رسائل محمد شكري ومحمد برّادة.. بوح على حافة الألم
صفحة 1 من اصل 1
رسائل محمد شكري ومحمد برّادة.. بوح على حافة الألم
رسائل محمد شكري ومحمد برّادة.. بوح على حافة الألم:
العرب اليوم - يُنشر بعضها لأول مرة
* إبداع آخر مليء بالاغتراب والفضفضة البعيدة عن الدبلوماسية
الرسائل المتبادلة بين المبدعين الكبار لها رحيقها اللطيف, وطزاجتها الدائمة, لأنها تحمل في طياتها الهمّ العام والهمّ الخاص, مكتوبًا بلا تزويق أو تجميل, وتفتح لنا شراعات متباينة على إبداعٍ آخر مليء بالشجن والفرح والاغتراب والفضفضة البعيدة عن الدبلوماسية. خاصة إذا كان أحد طرفيها الروائي المغربي محمد شكري, صاحب الخبز الحافي, الذي لا يعبأ بأي حال من الأحوال بحدود الدبلوماسية والخطوط الحمراء القانية أو الباهتة, أما الطرف الثاني فهو الناقد والأكاديمي والروائي المغربي محمد برّادة, المعروف بتواضعه وسعة ثقافته وانفتاحه على جميع المبدعين.
من باريس وطنجة, وتطوان, والرباط ومستشفى الأمراض العقلية, والروائي شكري المقيم في الوطن حين تملّك منه القلق والاكتئاب, فوصل إلى حالة تقترب من حافة الألم المجنون. فاختار طوعًا الدخول إلى المشفى للعلاج بصفته نزيلاً, يستطيع الترويح عن نفسه يوميًا في بعض المقاهي, ومنها مقهى نيبون ليعود مساء إلى المشفى. رسائله مكتوبة من تلك الأمكنة, وتعبّر عن مكنونات هواجسه, وتطلعاته وإحباطاته, وتصف مشاعره الرهيفة ومعاناته مع الكتابة. وتسجل حالة الاغتراب الهائلة المتملكة من جوارحه. بينما الناقد برّادة يكتب من باريس, مكان الغربة القصيّ عن الوطن, وأيضاً من الوطن مرتحلاً إلى مدن أخرى بسبب أزمات العمل وغيرها, مترجمًا إحساسه العارم باليأس, بالشوق, بالحنين, إلى زميله شكري. وبالوقت ذاته مادًّا ذراعيه كغيمة ماطرة إلى صديقه شكري محاورًا ومساندًا وداعمًا ومفضفضًا.
لنبدأ بالرسائل التي بعثها محمد برّادة أثناء إقامته بالرباط إلى محمد شكري.
(الرباط 30/6/1975)
قرأت الفصل الذي أعطيته لي من سيرتك العاطرة (من أجل الخبز وحده) ووجدته ممتعًا ومليئًا باللقطات الإنسانية. وأعتقد مبدئيًا قبل الوصول إلى قاع الخابية - لا أن يحول دون نشرها هنا بالمغرب. من جهة ثانية زارني مدير وكالة أورينت برس (وهو مقيم بلندن) وأبدى استعداده لنشر أعمال مغربية. وللأسف لا أتوفر على سيرتك كاملة. إذا استطعت أن ترسل بقية الفصول فسأعمل - جهد الإمكان - على نشرها هنا أو في الشرق.
محمد برّادة.
ويرد شكري
من شعر صديقي الإسباني خونيو, أول قصيدة تبدأ هكذا:
ينبوع الجميع
الشعب كان ظمآن
ولم يكن هناك غير ينبوع واحد
للشرب
ليس للينبوع مالك
مياهه كانت للجميع
للشعب كله
لكن الماء انساب
ينسخ السحب: طفل كان يتأمله
عندما سأعود إلى طنجة سأعكف على ترجمة مختارات من هذا الديوان ودواوين أخرى.
سلم لي على ليلى وأنت خذ مني كل شيء ولا تبعث شيئًًا. لم أعد أشرب كأسًا وأسكب الباقي على رأسي ماشيًا راقصًا إلى الحلبة, متلقفًا القطرات الممزوجة برائحة شعري, ولصخب الموسيقا يرقص كل جسدي.. إلى لقاء محبتي وصداقتي.
محمد شكري
تنويه: السفيرة ليلى شهيد زوجة محمد برادة.
عزيزي شكري..
أذكر طنجة باستمرار, وأذكرك وأتمنى لو أن الوقت يسمح بالسفر إليكم, فمدينتكم تمنحنا وهم الانطلاق والتحرر من القيود.. وآمل أن تكون قد انتظمت في الكتابة كما وعدت, وأن تجعل شعارك لهذه السنة الكتابة ضد الابتذال, وضد الجنون, وضد العنف, وضد المخلوقات الطفيلية الحقيرة. إن الكتابة في النهاية تمنحنا انتصارًا من نوعٍ خاص ضد جميع الجوانب التي نرفضها في مجتمعنا وعالمنا. بلغ تحياتي لصديقك الشاعر الإسباني خونيو, وإلى عالم طنجة الليلي الجميل.
ملحوظة: لماذا لم ترسل لنا (4) نسخ من سيرتك الذاتية لندرجها ضمن الإنتاج الذي توصلنا به بقصد النشر?
تحياتي وأشواقي..
محمد برّادة
نتلمس تلك العلاقة الشجيّة بين المحمدين, ونرى أيضًا, وبوضوح, المبالاة العميقة بفعل الكتابة والغيرة الأخلاقية بين المبدعين. والتواصل الحميمي في لحظات الانكفاء ودفع الآخر للآخر من أجل الإنجاز والتحقق, النصاعة والصفاء وعدم التخلي في أوقات الشدّة الحالكة عن الصديق.
بعد سنتين يكتب محمد شكري من مستشفى الأمراض العقلية - مايوركا - تطوان.
18/12/1977
عزيزي محمد
هذا يومي الثاني عشر لي في المستشفى, أنا في مقهى نيبون الذي أكتب لك منه.
داخل المستشفى أتمشى تارة, وأخرى أجالس أحد المرضى الأذكياء, فيحكي لي عن مآسي حياته.. الإحساس بالكتابة بدأ يغزوني في هذا البيمارستان, عندما أخرج من هنا سأحاول أن أغيّر حياتي.
في تطوان لا أجد ما يغريني, إلا البقاء في المستشفى أو الجلوس هنا في القهوة شاربًا القهوة. يالها من عربية مطواع, أكتب ما شئت من الأخطاء, تجد له مبررًا في النحو العربي! زارني أخي الذي يصغرني بعشرين عامًا. متزوجا وله ثلاثة واع! واع! واع!.. جاءني بسجائر من سبتة وأعارني خمسين درهمًا لاشتري بها حاجياتي, خبز المستشفى لا يكفيني! أما عزلتي فهي فائضة عني وقتما يسقسق الشحرور, أو عندما يصطاد البوم لحمه الليلي.
صحتي تحسنت كثيرًا بفضل عناية الدكتور الجعيدي (أرجو أن تكتب له, إذا كان ذلك في إمكانك, رسالة شكر نيابة عني) إنه إنسان مثالي, يعامل مرضاه من دون تمييز.
إننا نشيخ بسوء في هذا البلد!
محمد شكري.
عزيزي شكري
منذ فراقنا وأنا أفكر في الكتابة إليك. لكن كتابة الرسائل إلى الأصدقاء ليست عملاً سهلاً. فهي أيضًا كتابة بالمعنى المطلق وفي هذه النقطة بالذات تكمن مشكلتي: أشياء كثيرة أكتبها بالخيال أو قبيل النوم, دفعة واحدة بلا ألفاظ, أو بألفاظ مكثفة, يومًا بعد يوم, تتنامى مشاريع الكتابة إلا أن شيئًا ما, يرجئها, يخبئها, في الذاكرة أو يعلقها على رؤوس الأصابع.. لا أظن أن هناك شيئًا أقسى من هذه الحال: الرغبة الجامحة في الكتابة ثم الإحجام لعائق حقيقي أو وهمي! إننا نصير غير ما نحن عليه أو ما نريد أن نكون عليه من خلال الممارسة والكتابة. انفصام ذواتنا المجرّبة عن التعبير يضفي على حياتنا هذا الشعور بالعبث واللاجدوى والتمزق.
ليس معنى ذلك أن الحياة في حد ذاتها محصنة ضد العدمية. ولكن بالنسبة لمن يكتبون أو يرسمون, عدم ممارستهم للتعبير, كوهمٍ يفسر ويغنى, يجعل الحياة أكثر استحالة.
الحل بسيط (نظريًا) ما علينا إلا أن نكتب بانتظام.. إلا أن الأمر أصعب مما نتصور.. ما أحوجنا إلى أن نعلن حالة طوارئ لنعتكف ونكتب حتى نستنزف ما بدواخلنا ثم نعود إلى الممارسة والمشاهدة! إن الفنان لا يستطيع أن ينفصل عن طرح أساسي في كيانه, وإلا سيحكم على نفسه بالتعاسة, واللا تطابق, لأن الأمر يتعلق كما قال نيتشه: بأن تصير ما أنت.
تحياتي وأشواقي.. محمد برّادة.
مستشفى الأمراض العقلية - ماريوكا - تطوان - 18/12/1977
تحياتي
لقد أفقت هذا الصباح حوالي الخامسة. المرضى كلهم نائمون, أضأت الحجرة وأكلت برتقالة ثم دخنت أول سيجارة, وأخذت أقرأ في رواية زمن الصمت للطبيب النفسي والأديب لويس مارين سانتوس. قرأت حوالي ثلاثين صفحة ثم استيقظ مريض يشاركني في الحجرة وفتح المذياع.. أتمنى أن تكون ليلى قد تحسن تنفسها, هكذا كنت أنا أيضًا, كنت أبحث عن شحنة من الهواء فلا أجدها. أيام أزمتي سنة 1957 حاولت ابتلاع حوالي عشرين كبسولة من ليبريوم, لم أبلع سوى خمس أو ست عندما دخل صاحب الفندق الإسباني غرفتي وأنقذوني. حُملت إلى مستشفى الأمراض العقلية في بني مكادة.
أحد المرضى جاءني البارحة صباحًا إلى حجرتي, دخن معي سيجارة وأضفت له كأس شاي أسود. بكى وعانقني قائلاً: سأمرر هذا الشعب. قلت له: بِمً ستمرره? قال: ويأتيك بالأخبار من لم تزود. في المساء هرب في الليل. خرج أحد المرضى المسموح لهم بالخروج وعثر عليه سكرانًا, وفي يده عصا يحكم بها الجن.. والإنس.
محمد شكري.
(الرباط 1977)
العزيز شكري
الحالات التي تحدثت عنها ليست غريبة عني. باستمرار أعاني من اللاتواصل ومن انعدام الدفء الخاص الذي يحيل الحياة إلى مجموعة لحظات متميزة تبدد الشعور بالتفاهة والعرضية والنهيلية. قد لا يجدي التحليل العقلي لهذه الظاهرة ولغيرها التي تجعل منا جيلاً ممزقًا, متهدمًا من الداخل. يلهث وراء قيم وتصورات وبدائل تنفلت باستمرار من بين أصابعنا وتفسح المجال لتراكم غشوات سميكة من العبثية والرتابة وانتقاء معنى الأشياء إن لم يكن معنى الحياة.
لكنني أعتقد أن الوعي البعدي لوضعيتنا كمثقفين غرباء عن الآخرين, محرومين من مناخ ملائم لتحقيق مغامراتنا المتعددة الزوايا والأبعاد, هو الذي يزج بنا في متاهات التمرد والعبث, أكثر من مرة أقول مع نفسي: مأساتنا أننا نشبه الرصاصة التي لم تنطلق من جعبتها وظلت حبيسة بندقية يقرضها الصدأ. يضاف إلى ذلك كله الكبح العام الذي يطبع علاقات مجتمعنا ليجعل من البشر دمى ولوالب وهياكل وخنافس تطأها الأقدام! تمر بي تجارب ولحظات تجعلني أرتعش من الغيظ والحقد واليأس, لأننا نعيش حياة غير التي نريد, حياة مليئة بالثقوب, مغمضي العينين والأفواه, وفي أحسن الحالات ندق قبضاتنا ورؤوسنا فوق الجدار.
علينا أن نناضل ليُتاح لنا حق الكتابة والنشر, وفي الوقت نفسه نحلم بأن تتغير جميع الأشياء في مجتمعنا. العزيز شكري: لا تنس أن تبعث لي مخطوط روايتك, فسأبذل جهدي لتنشر ويقرأها الناس.. وأن تبعث لي نصًا آخر للعدد الثاني من (آفاق) الأول سيفرج عنه بعد أسبوع. سيُعقد مؤتمر أدباء العرب بطرابلس في نهاية مارس (آذار) لعل الحظ يكون من نصيبك إذا رشّحك الفرع.
أشواقي وقبلاتي.. محمد برّادة
مستشفى الأمراض العقلية - مايوركا - تطوان 1977
عزيزي محمد
صباح التطور والذكاء والثورة على زماننا اللعين, خذ مني كل شيء ولا تبق شيئًا. شربت قهوتين بالحليب.. خرجت أتمشى في ممر الجناح مدخنًا دخينة إثر دخينة. أمس قابلت محمد الميموني في مقهى نيبون. خرجنا إلى الشارع نتجول. بحكم فراسة الوجوه التي قرأت عنها كثيرًا كانت الوجوه كلها تبدو بليدة. ما جدوى أن يبيضّ شعر الإنسان إذا لم يساهم في المقبل المجدي.. إلى اللقاء.. سلامي لكما أنت وليلى والأصدقاء.
م. شكري
باريس 1982
عزيزي شكري: التحايا والأشواق. كان اليومان اللذان قضيناهما في طنجة, بصحبتك ممتعين غيّرا من رتابة الرباط وطقوسها المتكسلة. كأن طنجة (طنجة شكري أعني) تقع خارج المحيط المغربي المشغول بالهموم اليومية والأحاديث المكرورة. وملاحقات التلفزيون.. أنت نجحت في أن تخلق حاشيتك.
ما يثيرني, دائمًا هو اللامتوقع في عالم المرأة.. ومن يدري, فقد تصبح فاطمة سكرتيرتك وتوحي لك بالمزيد من العطاء والكتابة. خاصة أن عناصر الرواية ماثلة أمامك: الأم ومناخها ومسيرتها, والابنة ومسيرتها وانفتاحها على عالم الكتب وعلى الدكتور القباني, هربًا من واقع تخلو ممارسته من الشعرية.. وفي وسط الطريق تلتقي ببطلها المثال: شكري عشيق أمها - المثال.. أين تضع نفسها? كأن العالم انغلقت أبوابه دونها فكيف تستطيع فاطمة أن تصنع مثالها? إحك لنا أيها الروائي الكسلان.
باريس استقبلتني بالمطر والجو الرمادي.. وأحتاج إلى وقت لأتكيف مع إيقاع الحياة هنا.. ليلى تعود غدًا من القاهرة, بي شوق إليها, والأسئلة عن حياتنا في المستقبل: نظل هنا? نعود إلى الرباط? لست أدري.
بي شوق كذلك إلى الشروع في رواية جديدة.. لعلك تتذكر وعدك بأن تسجل لي شريطًا مع المرابط.. فأرجو أن تنفذ ما وعدتني به.
في انتظار أن أقرأك, التحايا والأشواق.
محمد برّادة.
مقاطع صغيرة من رسائل طويلة أو قصيرة ربما تضيء جانبًا خاصًا جدًا لمسار مبدع رحل عنا (شكري) وناقد ومبدع مازال بين ظهرانينا (برّادة) ورأيت أن التمعن في سطور الرسائل أفضل بكثير من التعليق عليها.. لما تحمله من جمالية وصدق البوح ومرحلة زمنية كتبت فيها.
- تم الحصول على هذه الرسائل من الناقد محمد برادة, وكشف عن بعضها في الصحافة المغربية, وتنشر العرب اليوم جزءا مما نشر مما لم يُنشر.
* شاعرة وقاصة أردنية
العرب اليوم - يُنشر بعضها لأول مرة
* إبداع آخر مليء بالاغتراب والفضفضة البعيدة عن الدبلوماسية
الرسائل المتبادلة بين المبدعين الكبار لها رحيقها اللطيف, وطزاجتها الدائمة, لأنها تحمل في طياتها الهمّ العام والهمّ الخاص, مكتوبًا بلا تزويق أو تجميل, وتفتح لنا شراعات متباينة على إبداعٍ آخر مليء بالشجن والفرح والاغتراب والفضفضة البعيدة عن الدبلوماسية. خاصة إذا كان أحد طرفيها الروائي المغربي محمد شكري, صاحب الخبز الحافي, الذي لا يعبأ بأي حال من الأحوال بحدود الدبلوماسية والخطوط الحمراء القانية أو الباهتة, أما الطرف الثاني فهو الناقد والأكاديمي والروائي المغربي محمد برّادة, المعروف بتواضعه وسعة ثقافته وانفتاحه على جميع المبدعين.
من باريس وطنجة, وتطوان, والرباط ومستشفى الأمراض العقلية, والروائي شكري المقيم في الوطن حين تملّك منه القلق والاكتئاب, فوصل إلى حالة تقترب من حافة الألم المجنون. فاختار طوعًا الدخول إلى المشفى للعلاج بصفته نزيلاً, يستطيع الترويح عن نفسه يوميًا في بعض المقاهي, ومنها مقهى نيبون ليعود مساء إلى المشفى. رسائله مكتوبة من تلك الأمكنة, وتعبّر عن مكنونات هواجسه, وتطلعاته وإحباطاته, وتصف مشاعره الرهيفة ومعاناته مع الكتابة. وتسجل حالة الاغتراب الهائلة المتملكة من جوارحه. بينما الناقد برّادة يكتب من باريس, مكان الغربة القصيّ عن الوطن, وأيضاً من الوطن مرتحلاً إلى مدن أخرى بسبب أزمات العمل وغيرها, مترجمًا إحساسه العارم باليأس, بالشوق, بالحنين, إلى زميله شكري. وبالوقت ذاته مادًّا ذراعيه كغيمة ماطرة إلى صديقه شكري محاورًا ومساندًا وداعمًا ومفضفضًا.
لنبدأ بالرسائل التي بعثها محمد برّادة أثناء إقامته بالرباط إلى محمد شكري.
(الرباط 30/6/1975)
قرأت الفصل الذي أعطيته لي من سيرتك العاطرة (من أجل الخبز وحده) ووجدته ممتعًا ومليئًا باللقطات الإنسانية. وأعتقد مبدئيًا قبل الوصول إلى قاع الخابية - لا أن يحول دون نشرها هنا بالمغرب. من جهة ثانية زارني مدير وكالة أورينت برس (وهو مقيم بلندن) وأبدى استعداده لنشر أعمال مغربية. وللأسف لا أتوفر على سيرتك كاملة. إذا استطعت أن ترسل بقية الفصول فسأعمل - جهد الإمكان - على نشرها هنا أو في الشرق.
محمد برّادة.
ويرد شكري
من شعر صديقي الإسباني خونيو, أول قصيدة تبدأ هكذا:
ينبوع الجميع
الشعب كان ظمآن
ولم يكن هناك غير ينبوع واحد
للشرب
ليس للينبوع مالك
مياهه كانت للجميع
للشعب كله
لكن الماء انساب
ينسخ السحب: طفل كان يتأمله
عندما سأعود إلى طنجة سأعكف على ترجمة مختارات من هذا الديوان ودواوين أخرى.
سلم لي على ليلى وأنت خذ مني كل شيء ولا تبعث شيئًًا. لم أعد أشرب كأسًا وأسكب الباقي على رأسي ماشيًا راقصًا إلى الحلبة, متلقفًا القطرات الممزوجة برائحة شعري, ولصخب الموسيقا يرقص كل جسدي.. إلى لقاء محبتي وصداقتي.
محمد شكري
تنويه: السفيرة ليلى شهيد زوجة محمد برادة.
عزيزي شكري..
أذكر طنجة باستمرار, وأذكرك وأتمنى لو أن الوقت يسمح بالسفر إليكم, فمدينتكم تمنحنا وهم الانطلاق والتحرر من القيود.. وآمل أن تكون قد انتظمت في الكتابة كما وعدت, وأن تجعل شعارك لهذه السنة الكتابة ضد الابتذال, وضد الجنون, وضد العنف, وضد المخلوقات الطفيلية الحقيرة. إن الكتابة في النهاية تمنحنا انتصارًا من نوعٍ خاص ضد جميع الجوانب التي نرفضها في مجتمعنا وعالمنا. بلغ تحياتي لصديقك الشاعر الإسباني خونيو, وإلى عالم طنجة الليلي الجميل.
ملحوظة: لماذا لم ترسل لنا (4) نسخ من سيرتك الذاتية لندرجها ضمن الإنتاج الذي توصلنا به بقصد النشر?
تحياتي وأشواقي..
محمد برّادة
نتلمس تلك العلاقة الشجيّة بين المحمدين, ونرى أيضًا, وبوضوح, المبالاة العميقة بفعل الكتابة والغيرة الأخلاقية بين المبدعين. والتواصل الحميمي في لحظات الانكفاء ودفع الآخر للآخر من أجل الإنجاز والتحقق, النصاعة والصفاء وعدم التخلي في أوقات الشدّة الحالكة عن الصديق.
بعد سنتين يكتب محمد شكري من مستشفى الأمراض العقلية - مايوركا - تطوان.
18/12/1977
عزيزي محمد
هذا يومي الثاني عشر لي في المستشفى, أنا في مقهى نيبون الذي أكتب لك منه.
داخل المستشفى أتمشى تارة, وأخرى أجالس أحد المرضى الأذكياء, فيحكي لي عن مآسي حياته.. الإحساس بالكتابة بدأ يغزوني في هذا البيمارستان, عندما أخرج من هنا سأحاول أن أغيّر حياتي.
في تطوان لا أجد ما يغريني, إلا البقاء في المستشفى أو الجلوس هنا في القهوة شاربًا القهوة. يالها من عربية مطواع, أكتب ما شئت من الأخطاء, تجد له مبررًا في النحو العربي! زارني أخي الذي يصغرني بعشرين عامًا. متزوجا وله ثلاثة واع! واع! واع!.. جاءني بسجائر من سبتة وأعارني خمسين درهمًا لاشتري بها حاجياتي, خبز المستشفى لا يكفيني! أما عزلتي فهي فائضة عني وقتما يسقسق الشحرور, أو عندما يصطاد البوم لحمه الليلي.
صحتي تحسنت كثيرًا بفضل عناية الدكتور الجعيدي (أرجو أن تكتب له, إذا كان ذلك في إمكانك, رسالة شكر نيابة عني) إنه إنسان مثالي, يعامل مرضاه من دون تمييز.
إننا نشيخ بسوء في هذا البلد!
محمد شكري.
عزيزي شكري
منذ فراقنا وأنا أفكر في الكتابة إليك. لكن كتابة الرسائل إلى الأصدقاء ليست عملاً سهلاً. فهي أيضًا كتابة بالمعنى المطلق وفي هذه النقطة بالذات تكمن مشكلتي: أشياء كثيرة أكتبها بالخيال أو قبيل النوم, دفعة واحدة بلا ألفاظ, أو بألفاظ مكثفة, يومًا بعد يوم, تتنامى مشاريع الكتابة إلا أن شيئًا ما, يرجئها, يخبئها, في الذاكرة أو يعلقها على رؤوس الأصابع.. لا أظن أن هناك شيئًا أقسى من هذه الحال: الرغبة الجامحة في الكتابة ثم الإحجام لعائق حقيقي أو وهمي! إننا نصير غير ما نحن عليه أو ما نريد أن نكون عليه من خلال الممارسة والكتابة. انفصام ذواتنا المجرّبة عن التعبير يضفي على حياتنا هذا الشعور بالعبث واللاجدوى والتمزق.
ليس معنى ذلك أن الحياة في حد ذاتها محصنة ضد العدمية. ولكن بالنسبة لمن يكتبون أو يرسمون, عدم ممارستهم للتعبير, كوهمٍ يفسر ويغنى, يجعل الحياة أكثر استحالة.
الحل بسيط (نظريًا) ما علينا إلا أن نكتب بانتظام.. إلا أن الأمر أصعب مما نتصور.. ما أحوجنا إلى أن نعلن حالة طوارئ لنعتكف ونكتب حتى نستنزف ما بدواخلنا ثم نعود إلى الممارسة والمشاهدة! إن الفنان لا يستطيع أن ينفصل عن طرح أساسي في كيانه, وإلا سيحكم على نفسه بالتعاسة, واللا تطابق, لأن الأمر يتعلق كما قال نيتشه: بأن تصير ما أنت.
تحياتي وأشواقي.. محمد برّادة.
مستشفى الأمراض العقلية - ماريوكا - تطوان - 18/12/1977
تحياتي
لقد أفقت هذا الصباح حوالي الخامسة. المرضى كلهم نائمون, أضأت الحجرة وأكلت برتقالة ثم دخنت أول سيجارة, وأخذت أقرأ في رواية زمن الصمت للطبيب النفسي والأديب لويس مارين سانتوس. قرأت حوالي ثلاثين صفحة ثم استيقظ مريض يشاركني في الحجرة وفتح المذياع.. أتمنى أن تكون ليلى قد تحسن تنفسها, هكذا كنت أنا أيضًا, كنت أبحث عن شحنة من الهواء فلا أجدها. أيام أزمتي سنة 1957 حاولت ابتلاع حوالي عشرين كبسولة من ليبريوم, لم أبلع سوى خمس أو ست عندما دخل صاحب الفندق الإسباني غرفتي وأنقذوني. حُملت إلى مستشفى الأمراض العقلية في بني مكادة.
أحد المرضى جاءني البارحة صباحًا إلى حجرتي, دخن معي سيجارة وأضفت له كأس شاي أسود. بكى وعانقني قائلاً: سأمرر هذا الشعب. قلت له: بِمً ستمرره? قال: ويأتيك بالأخبار من لم تزود. في المساء هرب في الليل. خرج أحد المرضى المسموح لهم بالخروج وعثر عليه سكرانًا, وفي يده عصا يحكم بها الجن.. والإنس.
محمد شكري.
(الرباط 1977)
العزيز شكري
الحالات التي تحدثت عنها ليست غريبة عني. باستمرار أعاني من اللاتواصل ومن انعدام الدفء الخاص الذي يحيل الحياة إلى مجموعة لحظات متميزة تبدد الشعور بالتفاهة والعرضية والنهيلية. قد لا يجدي التحليل العقلي لهذه الظاهرة ولغيرها التي تجعل منا جيلاً ممزقًا, متهدمًا من الداخل. يلهث وراء قيم وتصورات وبدائل تنفلت باستمرار من بين أصابعنا وتفسح المجال لتراكم غشوات سميكة من العبثية والرتابة وانتقاء معنى الأشياء إن لم يكن معنى الحياة.
لكنني أعتقد أن الوعي البعدي لوضعيتنا كمثقفين غرباء عن الآخرين, محرومين من مناخ ملائم لتحقيق مغامراتنا المتعددة الزوايا والأبعاد, هو الذي يزج بنا في متاهات التمرد والعبث, أكثر من مرة أقول مع نفسي: مأساتنا أننا نشبه الرصاصة التي لم تنطلق من جعبتها وظلت حبيسة بندقية يقرضها الصدأ. يضاف إلى ذلك كله الكبح العام الذي يطبع علاقات مجتمعنا ليجعل من البشر دمى ولوالب وهياكل وخنافس تطأها الأقدام! تمر بي تجارب ولحظات تجعلني أرتعش من الغيظ والحقد واليأس, لأننا نعيش حياة غير التي نريد, حياة مليئة بالثقوب, مغمضي العينين والأفواه, وفي أحسن الحالات ندق قبضاتنا ورؤوسنا فوق الجدار.
علينا أن نناضل ليُتاح لنا حق الكتابة والنشر, وفي الوقت نفسه نحلم بأن تتغير جميع الأشياء في مجتمعنا. العزيز شكري: لا تنس أن تبعث لي مخطوط روايتك, فسأبذل جهدي لتنشر ويقرأها الناس.. وأن تبعث لي نصًا آخر للعدد الثاني من (آفاق) الأول سيفرج عنه بعد أسبوع. سيُعقد مؤتمر أدباء العرب بطرابلس في نهاية مارس (آذار) لعل الحظ يكون من نصيبك إذا رشّحك الفرع.
أشواقي وقبلاتي.. محمد برّادة
مستشفى الأمراض العقلية - مايوركا - تطوان 1977
عزيزي محمد
صباح التطور والذكاء والثورة على زماننا اللعين, خذ مني كل شيء ولا تبق شيئًا. شربت قهوتين بالحليب.. خرجت أتمشى في ممر الجناح مدخنًا دخينة إثر دخينة. أمس قابلت محمد الميموني في مقهى نيبون. خرجنا إلى الشارع نتجول. بحكم فراسة الوجوه التي قرأت عنها كثيرًا كانت الوجوه كلها تبدو بليدة. ما جدوى أن يبيضّ شعر الإنسان إذا لم يساهم في المقبل المجدي.. إلى اللقاء.. سلامي لكما أنت وليلى والأصدقاء.
م. شكري
باريس 1982
عزيزي شكري: التحايا والأشواق. كان اليومان اللذان قضيناهما في طنجة, بصحبتك ممتعين غيّرا من رتابة الرباط وطقوسها المتكسلة. كأن طنجة (طنجة شكري أعني) تقع خارج المحيط المغربي المشغول بالهموم اليومية والأحاديث المكرورة. وملاحقات التلفزيون.. أنت نجحت في أن تخلق حاشيتك.
ما يثيرني, دائمًا هو اللامتوقع في عالم المرأة.. ومن يدري, فقد تصبح فاطمة سكرتيرتك وتوحي لك بالمزيد من العطاء والكتابة. خاصة أن عناصر الرواية ماثلة أمامك: الأم ومناخها ومسيرتها, والابنة ومسيرتها وانفتاحها على عالم الكتب وعلى الدكتور القباني, هربًا من واقع تخلو ممارسته من الشعرية.. وفي وسط الطريق تلتقي ببطلها المثال: شكري عشيق أمها - المثال.. أين تضع نفسها? كأن العالم انغلقت أبوابه دونها فكيف تستطيع فاطمة أن تصنع مثالها? إحك لنا أيها الروائي الكسلان.
باريس استقبلتني بالمطر والجو الرمادي.. وأحتاج إلى وقت لأتكيف مع إيقاع الحياة هنا.. ليلى تعود غدًا من القاهرة, بي شوق إليها, والأسئلة عن حياتنا في المستقبل: نظل هنا? نعود إلى الرباط? لست أدري.
بي شوق كذلك إلى الشروع في رواية جديدة.. لعلك تتذكر وعدك بأن تسجل لي شريطًا مع المرابط.. فأرجو أن تنفذ ما وعدتني به.
في انتظار أن أقرأك, التحايا والأشواق.
محمد برّادة.
مقاطع صغيرة من رسائل طويلة أو قصيرة ربما تضيء جانبًا خاصًا جدًا لمسار مبدع رحل عنا (شكري) وناقد ومبدع مازال بين ظهرانينا (برّادة) ورأيت أن التمعن في سطور الرسائل أفضل بكثير من التعليق عليها.. لما تحمله من جمالية وصدق البوح ومرحلة زمنية كتبت فيها.
- تم الحصول على هذه الرسائل من الناقد محمد برادة, وكشف عن بعضها في الصحافة المغربية, وتنشر العرب اليوم جزءا مما نشر مما لم يُنشر.
* شاعرة وقاصة أردنية
♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠
كلمة حق في زمن النفاق
يجب أن تقال
يجب أن تقال
محمد الورياكلي- فارس المنتدى
- الجنس : عدد المساهمات : 2246
درجة التقدير : 2
تاريخ الميلاد : 25/11/1954
تاريخ التسجيل : 11/09/2010
العمر : 69
رد: رسائل محمد شكري ومحمد برّادة.. بوح على حافة الألم
[size=32]ما زال الكاتب المغربي محمد شكري (1935-2003) شاغل الناس وعنوان تجربة أدبية وإنسانية فريدة من نوعها، تحقق لصاحبها -على الأقل- ذلك الأمل العزيز والمشروع الذي يراود المبدعين في أن تعيش أسماؤهم وعناوين تركتهم الفنية والأدبية طويلا بعد أن تفنى أجسادهم.
بالنسبة لكثير من النقاد المغاربة والعرب والأجانب الذين تابعوا تجربة شكري، يشكل هذا الأخير قيمة أدبية أكيدة لا تستمد نسغها فحسب من فرادة التجربة الحياتية لشخص ولد ونما على هامش المدينة والمجتمع، وأنتج صوته الخاص بعدما اهتدى إلى تعلم عصامي متأخر (في سن العشرين) فتح له أبواب التعبير عن الذات والبوح بسيرتها "الشطارية"، التي هي "تاريخ لمن ينساهم التاريخ" بتعبير الناقد المغربي محمد برادة.
سيرة شرائح واسعة تلوذ بالصمت وتنصاع لقانون المجتمع. في المقابل، يربط آخرون صيته العابر للحدود والقارات واقتحامه لأرقى المحافل الأدبية والجامعات باختياره موضوعات ذات جاذبية "استشراقية" تثير شهية الغرب للتعرف على أصوات "مشاكسة" تغرد خارج سرب نظام الأخلاق والكتمان الجماعي. ولكل فريق حججه ومناصروه.
ويتفق الباحثون على أن قمة التراث الأدبي لمحمد شكري تحققت في مادته السيرة الذاتية، حيث يصبح النص تاريخا شخصيا لذات هائمة تجترح عبورا عنيفا وحافلا في الزمن وفي فضاءات طنجة، تلك المدينة المطلة على البحر المتوسط، ذات الثقل الأسطوري التي خلد شكري تاريخها السري، الليلي والهامشي وغير المكتوب، في مشاهد التشرد والجوع، وسراديب الدعارة الرخيصة والمخدرات والشذوذ وأجواء العربدة في الحانات الشعبية.
وقد وجدت هذه الأبعاد السيرية والأدبية صداها في مواد ملف تضمنه العدد الأخير من مجلة "عن الكتب" التي تصدر بمدينة طنجة، الفضاء الساحر الذي احتضن محمد شكري وصنع وعيه الفردي والأدبي، بليله ومجونه وعنفه وتناقضاته الاجتماعية والاقتصادية. شهادات وأوراق نقدية وحوارات، لكتاب مغاربة وأجانب، احتفت بتجربة مؤلف "الخبز الحافي"، الذي عرف عنه إقباله على الحياة وتوتر علاقته بالموت.
عصامية الهامش وصوته
يستعيد الناقد والروائي المغربي أحمد المديني سيرة الراحل كسليل الهامش المنبوذ الذي رغب في تحسين وضعه وصورته مع نفسه وتجاه مجتمعه الذي كان قد نبذه وعاش فيه على الطريق. إنه بالنسبة له "نموذج لعصامية فذة وهكذا ينبغي أن يوصف دائما قبالة من تلقوا تعليما منتظما وأصبحوا كتابا في ظروف مناسبة".
ويرى المديني أن الكاتب الأميركي الشهير بول بولز -الذي أقام طويلا في طنجة وصاحب شكري في علاقة مليئة بالالتباس والألغاز- لعب دورا حاسما في بروز اسم شكري على واجهة الأدب العالمي، حيث كان أول من كتب سيرة شكري بالإنجليزية (الخبز الحافي)، وجمع شتاتها بعد أن تلقاها شفويا من الكاتب، الذي عاد بعد سنوات إلى كتابتها باللغة العربية.
وبالتالي كانت النسخة الإنجليزية نافذة انفتحت للكاتب المغمور بحيث تواترت منذئذ الترجمات والدراسات والكتابات الصحافية حول ظاهرة محمد شكري في سياق اهتمام كاسح من العالم الغربي، يعزوه المديني لاحتفاء سيرة شكري "بما هو هامشي وفضائحي يكشف عورة غيرهم وبؤسهم ويتعدى على التقاليد والتوافقي ويجسد النبذ والمأساوي". كأن شكري اهتدى إلى طريق الأدب انتقاما من وضع اجتماعي شديد البؤس والانكشاف.. عن طريق فضحه، ولو سرديا.
يقول الناقد المغربي محمد برادة "كان من الممكن أن يبقى شكري رقما مجهولا وسط ملايين الشباب المغربي الذين فرض عليهم أن يعبروا الحياة وهم على الهامش، لكن وعيه الذي جعله يتعلم القراءة والكتابة أتاح ولادة صوت يتكلم باسمه واسم الآلاف من الشباب المغربي الذين فقدوا صوتهم جراء الفقر والأمية".
الصدمة الأخلاقية
مشاكسات محمد شكري ونصوصه العارية الصادمة لما يسمى بالحس الأخلاقي الجماعي زادت من شهرته ودفعت به خارج حدود القطر المغربي والفضاء العربي، بحيث حظيت نصوصه بإقبال جماهيري مثير حتى في بلدان معروفة بتربتها الاجتماعية المحافظة، مثل بلدان الخليج العربي، كما يلاحظ الناقد والكاتب إبراهيم الخطيب الذي يستعيد الردود الصادرة ضد سيرة "الخبز الحافي" بعد نزولها إلى المكتبات المغربية. فقد منعت الرواية من التداول بعد بضعة أسابيع من صدورها.
ويرى الخطيب أن النقد المحافظ بالغ في إبراز الممنوعات الاجتماعية والجنسية التي قاربها الكاتب، إلى أن اهتبل الفرصة لشن حملة شرسة، وفي نفس الوقت، مغرضة على الرواية، أدت إلى سحب نسخها من المكتبات بعد تدخل أجهزتي وزارتي الداخلية والأوقاف، وهو ما شكل ضربة مادية قاسية للكاتب الذي طبع الكتاب على نفقته الخاصة. في ظل المنع، شكل النسخ شبه السري وتداول النسخ القليلة المتوافرة من يد ليد وسيلة حفظت شهرة الرواية بل زادت من جاذبيتها والإقبال عليها محليا.
وقد تجاوز المنع حدود المملكة ليشمل "الخبز الحافي" في مناسبات عديدة، من ضمنها معارض الكتاب في عدة بلدان عربية، بل صدر المنع في فضاءات معروفة بانفتاحها على أوسع آفاق الإبداع الأدبي، على غرار الجامعة الأميركية بالقاهرة التي منعت الرواية لمدة 13 سنة.
ومع ذلك، يرى الخطيب أن مرور 39 سنة على صدور النص الإنجليزي لم يزد "الخبز الحافي" إلا راهنية وقدرة على المشاكسة، إذ ما زالت موضوعا خصبا للبحث والدراسة في العديد من الجامعات الدولية.
وفق هذا الرأي، فإن الردود الأخلاقية أهملت جوانب التميز في أدب شكري الذي نجح من خلال "الخبز الحافي" في "بناء صيرورة متماسكة من الأحداث بناء محكما تدعمه لغة حسية عنيفة استمدت نسغها من معايشة تلك الأحداث معايشة آنية أو عبر ذاكرة حريصة على استحضار مجريات الماضي".
مشروع غير مكتمل
كانت علاقات شكري كثيرة مع مجموعة الأدباء المغاربة والأجانب الذين تستهويهم روح طنجة وأساطيرها الحية. وقد وثقت أعماله بعض علاقاته مع كبار الأدباء العالميين من أمثال جان جنيه وبول بولز وتينيسي وليامز. ومع ذلك، كان مزاجه الصعب وتقلب أحواله يفقده الكثير من الصداقات الكبيرة.
وتعد صداقته مع الناقد المغربي الشهير محمد برادة واحدة من العلاقات "الناجية" التي أثمرت عملا مشتركا، عبارة عن رسائل متبادلة بينهما نشرت تحت عنوان "ورد ورماد". كان برادة يحاول توجيه محمد شكري نحو تعميق تجربته الإبداعية وانتشاله من وحل عالم "الصعلكة" العقيمة. بعد سنوات على رحيل صديقه، يقر برادة بموهبة صاحب "زمن الأخطاء" و"الشطار" و"مجنون الورد" والخيمة".
يرى برادة أن "الخبز الحافي" نص أدبي يمتح من المعيش ويكتسي شكل رواية السيرة، ويمزج الواقع بالتخييل. ردا على المشككين في موهبة شكري، يقول الناقد المغربي "من خلال نصوصه يتجلى بأن شكري واع بعناصر الصنعة الأدبية في مفهومها الحديث فضلا عن جرأته في استنطاق ذاته بعيدا من الطهورية والاحتشام.. وهذه صفات تمنحه عن جدارة صفة الكاتب".
لكنه لا يخفي مرارته بتوقف مشروع شكري في منتصف الطريق "كنت أحس أن باستطاعة شكري أن يكتب أكثر وأن يفتح أفقا جديدا أمام كتابته، خاصة بعد أن حصل على الاعتراف وتوافرت له شروط مادية تسعفه على التفرغ للإبداع".
ويضيف برادة "لكن يخيل إلي الآن أنني كنت أسائل من خلاله وضعية الكتاب المغاربة الذين لم يستطيعوا الخروج من خانة الهواية و"كتاب يوم الأحد" (يوم العطلة الإدارية في المغرب).. ولعلني كنت متوهما لأن شروط حياته الملموسة كانت تطبق عليه فلم يكن بوسعه الذهاب إلى أبعد. وتحول في سنوات حياته الأخيرة إلى محترف حوارات تلفزيونية وصحفية تدور حول تجربته في الكتابة والحياة
وفي شهادة من داخل المشهد الثقافي الغربي، يذهب الكاتب الإسباني الشهير خوان غويتيصولو إلى أن إنجاز شكري لا ينحصر في عملية الفضح ذات الطابع الثقافي والأخلاقي فحسب، بل أيضا ذات البعد اللغوي. إنه تمرد على مستوى تصور الحياة والتجربة الملموسة.
ويخلص الكاتب الإسباني إلى أن "محكي شكري يرمز إلى مصير كل طفل أو شاب تحرمه شروطه الفردية والاجتماعية من الحصول على امتيازات معنوية ومادية تستفيد منها بشكل حصري أقلية من المتحكمين".[/size]
بالنسبة لكثير من النقاد المغاربة والعرب والأجانب الذين تابعوا تجربة شكري، يشكل هذا الأخير قيمة أدبية أكيدة لا تستمد نسغها فحسب من فرادة التجربة الحياتية لشخص ولد ونما على هامش المدينة والمجتمع، وأنتج صوته الخاص بعدما اهتدى إلى تعلم عصامي متأخر (في سن العشرين) فتح له أبواب التعبير عن الذات والبوح بسيرتها "الشطارية"، التي هي "تاريخ لمن ينساهم التاريخ" بتعبير الناقد المغربي محمد برادة.
سيرة شرائح واسعة تلوذ بالصمت وتنصاع لقانون المجتمع. في المقابل، يربط آخرون صيته العابر للحدود والقارات واقتحامه لأرقى المحافل الأدبية والجامعات باختياره موضوعات ذات جاذبية "استشراقية" تثير شهية الغرب للتعرف على أصوات "مشاكسة" تغرد خارج سرب نظام الأخلاق والكتمان الجماعي. ولكل فريق حججه ومناصروه.
ويتفق الباحثون على أن قمة التراث الأدبي لمحمد شكري تحققت في مادته السيرة الذاتية، حيث يصبح النص تاريخا شخصيا لذات هائمة تجترح عبورا عنيفا وحافلا في الزمن وفي فضاءات طنجة، تلك المدينة المطلة على البحر المتوسط، ذات الثقل الأسطوري التي خلد شكري تاريخها السري، الليلي والهامشي وغير المكتوب، في مشاهد التشرد والجوع، وسراديب الدعارة الرخيصة والمخدرات والشذوذ وأجواء العربدة في الحانات الشعبية.
وقد وجدت هذه الأبعاد السيرية والأدبية صداها في مواد ملف تضمنه العدد الأخير من مجلة "عن الكتب" التي تصدر بمدينة طنجة، الفضاء الساحر الذي احتضن محمد شكري وصنع وعيه الفردي والأدبي، بليله ومجونه وعنفه وتناقضاته الاجتماعية والاقتصادية. شهادات وأوراق نقدية وحوارات، لكتاب مغاربة وأجانب، احتفت بتجربة مؤلف "الخبز الحافي"، الذي عرف عنه إقباله على الحياة وتوتر علاقته بالموت.
عصامية الهامش وصوته
يستعيد الناقد والروائي المغربي أحمد المديني سيرة الراحل كسليل الهامش المنبوذ الذي رغب في تحسين وضعه وصورته مع نفسه وتجاه مجتمعه الذي كان قد نبذه وعاش فيه على الطريق. إنه بالنسبة له "نموذج لعصامية فذة وهكذا ينبغي أن يوصف دائما قبالة من تلقوا تعليما منتظما وأصبحوا كتابا في ظروف مناسبة".
ويرى المديني أن الكاتب الأميركي الشهير بول بولز -الذي أقام طويلا في طنجة وصاحب شكري في علاقة مليئة بالالتباس والألغاز- لعب دورا حاسما في بروز اسم شكري على واجهة الأدب العالمي، حيث كان أول من كتب سيرة شكري بالإنجليزية (الخبز الحافي)، وجمع شتاتها بعد أن تلقاها شفويا من الكاتب، الذي عاد بعد سنوات إلى كتابتها باللغة العربية.
وبالتالي كانت النسخة الإنجليزية نافذة انفتحت للكاتب المغمور بحيث تواترت منذئذ الترجمات والدراسات والكتابات الصحافية حول ظاهرة محمد شكري في سياق اهتمام كاسح من العالم الغربي، يعزوه المديني لاحتفاء سيرة شكري "بما هو هامشي وفضائحي يكشف عورة غيرهم وبؤسهم ويتعدى على التقاليد والتوافقي ويجسد النبذ والمأساوي". كأن شكري اهتدى إلى طريق الأدب انتقاما من وضع اجتماعي شديد البؤس والانكشاف.. عن طريق فضحه، ولو سرديا.
يقول الناقد المغربي محمد برادة "كان من الممكن أن يبقى شكري رقما مجهولا وسط ملايين الشباب المغربي الذين فرض عليهم أن يعبروا الحياة وهم على الهامش، لكن وعيه الذي جعله يتعلم القراءة والكتابة أتاح ولادة صوت يتكلم باسمه واسم الآلاف من الشباب المغربي الذين فقدوا صوتهم جراء الفقر والأمية".
الصدمة الأخلاقية
مشاكسات محمد شكري ونصوصه العارية الصادمة لما يسمى بالحس الأخلاقي الجماعي زادت من شهرته ودفعت به خارج حدود القطر المغربي والفضاء العربي، بحيث حظيت نصوصه بإقبال جماهيري مثير حتى في بلدان معروفة بتربتها الاجتماعية المحافظة، مثل بلدان الخليج العربي، كما يلاحظ الناقد والكاتب إبراهيم الخطيب الذي يستعيد الردود الصادرة ضد سيرة "الخبز الحافي" بعد نزولها إلى المكتبات المغربية. فقد منعت الرواية من التداول بعد بضعة أسابيع من صدورها.
ويرى الخطيب أن النقد المحافظ بالغ في إبراز الممنوعات الاجتماعية والجنسية التي قاربها الكاتب، إلى أن اهتبل الفرصة لشن حملة شرسة، وفي نفس الوقت، مغرضة على الرواية، أدت إلى سحب نسخها من المكتبات بعد تدخل أجهزتي وزارتي الداخلية والأوقاف، وهو ما شكل ضربة مادية قاسية للكاتب الذي طبع الكتاب على نفقته الخاصة. في ظل المنع، شكل النسخ شبه السري وتداول النسخ القليلة المتوافرة من يد ليد وسيلة حفظت شهرة الرواية بل زادت من جاذبيتها والإقبال عليها محليا.
وقد تجاوز المنع حدود المملكة ليشمل "الخبز الحافي" في مناسبات عديدة، من ضمنها معارض الكتاب في عدة بلدان عربية، بل صدر المنع في فضاءات معروفة بانفتاحها على أوسع آفاق الإبداع الأدبي، على غرار الجامعة الأميركية بالقاهرة التي منعت الرواية لمدة 13 سنة.
ومع ذلك، يرى الخطيب أن مرور 39 سنة على صدور النص الإنجليزي لم يزد "الخبز الحافي" إلا راهنية وقدرة على المشاكسة، إذ ما زالت موضوعا خصبا للبحث والدراسة في العديد من الجامعات الدولية.
وفق هذا الرأي، فإن الردود الأخلاقية أهملت جوانب التميز في أدب شكري الذي نجح من خلال "الخبز الحافي" في "بناء صيرورة متماسكة من الأحداث بناء محكما تدعمه لغة حسية عنيفة استمدت نسغها من معايشة تلك الأحداث معايشة آنية أو عبر ذاكرة حريصة على استحضار مجريات الماضي".
مشروع غير مكتمل
كانت علاقات شكري كثيرة مع مجموعة الأدباء المغاربة والأجانب الذين تستهويهم روح طنجة وأساطيرها الحية. وقد وثقت أعماله بعض علاقاته مع كبار الأدباء العالميين من أمثال جان جنيه وبول بولز وتينيسي وليامز. ومع ذلك، كان مزاجه الصعب وتقلب أحواله يفقده الكثير من الصداقات الكبيرة.
وتعد صداقته مع الناقد المغربي الشهير محمد برادة واحدة من العلاقات "الناجية" التي أثمرت عملا مشتركا، عبارة عن رسائل متبادلة بينهما نشرت تحت عنوان "ورد ورماد". كان برادة يحاول توجيه محمد شكري نحو تعميق تجربته الإبداعية وانتشاله من وحل عالم "الصعلكة" العقيمة. بعد سنوات على رحيل صديقه، يقر برادة بموهبة صاحب "زمن الأخطاء" و"الشطار" و"مجنون الورد" والخيمة".
يرى برادة أن "الخبز الحافي" نص أدبي يمتح من المعيش ويكتسي شكل رواية السيرة، ويمزج الواقع بالتخييل. ردا على المشككين في موهبة شكري، يقول الناقد المغربي "من خلال نصوصه يتجلى بأن شكري واع بعناصر الصنعة الأدبية في مفهومها الحديث فضلا عن جرأته في استنطاق ذاته بعيدا من الطهورية والاحتشام.. وهذه صفات تمنحه عن جدارة صفة الكاتب".
لكنه لا يخفي مرارته بتوقف مشروع شكري في منتصف الطريق "كنت أحس أن باستطاعة شكري أن يكتب أكثر وأن يفتح أفقا جديدا أمام كتابته، خاصة بعد أن حصل على الاعتراف وتوافرت له شروط مادية تسعفه على التفرغ للإبداع".
ويضيف برادة "لكن يخيل إلي الآن أنني كنت أسائل من خلاله وضعية الكتاب المغاربة الذين لم يستطيعوا الخروج من خانة الهواية و"كتاب يوم الأحد" (يوم العطلة الإدارية في المغرب).. ولعلني كنت متوهما لأن شروط حياته الملموسة كانت تطبق عليه فلم يكن بوسعه الذهاب إلى أبعد. وتحول في سنوات حياته الأخيرة إلى محترف حوارات تلفزيونية وصحفية تدور حول تجربته في الكتابة والحياة
وفي شهادة من داخل المشهد الثقافي الغربي، يذهب الكاتب الإسباني الشهير خوان غويتيصولو إلى أن إنجاز شكري لا ينحصر في عملية الفضح ذات الطابع الثقافي والأخلاقي فحسب، بل أيضا ذات البعد اللغوي. إنه تمرد على مستوى تصور الحياة والتجربة الملموسة.
ويخلص الكاتب الإسباني إلى أن "محكي شكري يرمز إلى مصير كل طفل أو شاب تحرمه شروطه الفردية والاجتماعية من الحصول على امتيازات معنوية ومادية تستفيد منها بشكل حصري أقلية من المتحكمين".[/size]
♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠♠
كلمة حق في زمن النفاق
يجب أن تقال
يجب أن تقال
محمد الورياكلي- فارس المنتدى
- الجنس : عدد المساهمات : 2246
درجة التقدير : 2
تاريخ الميلاد : 25/11/1954
تاريخ التسجيل : 11/09/2010
العمر : 69
مواضيع مماثلة
» إدريس الخوري يحتفل بالذكرى العاشرة لرحيل صديقه الكاتب محمد شكري بالشتم والنميمة الحاقدة
» محمد شكري
» محمد شكري ... سيرة الهامش
» محمد شكري عندما كان عمره 45 في برنامج فرنسي مؤرشف 1980
» من رسائل محمد بن عبد الكريم الخطابي
» محمد شكري
» محمد شكري ... سيرة الهامش
» محمد شكري عندما كان عمره 45 في برنامج فرنسي مؤرشف 1980
» من رسائل محمد بن عبد الكريم الخطابي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى