورة سريعة بعد ال 100 متر الأولى ، بينما سرعة الضبي تزداد وتشتد بعد ال 100 متر الأولى !!.
كان تأبط شراً إبن آمةٍ حبشية سوداء ورث عنها سواد لونها ، وقد إختلف الباحثون في تعليل مصدر كنيته ( تأبط شراً ) ، فقال بعضهم : لقبته أمه بهِ إذ تأبط سكيناً أو سيفاً وخرج ، وهذا غير مُقنِع ، لأن الصعاليك المقاتلين لا تخلو دقيقة واحدة في حياتهم من حمل السلاح تحسباً وخوفاً من أن يُفاجئهم عدو ، فلِمَ تتعجب أمه لمجرد أنه حمل سلاحاً وخرج !!!؟
وقال آخرون أنه قاتَلَ حيواناً في الفلاة ذات ليلة مظلمة وقتله ، ووضعه تحت أبطه وتوجه نحو قبيلته ، لكن الحيوان لم يكن قد مات بعد ، ولما وصل الرجل قبيلته وكان قد إنبلج النهار ، وجد أن ما تأبطه كان غولاً قبيحاً !!.
ومهما قيل بشأنِ أسباب إسمه فالظاهر أن قبيلته لقبته ب ( تأبط شراً ) لشراسته ولكثرة خروجه على قوانين ونواميس تلك الأيام وجنوحه للشر على الدوام .
ويظهر من خلال أشعاره أن أباه قد مات وهو صغير ، فتزوجت أمه من ( أبي كبير الهذلي ) وكان واحداً من الشعراء الصعاليك المعروفين ، فزاد هذا من إقتباس وتبني تأبط شراً لخصال الشر والصعلكة !، ويعتقد بعض الكتاب والمحللين أن لونه الأسود وتعيير عشيرته له بذلك ولكونه إبن آمةٍ حبشية قد أثرا في أسباب صعلكته وجنوحه للشر في محاولة نفسية للثورة على كل ما حوله والإنتقام من الناس الذين همشوه وإزدروه وعيروه وآذوا مشاعره مذ كان طفلاً !.
وكان كل رفاقه في غاراته وسلبه وغزواته الليلية من الصعاليك الفتاك ، وأبرزهم الشاعر ( الشنفري ) ومعنى أسمه : ( الغليظ الشفاه ) !، وكان أسود اللون ، ومن أم -آمة- حبشية أيضاً !، وأشعار الشنفري تدل القارئ على نفس حياة وظروف تأبط شراً الإجتماعية والبيئية ، ولهذا كانت هناك علاقة صداقة وود وتآخي بين الأثنين .
الشنفري كان من عشيرة الأواس بن الحجر الأزدية اليمنية ، وهو قحطاني النسب ، لكنه لم ينشأ في أحضان قبيلته ( الأزد ) ، إنما نشأ في قبيلة ( فهم ) وهي قبيلة زميله تأبط شراً ، حيث نزل فيها مع أمه وأخ له ، لأن قبيلته ( الأزد ) قتلت أباه ، ولهذا تحولت أمه عنها إلى قبيلة ( فهم ) . وتقول بعض الكتب أن الذي روضه على الصعلكة كان رفيقه المفضل تأبط شراً ، وكانوا يغيرون معاً على قبيلة ( ألأزد ) وينكلون بها قدر مستطاعهم إنتقاماً للشنفري ووالده المقتول ، وتقول المبالغات الشعبية في كتب السيرة أن عدد الرجال الذين قتلهم الشنفري لوحده من الأزد بلغ تسعة وتسعين رجلاً ، وفي النهاية تمكن الأزد أن ينصبوا له كميناً وقع فيه ، فمثلوا به تمثيلاً فظيعاً وقطعوا جسده ورموه للسباع والوحش ، ويقال أن رجلاً منهم عثر بجمجمته فعقرته ( لدغته ) فمات لساعته ، وبذلك يبلغ عدد قتلاه من قبيلته الأزد المائة !!.
في قصص كهذه نجد المبالغات القصصية والخرافة تأخذ مساحة واسعة من الحدث التأريخي ، وتؤسطره بطريقة يتلذذ بها المستمع الشعبي على لسان الراوية في مختلف العصور والأزمان !. كذلك نجد الكثير من المبالغة حول سرعة جري وركض هؤلاء العدائين من الشعراء الصعاليك ، وخاصة في قصص الشاعر ( تأبط شراً ) وسرعته ( السوبر مانية ) الخارقة في العدو والجري وحوادثه العجيبة مع المردة والغيلان والجن !، والتي كانت السبب الأول في كنيته ( تأبط شراً ) وفي كونه أشهر شعراء الصعاليك العرب في الجاهلية .
لحد اليوم ليس لتأبط شراً ديوان شعر مطبوع !، إلا أن أشعاره الكثيرة متناثرة هنا وهناك في متون كتب التأريخ والأدب والروايات الغريبة ، وفيها بعض أشعاره حول لقاءه مع الجن أو الغول ، كذلك يتبين بوضوح من خلال أشعاره نمط وملامح شخصية الصعلوك اللص وقاطع الطريق في الجاهلية ، وروحه البدوية بكل مكرها وعنادها وصلابتها وجرأتها على إقتحام الموت في الليالي الممطرة المظلمة !!، كذلك كانت تنعكس على الصعلوك أيضاً صفات الشجاعة والجرأة والحيلة وقوة الشكيمة والإرادة التي لا تقهر بسهولة رغم كون هؤلاء الصعاليك يمتازون بالهزال والنحافة وضمور الجسد ، وهذه بالضبط كانت صفات ( العيارين والشطار ) وهم برأيي من صعاليك المدن في زمن الدولة العباسية في بغداد كما ذكرتُ سابقاً ، وكان الخليفة الأمين قد إعتمد بالإضافة لجيشه ومواليه على جيش مرتزقة منهم لمحاربة أخيه المأمون في تنافسهم على الخلافة العباسية بعد موت والدهم الخليفة هارون الرشيد ، وكان الأمين والمأمون من والدتين مختلفتين فالأمين كان إبن السيدة زبيدة بنت جعفر بن المنصور وكانت عربية ، والمأمون كان إبن سيدة من الفرس البرامكة ، وكانت قد ماتت أثناء ولادته .
الأمين تولى الخلافة من سنة 193 إلى سنة 198 هجرية ، لكنه خَلَعَ أخاه المأمون من ولاية العهد وأعطاها لولده الرضيع موسى !، وكانت هذه غلطة لا تُغتفر ، ولهذا قامت حرب شعواء بين الأمين والمأمون دارت رحاها في منطقة ( الري ) وإنتهت بهزيمة جيش الأمين ، وقام جيش المأمون بحصار بغداد لمدة ( 12 ) شهراً وضربها بالمنجنيق وخرب أسوارها والكثير من معالمها وحرق أسواقها إلى أن تم لهم قتل الأمين وإرسال رأسه إلى أخيه المأمون في خراسان ، وقد إستمرت خلافة المأمون ( 20 ) عاماً 198- 218 هجرية ، 813 - 833 ميلادية .
وعودة للموضوع بعد هذا الإستطراد نقول :
نهاية الشاعر ( تأبط شراً ) كانت في عام ( 80 ) قبل الهجرة ، الموافق لعام ( 540 ميلادية ) ، وكان قد قُتِلَ خلال إحدى غاراته على منازل هُذَيْلْ ، تلك القبيلة التي طالما ترصدته ولاحقته إلى أن حظيت بهِ وأصابته بجراح خطيرة هرب على أثرها وإختفى ، لكن بعض الأعراب وجدوا جثته في غار يقال لها ( رخمان ) بعد أن مات وحيداً ومتأثراً بجراحه البليغة ، ومن خلال أشعاره وأشعار زميله الشنفري يتوضح أنهما كانا كثيري الإغارة على قبائل الأزد وهذيل وبُجيلة .
أما عن قصة تأبط شراً مع الغيلان !، فيقول بأنه لقي الغولَ في ليلة ظلماء في موقع يُقال له ( رحى بطان ) ، وإنها إعترضتهُ وسدت عليه الطريق !، فراح يُقاتلها بضراوة بسيفه حتى أصاب منها مقتلاً ، وحملها تحت أبطه وسار بها طوال الليل إلى أن وصل إلى قبيلته وأهله وأصحابه ، فوجد في نور الصباح أنها كانت غولاً قبيحة ، ولهذا أطلقوا عليهِ إسم : ( تأبط شراً ) ، وقام بعدها بكتابة القصيدة التالية حول ما حدث في تلك الليلة الظلماء :
نأبطُ شراً : ألا مَن مُبلِغٌ فتيانَ فَهْمِ ===== بما لاقيتُ عندَ رحى بطانِ
وأني قد رأيتُ الغولَ تهوي ===== بسهُبٍ كالصحيفة صَحصَحانِ
فقلتُ لها : كِلانا نِضْوُ أينٍ ===== أخو سفرٍ ، فخلي لي مكانِ
فشدت شدةً نحوي ، فأهوى ===== لها كفي بمصقولٍ يماني
فأضربها بلا دَهَشٍ فخرتْ ===== صريعاً لليدينِ وللجرانِ
فقالت : عُدْ ، فقلتُ لها : رُويداً ===== مكانكِ ! أنني ثَبتُ الجِنانِ
فلم أنفك متكئاً عليها ===== لأنظرَ مُصبحاً ماذا أتاني
إذا عينانِ في رأسٍ قبيحٍ ===== كرأسِ الهرِ مشقوقَ اللسانِ
وساقاً مُخدَج وشواة كلبٍ ===== وثوبٌ من عَباءٍ أو شنانِ
السهب : الفلاة
الصحصحان : ما إستوى من الأرض وإتسع
النضو : المجهد من السفر
الأين : الإعياء والتعب
مصقول يماني : السيف اليماني الصنع
خرت : سقطت وهوت
الجران : باطن العنق من البعير
الجنان : القلب
مخدج : ملقى
شواة كلب : جثة كلب
شنان : من شنَ أي يبس
ولو تَمَعَّنا في البيت السادس من هذه القصيدة ، عن ما قالته الغول بعد أن ضربها بسيفه وأصاب منها مقتلاً :
فقالت : عُدْ ، فقلتُ لها : رويداً ===== مكانكِ ! إنني ثبتُ الجِنانِ
في هذا البيت نجد أن الغول وبعد أن أصاب منها مقتلاً تطلب منه أن يضربها ضربة ثانية بسيفهِ ، إلا أنه يرفض عن فطنةٍ ومعرفة ، حيث زعمت العرب في الجاهلية أن الغولَ إذا ضُرِبَت بالسيف مرة واحدة ماتت ، وإذا ضُرِبَت ثانية عادت لها الحياة ، فتقوم لتقتل ضاربها !!. وهذا يُذكرني ببعض القصص الشعبية التي سمعتها مراراً من والدتي الراحلة ، حيث كانت تذكر في سياق تلك القصص أن بطل القصة ضرب بسيفه الجني أو المارد او العفريت أو السعلوة والغول ضربة واحدة فقط ، وإن الوحش عندئذٍ يصرخ في وجه بطل القصة ، وباللهجة العراقية قائلاً : إثني ( أي أضربني ثانية ) ! ، لكن البطل يرفض عن ذكاء وخبرة قائلاً : أُمي وأبوية ما علموني ع الثني !!. ومن خلال هذه المعلومة الشعبية نجد تلك التضمينة الخرافية المعروفة في قصص الجان وحكايات الفولكلور الشعبي الشرقي ، ومؤادها ان ضربة البطل الصنديد هي ضربة واحدة قاتلة !.
أما الغول فهي نوع من المخلوقات الخرافية ، وقيل أنها على خلقة الإنسان ولكن بصورة قبيحة ومزعجة ، وأن رجلاها رجلا حمار ، وفي كتاب الحيوان للجاحظ أن الغول إسمٌ لكل شيئ من الجن يتعرض للمسافرين وخاصة في الليالي الظلماء ، وقد ذُكِرَت الغول في المثل الذي يستبعد وجود ثلاثة أشياء ، حيث قالت العرب : (( المستحيلات ثلاث إن بحثت عنهم فلن تجدهم : الغول والعنقاء والخِلُ الوفي )) !.
وكانت العرب تعتبر الغيلان نوع من الشياطين تظهر للناس في الفلاة فتتلون لهم في صور شتى وتظللهم وتهلكهم . وتعتبر الغول كائنات خرافية بين الإنسانية والحيوانية ، وهي كذلك بين الذكر والأنثى ، لكن غالبية من تطرق للغول يقول أنها أنثى أكثر مما هي ذكر ، ويبقى شاعرنا ( تأبط شراً ) أكثر من أقترن أسمه بهذه الغيلان الوهمية !.
في كتاب ( جولة في أقاليم اللغة والأسطورة ) يقول الكاتب علي الشوك : [ من أصناف الجن : الغول والعفريت والسعلاة ، والظاهر أن كلمة ( غول ) مستعارة من السومرية ، وقد وجد البحاثين في قاموس شيكاغو للآشوريات أن كلمة ( gullu - غول أو عفريت ) الأكدية ، مستعارة من اللغة السومرية .
ومن المعروف أن الإسلام يعترف بالجن ، ولكن كان هناك دائماً من يُشكك بوجودهم كالمعتزلة مثلاً ، وحاول الفارابي التملص من الموضوع في كلامه عنهم ( خوفاً من عقاب المسلمين ) ، إلا أن إبن سينا أكد في تعريف الكلمة ، وعلى نحو واضح بأنها لا تمت للحقيقة بصلة !، ] .
وفي كتاب ما قرأتُ أن السر ( هاري دجانسون ) العالم الأنثروبولوجي البريطاني كان قد سجل هذه الفرضية الجريئة التالية : (( أن الكائن الذي سماه العلماء بِ ( النيانتردال ) وهو نوع من الإنسان القديم ، كان ذا جبين منخفض مع واقية وجه مدارية ، وكان قصيراً مع نوع من الجسامة ، وعلى صورة حيوان أشقر شعر الرأس والجسد ، وكان ثقيلاً لا ذقن له ، وله مشية تشبه مشية الغوريلا ، كذلك كانت له ميول متوحشة ، وربما كانت شخصيته لا تزال متناقلة شفاهياً ومنها إستوحى البشر تأريخياً شخصية الغول الميثولوجي !!!؟ .
[ وفي ذكر الغول والغيلان والتغول أخبار وحكايات كثيرة وعجيبة ، فقد زعم العرب أن الغول يتغول لهم في الخلوات في أنواع الصور ، فيخاطبونها وتُخاطبهم . وزعمت طائفة من الناس أن الغول حيوان مشؤوم وأنه خرج منفرداً لم يستأنس ، فتوحش وطلب القفار ، وهو يشبه الإنسان والبهيمة ، ويتراءى لبعض المسافرين في أوقات الخلوات والليالي المظلمة
كذلك تقول القصص أن عمر بن الخطاب رأى الغول في سفرهِ إلى الشام فضربها بالسيف وقتلها !!.
أما الجاحظ فقال في الغول : الغول كل شيئ يتعرض للسيارة ( الكائنات السائرة ) ويتلون في ضروب من الصور والثياب ، وزعموا أنه ذكر وأنثى ، إلا أن غالبيتهم أكدت أنه أنثى .
وهناك مخلوق خرافيٌ آخر آمَنَ العرب بوجوده وأطلقوا عليه إسم ( القطرب ) وهو نوع من الأشخاص المتشيطنة ، وقيل أنه كان يظهر في أنحاء اليمن وفي أعالي صعيد مصر ، وقيل أنه كان يُلاحق الإنسان فينكحهُ !!، فيدود دبر الإنسان فيموت ، وربما أمسك القطرب بالإنسان ثم أطلقه حراً ، وكان الناس في هذه الحالة يتساءلون : أمنكوحٌ هو أم خائف مذعور ؟ فإن كان منكوحاً أيسوا منه وتركوه ، وإن كان مذعوراً سكنوا من روعه وشجعوا قلبه ] . ( كتاب المستطرف في كل فن مستظرف ) .
الصعلكة والصعاليك الشعراء العرب في الجاهلية وصدر الإسلام كانت ظاهرة إجتماعية برزت وتكاثرت بسبب الحاظنة الملائمة التي أفرزنها وإحتوتها وساعدت على نموها وإنتشارها ، وهذه الظاهرة موجودة في كل مجتمعات العالم حتى المتحضر منه ، ولكن بأسماء وأشكال وتعبيرات مختلفة أخذت شكل الإناء الإجتماعي والبيئي للمجتمع الذي ظهرت فيه ، في أميركا مثلاً هناك العديد من الصرعات الإجتماعية التي تميل إلى الجريمة والعنف وإستعمال القوة ، والتي تحمل نفس مسببات الصعلكة في الجاهلية ، وحتى أن الكثير منهم فنانين أمثال مغني الراب وغيرهم ، وهم نسخة من الصعاليك الشعراء العرب في الجاهلية ، ولكن بشكل مغاير ، لِذا بإمكاننا القول أن الصعلكة كانت موجودة منذ بدء الزمان ومنذ مجتمع الكهف ربما ، وستتواصل بأشكال لا تُحصى ولا تخطر على بال ، وفي كل دول ومجتمعات العالم المتحضر أو المتأخر .
هديتي للقراء الكرام ، معزوفة موسيقية رائعة بعنوان (( بغداد )) ، للموسيقي الكَنَدي جيسي كوك ، مع تحيات طلعت ميشو .
الخامس عشر من أيار 2012
مصادر المقال :
موسوعة أساطير العرب …………………….. د. محمد عجينة
العصر الجاهلي ……………………………. د. شوقي ضيف
أدب الجن ………………………………. محمد عبد الرحيم
الأغاني ………………………………….. الأصفهاني
الفولكلور والأساطير العربية …………………. شوقي عبد الكريم
المفصل في تأريخ العرب قبل الإسلام …… د. جواد علي
المستطرف في كل فن مستظرف ……………… شهاب الدين الأبشيهي
♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠
كلمة حق في زمن النفاق
يجب أن تقال
يجب أن تقال
محمد الورياكلي- فارس المنتدى
- الجنس : عدد المساهمات : 2246
درجة التقدير : 2
تاريخ الميلاد : 25/11/1954
تاريخ التسجيل : 11/09/2010
العمر : 69
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى