المغرب وفارس عبر التاريخ
صفحة 1 من اصل 1
المغرب وفارس عبر التاريخ
المغرب وفارس عبر التاريخ
الاستاذ:محمد بنتاويت التطواني
الاستاذ:محمد بنتاويت التطواني
في سنة إحدى وخمسين وتسع مائة وألف، كنت قد ألقيت محاضرة بمنزل الأستاذ الطريس بتطوان، وكانت حول صلة فارس بالمغرب، إلا أن اعتمادي الأساسي في هذا الموضوع كان على ما ورد في قصص الشاهنامه، ثم على بعض الشواهد التاريخية والقائمة.
وفي سنة اثنتين وخمسين عدت إلى الموضوع نفسه، لكني اعتمدت هذه المرة على التاريخ، فنشرت عنه مقالين بالعددين التاسع والعاشر من مجلة (لسان الدين) السنة الثامنة لها، واستمررت من ثم أتناول الموضوع المذكور تناولا تاريخيا، وأنشر عنه بمجلاتنا التي أذكر منها مجلة (الأنيس)، كما نشرت بهذا المجلة وبمجلة (الأنوار) بحوثا عن الكلمات الفارسية التي دخلت لغتنا عن طريق التركية أو العربية الفصيحة.
وفي سنة ست وخمسين، نشرت بمجلة (تمودة) بحثا بعنوان «بزوغ الثقافة العربية بالمغرب»، فتعرضت في هذا البحث إلى الدور الذي قامت به إمارة الرستميين أصحاب تاهرت الجديدة.
وفي سنة سبع وخمسين نشرت، بمجلة المعهد المصري للدراسات الإسلامية بمدريد، بحثا خاصا بدولة الرستميين أصحاب تاهرت، وذلك في العدد الخاص من الصحيفة المذكورة.
وفي سنة خمس وستين، تعرضت لهذه الدولة أيضا، في البحث الذي نشرته بمجلة (البحث العلمي)، عن قيام دولة الخوارج بالمغرب، ومن قبل بسنتين كنت قد حاضرت في هذا الموضوع نفسه بكلية الآداب في بنغازي واليوم أعود من جديد إلى طرق العلائق التاريخية بين فارس والمغرب، وقد تزودت بمعلومات أخرى وإن كانت قليلة بالنسبة إلى ما بذلته من جهد متواصل في هذا الباب.
وقبل أن أدخل في صميم الموضوع أريد أن أشير إلى أشياء أرى أنها جديرة بالتنبه إليها، وهي:
أ) إن كلمة فارس، كانت علما على إقليم بعينه، ثم صارت تطلق قبيل الإسلام على إيران جميعها، وهذا بالضبط ما حصل من الفرس تجاه العرب، حيث أطلقوا كلمة طائي (تازي) على كل عربي، وهو ما حصل لليونان والرومان، والتونسيين والجزائريين والليبيين أو الطرابلسيين. ويشبهه "المراكشيون" في الشرق العربي والفارسيون عند الأتراك.
أما إيران، فأصلها الفقهي جمع أريد بها النسبة إلى إيراج أو أيره، أو هو إيراج نفسه، كما نص على ذلك ابن خرداذبه في كتابه الجغرافي. وإيراج هذا من أولاد أفريدون الثلاثة، الذين ورزع عليهم مملكته وكان نصيبه العراق، أو المكان الذي سمي به، قال ابن خرداذبه: فالأكاسرة ملوك العراق من مولده، قال شاعرهم العربي:
وقسمنا ملكنا في دهرنا قسمة اللحم على ظهر الوضم
فجعلنا الشام والروم إلى مغرب الشمس إلى الغطريف سلم
ولطوج جعل الترك له وبلاد الصين يحويها ابن عم
ولإيران جعلنا عنوة فارس الملك وفزنا بالنعم
وصيرورة كلمة إيران إلى مدلول الرجل الحر، صيرورة متأخرة، أوحت بها العزة القومية، كما أوحت إلى الرومان، فجعلوا غيرهم برابرة، وأوحت إلى العرب فجعلوا غيرهم عجما، من العجمة طبعا، وجعلوا الفرس الكريم الأصيل عربيا، وغيره هجينا وحتى عصر الجاحظ نجد الرجل الحر يعبر باسم (أزاد مرد)، ومنه عرفت الأزاد مردية، المذكورة في البخلاء وغيره.
ب) أن كلمة المغرب، كانت تطلق في الفارسية، وهي تعني الموقع الجغرافي في هذه البلاد، ولا تعني المغرب الذي نريده بل إن كلمة المغرب كانت من قبيل المشترك بين المغرب والمشرق، ولا يدرك المقصود منها تماما إلا بالسياق، وذلك كما في (الشاهنامة) وهي تتحدث مثلاعن توزيع فريدون البلاد بين أولاده فتقول:
نخستين بسلم أندرون بنكريد همه روم وخاور مر أورا كزيد
وفي سنة اثنتين وخمسين عدت إلى الموضوع نفسه، لكني اعتمدت هذه المرة على التاريخ، فنشرت عنه مقالين بالعددين التاسع والعاشر من مجلة (لسان الدين) السنة الثامنة لها، واستمررت من ثم أتناول الموضوع المذكور تناولا تاريخيا، وأنشر عنه بمجلاتنا التي أذكر منها مجلة (الأنيس)، كما نشرت بهذا المجلة وبمجلة (الأنوار) بحوثا عن الكلمات الفارسية التي دخلت لغتنا عن طريق التركية أو العربية الفصيحة.
وفي سنة ست وخمسين، نشرت بمجلة (تمودة) بحثا بعنوان «بزوغ الثقافة العربية بالمغرب»، فتعرضت في هذا البحث إلى الدور الذي قامت به إمارة الرستميين أصحاب تاهرت الجديدة.
وفي سنة سبع وخمسين نشرت، بمجلة المعهد المصري للدراسات الإسلامية بمدريد، بحثا خاصا بدولة الرستميين أصحاب تاهرت، وذلك في العدد الخاص من الصحيفة المذكورة.
وفي سنة خمس وستين، تعرضت لهذه الدولة أيضا، في البحث الذي نشرته بمجلة (البحث العلمي)، عن قيام دولة الخوارج بالمغرب، ومن قبل بسنتين كنت قد حاضرت في هذا الموضوع نفسه بكلية الآداب في بنغازي واليوم أعود من جديد إلى طرق العلائق التاريخية بين فارس والمغرب، وقد تزودت بمعلومات أخرى وإن كانت قليلة بالنسبة إلى ما بذلته من جهد متواصل في هذا الباب.
وقبل أن أدخل في صميم الموضوع أريد أن أشير إلى أشياء أرى أنها جديرة بالتنبه إليها، وهي:
أ) إن كلمة فارس، كانت علما على إقليم بعينه، ثم صارت تطلق قبيل الإسلام على إيران جميعها، وهذا بالضبط ما حصل من الفرس تجاه العرب، حيث أطلقوا كلمة طائي (تازي) على كل عربي، وهو ما حصل لليونان والرومان، والتونسيين والجزائريين والليبيين أو الطرابلسيين. ويشبهه "المراكشيون" في الشرق العربي والفارسيون عند الأتراك.
أما إيران، فأصلها الفقهي جمع أريد بها النسبة إلى إيراج أو أيره، أو هو إيراج نفسه، كما نص على ذلك ابن خرداذبه في كتابه الجغرافي. وإيراج هذا من أولاد أفريدون الثلاثة، الذين ورزع عليهم مملكته وكان نصيبه العراق، أو المكان الذي سمي به، قال ابن خرداذبه: فالأكاسرة ملوك العراق من مولده، قال شاعرهم العربي:
وقسمنا ملكنا في دهرنا قسمة اللحم على ظهر الوضم
فجعلنا الشام والروم إلى مغرب الشمس إلى الغطريف سلم
ولطوج جعل الترك له وبلاد الصين يحويها ابن عم
ولإيران جعلنا عنوة فارس الملك وفزنا بالنعم
وصيرورة كلمة إيران إلى مدلول الرجل الحر، صيرورة متأخرة، أوحت بها العزة القومية، كما أوحت إلى الرومان، فجعلوا غيرهم برابرة، وأوحت إلى العرب فجعلوا غيرهم عجما، من العجمة طبعا، وجعلوا الفرس الكريم الأصيل عربيا، وغيره هجينا وحتى عصر الجاحظ نجد الرجل الحر يعبر باسم (أزاد مرد)، ومنه عرفت الأزاد مردية، المذكورة في البخلاء وغيره.
ب) أن كلمة المغرب، كانت تطلق في الفارسية، وهي تعني الموقع الجغرافي في هذه البلاد، ولا تعني المغرب الذي نريده بل إن كلمة المغرب كانت من قبيل المشترك بين المغرب والمشرق، ولا يدرك المقصود منها تماما إلا بالسياق، وذلك كما في (الشاهنامة) وهي تتحدث مثلاعن توزيع فريدون البلاد بين أولاده فتقول:
نخستين بسلم أندرون بنكريد همه روم وخاور مر أورا كزيد
فكلمة (خاور) تطلق على المغرب كما تطلق على المشرق، لكن السياق يجعلنا نفهم منها المغرب خاصة.
ج) إن كلمة البربر، ترددت في (الشاهنامه)، إلا أن مدلولها لا يعني تماما ما يعنيه عندنا، فهم مرة في أواسط آسيا وآونة في نواحي اليمن ومصر، وهذا ما نجده مثلا، حينما تتحدث عن مسير الملك (كيكاوس) إلى حرب ملك البربر، ويذكر صاحب (الشاهنامه) ملك البربر ويصف جيشه فيقول:
شه بربرستان بيارست جنك زمانه وكر كونه ترشد برنك
سياهي بيامد ز بربر بزرم كه از لشكر برخاست بزم
هوا كفتي ازنيزه جون بشه كشت خوراز كرد اسبان بر انديشه كشت
ج) إن كلمة البربر، ترددت في (الشاهنامه)، إلا أن مدلولها لا يعني تماما ما يعنيه عندنا، فهم مرة في أواسط آسيا وآونة في نواحي اليمن ومصر، وهذا ما نجده مثلا، حينما تتحدث عن مسير الملك (كيكاوس) إلى حرب ملك البربر، ويذكر صاحب (الشاهنامه) ملك البربر ويصف جيشه فيقول:
شه بربرستان بيارست جنك زمانه وكر كونه ترشد برنك
سياهي بيامد ز بربر بزرم كه از لشكر برخاست بزم
هوا كفتي ازنيزه جون بشه كشت خوراز كرد اسبان بر انديشه كشت
وعلى هذا فلنترك ما ورد عن المغرب والبربر في قصص (الشاهنامه) وغيرها، ولنواجه مصادر التاريخ أو شواهده في علاج هذا البحث الآن...
من المعروف أن إيران قيض لها ملك عظيم هو (قورش الاكميني)، الذي كانت مطامحه لا حد لها، وبعد موته خلفه ابنه (قمبيز) الذي مد سلطانه إلى إفريقيا فاستولى على مصر، وما توفي حتى كان أحد أبناء أعمامه الأبعدين، واسمه (داريوس) أو (دارا) الأول، الذي مد في هذا السلطان وتغلب على اليونان في عدة مواقع، واستولى على بعض مستعمراتها بالشمال الإفريقي، فكان من ذلك (رأس قورينة) أو (برقة الفنيقية). فلما مات هذا وخلفه (دارا الثاني) أصبحت اليونان تحت سلطان إيران، فلم يكن لها إلا نوع من الاستقلال الداخلي، منحته إياها إيران حسب صلح أبرم بينهما. وما توفي (دارا الثاني)، حتى تعرضت البلاد الإيرانية لفوضى وخلل، وانصدع النظام الذي كان يضم جهاتها النائية، على حين كانت اليونان تستجمع قوتها، وتنضوي تحت لواء (فليبس المقدوني)، الذي خلفه ابنه الإسكندر، فكانت الضربة القاضية على إيران، تلك الضربة التي واجهتها في الشام فمصر وعلى تخوم الصحراء الغربية، إلى أن تكبدتها في عقر دارها العراق، وخربها ملكها (دارا الثالث)، كما هو معلوم.
هنا ينطفئ نور التاريخ الصريح، على ما كان لإيران بالشمال الإفريقي، وما كان مصير تلك المستعمرات التي كانت لها فيما عدا مصر... ونحن أمام هذه الغمة نفترض افتراضا، يعضدنا فيه المنطق وطبائع الأشياء والشواهد القائمة، التي نستنطقها فتحدثنا... وبذلك نقول: إن أولئك الفرس الذين كانوا بالشمال الإفريقي، لم يكن لهم محيص، إن انهزموا من
وجه أعدائهم، إلا أن يتوجهوا نحو الغرب... لأنهم إن توجهوا شرقا واجهتهم الصحراء التي لم يسكنها في هذا الاتجاه إلا الفاطميون، وبأساليبهم الهندسية العجيبة
ثم إنهم لو كانوا يستطيعون ما استطاعه الفاطميون، بعدهم بما يزيد على ألف سنة، فإنهم مع ذلك كانوا سيقعون في قبضة الإسكندر ورجاله أو خلفائه بمصر والشام، وإذن فلا بد أن يكونوا قد اختاروا جهة الغرب، ولا بد أن يكونوا قد تنكبوا الاصطدام مع الفنيقيين في مستعمراتهم المعروفة. والظاهر أنهم ركبوا البحر فاتجهوا نحو سوسة، فاستقروا بها، وكانوا هم الذين سموها بهذا الاسم الذي كانت تحمله عاصمتهم التي سقطت بيد أعاديهم اليونان، ومن ثم أوغلوا برا فنزلوا القيروان المكان الذي سموه هم باسم (كروان) أي القافلة. ويذكر ابن خلكان في وفياته أن هذا المكان سمي باسم القيران، لأن القوافل نزلت به، وبذلك يكون هذا الاسم كائنا قبل وصول عقبة إليه، لأنه لما وصله عقبة لم يكن محط القوافل، بل كان غابة مهجورة لا يطرقها الناس. والأسطورة تقص أن عقبة، لما اختارها للعسكر بها، دعا الوحوش لمغادرتها، فكانت الأسود ونحوها تخرج من هذا المكان حاملة أشبالها، والناس ينظرون إليها مدة أو أياما... ومن عادة العرب، آنذاك أنهم كانوا يحتفظون بأسماء الأمكنة التي ينزلونها، ولا يغيرون منها، أو يطلقون عليها أسماء من عنديتهم، وهذا مما يجعلنا ندعي أن هذا المكان كان معروفا بهذا الاسم من ذي قبل، قبل الاسم الفارسي الذي وضعه الفرس أنفسهم، ولم يغيره الفنيقيون ولا الروم لأنهم ما وصلوا إليه ، وهو السبب الذي يذكره المؤرخون، في تعليلهم لاختيار عقبة هذا المكان، لبعده عن خطر الروم الذي قد يداهمهم بحرا.
وهذا الافتراض لا يؤخذ بجزئياته حتما، فيقال إن الهجرة إلى هذه الهجات كانت بعد انهزام الفرس في الشمال الإفريقي ضرورة، بل إن هذه الهجرة قد تكون قبل ذلك أو بعده، ولسبب آخر غير هذا الانهزام، إلا أن التاريخ لا يحدثنا مطلقا عن هذه الهجرة أو الهجرات العديدة إلى هذه الجهات، ثم إلى ما وراءها غربا، كما سنذكر. وقد تكون هذه الهجرة أو الهجرات بعيدة عن التيارات السياسية، ولهذا لم يسجلها التاريخ السياسي، وقد تكون هجرات تبشرية بالزاردشتية، كما هي الآن هجرات للتبشير بالبهائية. وعلى كل حال فإن التاريخ يسكت عن أولئك الفرس الذين كانوا بالشمال الإفريقي عامة، ولا يذكر عنهم شيئا بعد مطاردة الإسكندر إياهم وقضائه على سلطانهم.
ومع هذا فليس من الصدفة وجود مدن وأقاليم بالشمال الإفريقي تحمل نفس الأسماء التي تحملها مدن وأقاليم
ببلاد فارس، كما أنه ليس من الصدفة أن تكون بهذه البلاد عقائد وعادات قديمة، هي نفس العقائد والعادات التي وجدت في البلاد الفارسية قديما، وما زالت حتى الآن في بعض جهات منها. والقصص وإن لم يؤخذ منها حقائق التاريخ إلا أنها بالرغم من ذلك تستشف منها بعض الحقائق التاريخية ولو كانت موغلة في الخيال، ومضطربة في العرض. وكثير من الخرافات الشعبية نجد لها جذورا تاريخية، وكذلك يقال في تلك القصص التي نجدها (بالشاهنامه) مثلا، فنجد المغرب منها في غير مكانه، وكذلك البربر غير مستقرين في أوطانهم. ومن الالتفاتات اللطاف، ما كان من السفير الإيراني بالرباط، حيث حاول أن يجد ارتباطا بين البربر وبين بلاده... بعد ما استغرب وجود هذا التشابه العظيم، فقال لي وقد اجتمعت به سنة 1961 – على ما أذكر- إن البربر بالمغرب هم من (برابر) إيران، المعروفين عندنا بهذا الاسم، كجماعات رحل، إذ أن كلمة (برابر) فارسية تعني المعية أو التقابل أو التشابه، وهذ لازم لتلك الجماعات المتكتلة (هذا ما يستبعده اليوم وقد يثبته الغد...)
ونعود إلى سوسة، فنجد الجغرافيين القدامى يذكرون أن الأرحبة الفارسية، كانت معروفة بالمنستير جنوبيها، كما أنها شهرت بأن «أكثر أهلها حاكة ينسجون الثياب السوسية الرفيعة»، كما يقول ياقوت في معجمه، ويقول الهمداني، في سوس الأهواز: «ولأهل السوس خاصة وجنديسابور حذق في اتخاذ أنواع ثياب الحرير والديباج»، بعد ما قال إن قباذ أنزل الحاكة السوس، أما سكان سوسة فهم في سحنتهم ذوو خاصية لاحظها أولئك الجغرافيون، فهم ينصون مثلا على أن سوسة «بها قوم لونهم لون الحنطة يضرب إلى الصفرة»، كما نقل عن أبي سعد في معجم البلدان، واليعقوبي يذكر في كتابه البلدان أن «أهل سوسة أخلاط من الناس»، ثم يقول كذلك عن مدينة الزاب «والزاب بلد واسع، فمنه مدينة قديمة يقال لها (باغاية)، بها قبائل من الجند وعجم من أهل خرسان»... ومعنى هذا أنه لاحظ بهذه البلاد فرسا، إلا أنه خصصهم بالخراسانيين، لاعتقاده أنهم أتوا إلى هذه البلاد أيام العباسيين... والزاب نفسه اسم فارسي «لملك من قدماء ملوك الفرس، وهو زاب بن توركان بن منوشهر ابن إيرج بن افريدون» اشتهرت به عدة ءابار وأماكن في الشرق والغرب، كما نجد في معجم البلدان، وفي نواح متعددة منهما، ومن تلك النواحي ما يتصل بسجلماسة عندنا، ونستمر في هذا الافتراض الذي تؤيده الشواهد، فنقول إن هؤلاء الفرس استمروا في هجرتهم نحو الغرب محاذين لجبال الأطلس شمالا أو جنوبا إلى أن انتهوا إلى ساحل المحيط الأطلسي، حيث استقروا في مكان آخر سموه أيضا باسم عاصمتهم (سوس)... وهؤلاء الجغرافيون أنفسهم يحدثنا من قداماهم ابن خرداذبه، فيقول: «وقلعة سوس الأهواز... قلعة فوق قلعة، ومثلها على بنائها قلعة السوس الأقصى، وهما أيضا من بناء هوشنهك» . وعلى كل حال فهناك شبه بين القلعتين الشرقية والغربية، وكلتاهما فارسية، سواء كانتا من بان واحد كما قال ابن خرداذبه، أو بناة مختلفين كما استظهرنا، ويقول ياقوت في كتابه (المشترك وضعا والمفترق صقعا) في البصرة: «البصرة مدينة كانت بالمغرب قرب السوس الأقصى . والواقع أن البصرة فارسية، معربة عن (بس راه)، لأنها كما يقول موبذ بن اسوهشت، كانت ذات طرق كثيرة انشعبت منها إلى أماكن مختلفة... ولهذا فليس عمر المسمي للمكان أو الباني به لأول الأمر، بل كان المكان معروفا بهذا الإسم، وهو ما ادعيناه في القيروان، وأن العرب لم تسم الأماكن بأسمائها هي، طالما كانت لها أسماؤها القديمة... مثل البصرة هذه والكوفة التي ينسب بناؤها الأول إلى هوشهنك السالف الذكر.
هذه شواهد قائمة، وهناك شواهد يذكرها التاريخ، فالتاريخ يحدثنا أن المسلمين لما فتحوا المغرب، وجدوا به ديانات، منها: ديانة المجوس، وأن هؤلاء كانوا منتشرين في جهات عديدة، أهمها جهات فاس والسوس وما وراءه، حيث ظلت المجوسية قائمة ببيوت نارها حتى القرن الرابع الهجري، وكان ثبوت المجوسية بهذه الجهات خصوصا مما نبز به المرابطون من قبل خصومهم الموحدين.
ومن الصدف العجيبة أننا وجدنا الدعوة البهائية توجهت في المغرب لأول مرة إلى هذه الجهات، وقد حدثني بعض دعاتها سنة إحدى وخمسين عن أماكن بعينها من إقليم موريطانيا وما حوله، أحاديث كانت بالنسبة إلي أول ما سمعته عنها.
لنزد أمعانا في السوس خاصة، فنجد بها هذه العقلية الفذة في التجارة وجوب البلاد من أجلها، وهي ميزة تتحلى بها فارس بالذات، كما نجد الاشتغال بالسحر الذي له قصص في (الشاهنامه)، وذكر مع ملوك عظام تمرسوا به وزاولوه في سياسة ملكهم، وذلك يفوق ما عرف عنه عند الفراعنة، وعلله ابن خلدون في مقدمته، كما نجد الحذق في صناعات بعينها كالسجاد والنقش على المعادن، خاصية امتاز بها أهل السوس عندنا والنازحون منهم إلى تاغزوت، وهي ما امتاز به أهل فارس كذلك، وسجلها لهم شعراء بني العباس، وشهدت لهم به متاجر التحف، حتى سميت بالاسم الفارسي (بزار )، ثم آلات الطرب المستعملة في السوس، خصوصا الغجر منهم، هي نفس الآلات الفارسية التي احتفظت بها اللوحات القديمة. وما زال الصنج الذي يستعمله السوسيون وحدهم في رقصاتهم الغجرية هو نفس الصنج الذي يستعمله زملاؤهم في فارس كما أن الألحان شبيهة بألحان الرحل (برابر) المعروفين بهذا الاسم في بلاد فارس، وكذلك تصفيف الشعر بأصدغه وطرره متشابه، ثم الألعاب البهلوانية، والملابس المنقشة الزاهية، وقيافة تلك الملابس، كل ذلك شبيه لما هو معروف في فارس حتى الآن، وفي حسابهم نجد كلمات متشابهة، وان اختلفت في مدلولها أو حصل بعض التغيير في حروفها، ففي حسابهم، ين أو يك، كما في الفارسية، وسين (اثنان) وهو سه (ثلاثة في الفارسية) وسا (سبعة) وهو شش (ستة في الفارسية)، وهذا الاختلاف في المدلول والأجراس غير غريب عند دارسي اللغات، فكلمة البرقوق في الاسبانية تعني المشمش، وحينما كان يقال في تطوان «القلب والفؤاد»، فالفؤاد تعني الكبد، وكلمة العنكبوت تعني عندنا بيتها، ونقول للفرن الفران فنطلق عليه اسم صاحبه، كما نطلق عليه اسم صاحبه بالنسبة التركية (فرنجي) لأن الحمام تركي، و"يو" في الإنجليزية (ضمير المخاطب) تستعمل في الاسبانية ضمير المتكلم وحده، كما هو في باقي اللغات اللاتينية مع تحريف بسيط، ومع هذا فالمصدر واحد.
فإذا انتقلنا إلى ما حصل في التاريخ الإسلامي، فإننا نجد الهجرة الفارسية إلى المغرب، في تدفق مع ولاة العباسيين الذين كانوا من قبل ولاة بالشرق، وذلك كالمهالبة، الذين كان منهم عمر بن حفص الملقب باللقب الفارسي (هزار مرد) ألف رجل كما نجد تلك العائلة الرستمية التي أسست إمارتها قرب وهران، فكان للفرس شأن عظيم بها، خصوصا في الميدان التجاري الذي اقتحموه - ولاشك- حتى ببساط تامسنا وربوع سجلماسة، حيث كانت لإمارتهم علاقات دبلوماسية وعقدية وعائلية. وقدوجدنا من شعراء هذه الإمارة من أم فاسا، وقال فيها شعرا كما أم آخر منهم بصرة شمال المغرب، وقال فيها شعرا كذلك.
ولما كان المولى إدريس يزمع بناء فاس، ورد عليه فرس من الشرق، فأنزلهم بعين علون (التي تعرف الآن بعين علو) ويذكر صاحب (روض القرطاس) من أبواب فاس باب الفرس، ذلك أن جدارا من أسوارها سقط على بعضهم، فخلدت ذكرى هذه المأساة بتسمية أحد أبواب المدينة بهم، بل إنهم يذكرون من جملة الأقوال في اسم فاس، أن الأصل في اسمها كان (فارس) لكن العامة اختزلته إلى فاس... فكان المولى إدريس وقد سر بمقدمهم - كما يقول المؤرخون- أراد أن
يكرمهم بتسمية عاصمتهم باسم بلدهم فارس... وهذا لو ثبت لكان له شأن عظيم.
هذا ما يتصل بالعلاقة التاريخية، أما ما نجده في لغتنا من كلمات فارسة، فهي لا تخلو من كونها أتتنا وقد عربت، كما في الطرة، والإبريق، والخنجر، والصنجة، والزيبق، والساباط، والعرعر، والفنيد، والديوان، والعنبر، والياسمين، والمسك، والمارستان، أو أتتنا وقد ترّكت، كالشوربة (إن جعلناها فارسية) والنيشان، والكوشة، والطربوش وبندق، وخواجه، وكمنجه، وبهلوان، وغيرها؛ فشأن هذه الكلمات التركية أساسا، مثل الطبنجه، والطوبجي، والطاوة، والوثاق، والوجاق، والقشلا، والقشلاق، وباشا، والسنجاق، والتشيق، والترووا، وغيرها من مئات الكلمات التي تروج في لغتنا منذ خمس مائة سنة، ومنها ما دخل الفصحى عندنا وفي الشرق، مثل كلمة البوغاز (المضيق)، فأصل الكلمة من التركية الحلقوم، ثم استعمل فيها بمعنى المضيق، وأخذناه نحن بهذا المعنى فقط، وصار مستعملا في كتاباتنا غربا وشرقا.
من المعروف أن إيران قيض لها ملك عظيم هو (قورش الاكميني)، الذي كانت مطامحه لا حد لها، وبعد موته خلفه ابنه (قمبيز) الذي مد سلطانه إلى إفريقيا فاستولى على مصر، وما توفي حتى كان أحد أبناء أعمامه الأبعدين، واسمه (داريوس) أو (دارا) الأول، الذي مد في هذا السلطان وتغلب على اليونان في عدة مواقع، واستولى على بعض مستعمراتها بالشمال الإفريقي، فكان من ذلك (رأس قورينة) أو (برقة الفنيقية). فلما مات هذا وخلفه (دارا الثاني) أصبحت اليونان تحت سلطان إيران، فلم يكن لها إلا نوع من الاستقلال الداخلي، منحته إياها إيران حسب صلح أبرم بينهما. وما توفي (دارا الثاني)، حتى تعرضت البلاد الإيرانية لفوضى وخلل، وانصدع النظام الذي كان يضم جهاتها النائية، على حين كانت اليونان تستجمع قوتها، وتنضوي تحت لواء (فليبس المقدوني)، الذي خلفه ابنه الإسكندر، فكانت الضربة القاضية على إيران، تلك الضربة التي واجهتها في الشام فمصر وعلى تخوم الصحراء الغربية، إلى أن تكبدتها في عقر دارها العراق، وخربها ملكها (دارا الثالث)، كما هو معلوم.
هنا ينطفئ نور التاريخ الصريح، على ما كان لإيران بالشمال الإفريقي، وما كان مصير تلك المستعمرات التي كانت لها فيما عدا مصر... ونحن أمام هذه الغمة نفترض افتراضا، يعضدنا فيه المنطق وطبائع الأشياء والشواهد القائمة، التي نستنطقها فتحدثنا... وبذلك نقول: إن أولئك الفرس الذين كانوا بالشمال الإفريقي، لم يكن لهم محيص، إن انهزموا من
وجه أعدائهم، إلا أن يتوجهوا نحو الغرب... لأنهم إن توجهوا شرقا واجهتهم الصحراء التي لم يسكنها في هذا الاتجاه إلا الفاطميون، وبأساليبهم الهندسية العجيبة
ثم إنهم لو كانوا يستطيعون ما استطاعه الفاطميون، بعدهم بما يزيد على ألف سنة، فإنهم مع ذلك كانوا سيقعون في قبضة الإسكندر ورجاله أو خلفائه بمصر والشام، وإذن فلا بد أن يكونوا قد اختاروا جهة الغرب، ولا بد أن يكونوا قد تنكبوا الاصطدام مع الفنيقيين في مستعمراتهم المعروفة. والظاهر أنهم ركبوا البحر فاتجهوا نحو سوسة، فاستقروا بها، وكانوا هم الذين سموها بهذا الاسم الذي كانت تحمله عاصمتهم التي سقطت بيد أعاديهم اليونان، ومن ثم أوغلوا برا فنزلوا القيروان المكان الذي سموه هم باسم (كروان) أي القافلة. ويذكر ابن خلكان في وفياته أن هذا المكان سمي باسم القيران، لأن القوافل نزلت به، وبذلك يكون هذا الاسم كائنا قبل وصول عقبة إليه، لأنه لما وصله عقبة لم يكن محط القوافل، بل كان غابة مهجورة لا يطرقها الناس. والأسطورة تقص أن عقبة، لما اختارها للعسكر بها، دعا الوحوش لمغادرتها، فكانت الأسود ونحوها تخرج من هذا المكان حاملة أشبالها، والناس ينظرون إليها مدة أو أياما... ومن عادة العرب، آنذاك أنهم كانوا يحتفظون بأسماء الأمكنة التي ينزلونها، ولا يغيرون منها، أو يطلقون عليها أسماء من عنديتهم، وهذا مما يجعلنا ندعي أن هذا المكان كان معروفا بهذا الاسم من ذي قبل، قبل الاسم الفارسي الذي وضعه الفرس أنفسهم، ولم يغيره الفنيقيون ولا الروم لأنهم ما وصلوا إليه ، وهو السبب الذي يذكره المؤرخون، في تعليلهم لاختيار عقبة هذا المكان، لبعده عن خطر الروم الذي قد يداهمهم بحرا.
وهذا الافتراض لا يؤخذ بجزئياته حتما، فيقال إن الهجرة إلى هذه الهجات كانت بعد انهزام الفرس في الشمال الإفريقي ضرورة، بل إن هذه الهجرة قد تكون قبل ذلك أو بعده، ولسبب آخر غير هذا الانهزام، إلا أن التاريخ لا يحدثنا مطلقا عن هذه الهجرة أو الهجرات العديدة إلى هذه الجهات، ثم إلى ما وراءها غربا، كما سنذكر. وقد تكون هذه الهجرة أو الهجرات بعيدة عن التيارات السياسية، ولهذا لم يسجلها التاريخ السياسي، وقد تكون هجرات تبشرية بالزاردشتية، كما هي الآن هجرات للتبشير بالبهائية. وعلى كل حال فإن التاريخ يسكت عن أولئك الفرس الذين كانوا بالشمال الإفريقي عامة، ولا يذكر عنهم شيئا بعد مطاردة الإسكندر إياهم وقضائه على سلطانهم.
ومع هذا فليس من الصدفة وجود مدن وأقاليم بالشمال الإفريقي تحمل نفس الأسماء التي تحملها مدن وأقاليم
ببلاد فارس، كما أنه ليس من الصدفة أن تكون بهذه البلاد عقائد وعادات قديمة، هي نفس العقائد والعادات التي وجدت في البلاد الفارسية قديما، وما زالت حتى الآن في بعض جهات منها. والقصص وإن لم يؤخذ منها حقائق التاريخ إلا أنها بالرغم من ذلك تستشف منها بعض الحقائق التاريخية ولو كانت موغلة في الخيال، ومضطربة في العرض. وكثير من الخرافات الشعبية نجد لها جذورا تاريخية، وكذلك يقال في تلك القصص التي نجدها (بالشاهنامه) مثلا، فنجد المغرب منها في غير مكانه، وكذلك البربر غير مستقرين في أوطانهم. ومن الالتفاتات اللطاف، ما كان من السفير الإيراني بالرباط، حيث حاول أن يجد ارتباطا بين البربر وبين بلاده... بعد ما استغرب وجود هذا التشابه العظيم، فقال لي وقد اجتمعت به سنة 1961 – على ما أذكر- إن البربر بالمغرب هم من (برابر) إيران، المعروفين عندنا بهذا الاسم، كجماعات رحل، إذ أن كلمة (برابر) فارسية تعني المعية أو التقابل أو التشابه، وهذ لازم لتلك الجماعات المتكتلة (هذا ما يستبعده اليوم وقد يثبته الغد...)
ونعود إلى سوسة، فنجد الجغرافيين القدامى يذكرون أن الأرحبة الفارسية، كانت معروفة بالمنستير جنوبيها، كما أنها شهرت بأن «أكثر أهلها حاكة ينسجون الثياب السوسية الرفيعة»، كما يقول ياقوت في معجمه، ويقول الهمداني، في سوس الأهواز: «ولأهل السوس خاصة وجنديسابور حذق في اتخاذ أنواع ثياب الحرير والديباج»، بعد ما قال إن قباذ أنزل الحاكة السوس، أما سكان سوسة فهم في سحنتهم ذوو خاصية لاحظها أولئك الجغرافيون، فهم ينصون مثلا على أن سوسة «بها قوم لونهم لون الحنطة يضرب إلى الصفرة»، كما نقل عن أبي سعد في معجم البلدان، واليعقوبي يذكر في كتابه البلدان أن «أهل سوسة أخلاط من الناس»، ثم يقول كذلك عن مدينة الزاب «والزاب بلد واسع، فمنه مدينة قديمة يقال لها (باغاية)، بها قبائل من الجند وعجم من أهل خرسان»... ومعنى هذا أنه لاحظ بهذه البلاد فرسا، إلا أنه خصصهم بالخراسانيين، لاعتقاده أنهم أتوا إلى هذه البلاد أيام العباسيين... والزاب نفسه اسم فارسي «لملك من قدماء ملوك الفرس، وهو زاب بن توركان بن منوشهر ابن إيرج بن افريدون» اشتهرت به عدة ءابار وأماكن في الشرق والغرب، كما نجد في معجم البلدان، وفي نواح متعددة منهما، ومن تلك النواحي ما يتصل بسجلماسة عندنا، ونستمر في هذا الافتراض الذي تؤيده الشواهد، فنقول إن هؤلاء الفرس استمروا في هجرتهم نحو الغرب محاذين لجبال الأطلس شمالا أو جنوبا إلى أن انتهوا إلى ساحل المحيط الأطلسي، حيث استقروا في مكان آخر سموه أيضا باسم عاصمتهم (سوس)... وهؤلاء الجغرافيون أنفسهم يحدثنا من قداماهم ابن خرداذبه، فيقول: «وقلعة سوس الأهواز... قلعة فوق قلعة، ومثلها على بنائها قلعة السوس الأقصى، وهما أيضا من بناء هوشنهك» . وعلى كل حال فهناك شبه بين القلعتين الشرقية والغربية، وكلتاهما فارسية، سواء كانتا من بان واحد كما قال ابن خرداذبه، أو بناة مختلفين كما استظهرنا، ويقول ياقوت في كتابه (المشترك وضعا والمفترق صقعا) في البصرة: «البصرة مدينة كانت بالمغرب قرب السوس الأقصى . والواقع أن البصرة فارسية، معربة عن (بس راه)، لأنها كما يقول موبذ بن اسوهشت، كانت ذات طرق كثيرة انشعبت منها إلى أماكن مختلفة... ولهذا فليس عمر المسمي للمكان أو الباني به لأول الأمر، بل كان المكان معروفا بهذا الإسم، وهو ما ادعيناه في القيروان، وأن العرب لم تسم الأماكن بأسمائها هي، طالما كانت لها أسماؤها القديمة... مثل البصرة هذه والكوفة التي ينسب بناؤها الأول إلى هوشهنك السالف الذكر.
هذه شواهد قائمة، وهناك شواهد يذكرها التاريخ، فالتاريخ يحدثنا أن المسلمين لما فتحوا المغرب، وجدوا به ديانات، منها: ديانة المجوس، وأن هؤلاء كانوا منتشرين في جهات عديدة، أهمها جهات فاس والسوس وما وراءه، حيث ظلت المجوسية قائمة ببيوت نارها حتى القرن الرابع الهجري، وكان ثبوت المجوسية بهذه الجهات خصوصا مما نبز به المرابطون من قبل خصومهم الموحدين.
ومن الصدف العجيبة أننا وجدنا الدعوة البهائية توجهت في المغرب لأول مرة إلى هذه الجهات، وقد حدثني بعض دعاتها سنة إحدى وخمسين عن أماكن بعينها من إقليم موريطانيا وما حوله، أحاديث كانت بالنسبة إلي أول ما سمعته عنها.
لنزد أمعانا في السوس خاصة، فنجد بها هذه العقلية الفذة في التجارة وجوب البلاد من أجلها، وهي ميزة تتحلى بها فارس بالذات، كما نجد الاشتغال بالسحر الذي له قصص في (الشاهنامه)، وذكر مع ملوك عظام تمرسوا به وزاولوه في سياسة ملكهم، وذلك يفوق ما عرف عنه عند الفراعنة، وعلله ابن خلدون في مقدمته، كما نجد الحذق في صناعات بعينها كالسجاد والنقش على المعادن، خاصية امتاز بها أهل السوس عندنا والنازحون منهم إلى تاغزوت، وهي ما امتاز به أهل فارس كذلك، وسجلها لهم شعراء بني العباس، وشهدت لهم به متاجر التحف، حتى سميت بالاسم الفارسي (بزار )، ثم آلات الطرب المستعملة في السوس، خصوصا الغجر منهم، هي نفس الآلات الفارسية التي احتفظت بها اللوحات القديمة. وما زال الصنج الذي يستعمله السوسيون وحدهم في رقصاتهم الغجرية هو نفس الصنج الذي يستعمله زملاؤهم في فارس كما أن الألحان شبيهة بألحان الرحل (برابر) المعروفين بهذا الاسم في بلاد فارس، وكذلك تصفيف الشعر بأصدغه وطرره متشابه، ثم الألعاب البهلوانية، والملابس المنقشة الزاهية، وقيافة تلك الملابس، كل ذلك شبيه لما هو معروف في فارس حتى الآن، وفي حسابهم نجد كلمات متشابهة، وان اختلفت في مدلولها أو حصل بعض التغيير في حروفها، ففي حسابهم، ين أو يك، كما في الفارسية، وسين (اثنان) وهو سه (ثلاثة في الفارسية) وسا (سبعة) وهو شش (ستة في الفارسية)، وهذا الاختلاف في المدلول والأجراس غير غريب عند دارسي اللغات، فكلمة البرقوق في الاسبانية تعني المشمش، وحينما كان يقال في تطوان «القلب والفؤاد»، فالفؤاد تعني الكبد، وكلمة العنكبوت تعني عندنا بيتها، ونقول للفرن الفران فنطلق عليه اسم صاحبه، كما نطلق عليه اسم صاحبه بالنسبة التركية (فرنجي) لأن الحمام تركي، و"يو" في الإنجليزية (ضمير المخاطب) تستعمل في الاسبانية ضمير المتكلم وحده، كما هو في باقي اللغات اللاتينية مع تحريف بسيط، ومع هذا فالمصدر واحد.
فإذا انتقلنا إلى ما حصل في التاريخ الإسلامي، فإننا نجد الهجرة الفارسية إلى المغرب، في تدفق مع ولاة العباسيين الذين كانوا من قبل ولاة بالشرق، وذلك كالمهالبة، الذين كان منهم عمر بن حفص الملقب باللقب الفارسي (هزار مرد) ألف رجل كما نجد تلك العائلة الرستمية التي أسست إمارتها قرب وهران، فكان للفرس شأن عظيم بها، خصوصا في الميدان التجاري الذي اقتحموه - ولاشك- حتى ببساط تامسنا وربوع سجلماسة، حيث كانت لإمارتهم علاقات دبلوماسية وعقدية وعائلية. وقدوجدنا من شعراء هذه الإمارة من أم فاسا، وقال فيها شعرا كما أم آخر منهم بصرة شمال المغرب، وقال فيها شعرا كذلك.
ولما كان المولى إدريس يزمع بناء فاس، ورد عليه فرس من الشرق، فأنزلهم بعين علون (التي تعرف الآن بعين علو) ويذكر صاحب (روض القرطاس) من أبواب فاس باب الفرس، ذلك أن جدارا من أسوارها سقط على بعضهم، فخلدت ذكرى هذه المأساة بتسمية أحد أبواب المدينة بهم، بل إنهم يذكرون من جملة الأقوال في اسم فاس، أن الأصل في اسمها كان (فارس) لكن العامة اختزلته إلى فاس... فكان المولى إدريس وقد سر بمقدمهم - كما يقول المؤرخون- أراد أن
يكرمهم بتسمية عاصمتهم باسم بلدهم فارس... وهذا لو ثبت لكان له شأن عظيم.
هذا ما يتصل بالعلاقة التاريخية، أما ما نجده في لغتنا من كلمات فارسة، فهي لا تخلو من كونها أتتنا وقد عربت، كما في الطرة، والإبريق، والخنجر، والصنجة، والزيبق، والساباط، والعرعر، والفنيد، والديوان، والعنبر، والياسمين، والمسك، والمارستان، أو أتتنا وقد ترّكت، كالشوربة (إن جعلناها فارسية) والنيشان، والكوشة، والطربوش وبندق، وخواجه، وكمنجه، وبهلوان، وغيرها؛ فشأن هذه الكلمات التركية أساسا، مثل الطبنجه، والطوبجي، والطاوة، والوثاق، والوجاق، والقشلا، والقشلاق، وباشا، والسنجاق، والتشيق، والترووا، وغيرها من مئات الكلمات التي تروج في لغتنا منذ خمس مائة سنة، ومنها ما دخل الفصحى عندنا وفي الشرق، مثل كلمة البوغاز (المضيق)، فأصل الكلمة من التركية الحلقوم، ثم استعمل فيها بمعنى المضيق، وأخذناه نحن بهذا المعنى فقط، وصار مستعملا في كتاباتنا غربا وشرقا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - وكذلك في الإسلام كان المغرب نسبيا، والشاعر يقول: إذا المنبر الغربي خلاه ربه... وهو يريد النسبة إلى الشام.
(2) - على أننا نجد في دائرة المعارف الإسلامية، ما يثبت أن القيروان كانت ضيعة رومانية تعرف باسم قمونية kamunia وأن العرب بنوا بأنقاضها القيروان، وكذلك نجد لهذه الضيعة ذكرا في كتاب (البلدان) للهمذاني، على (أن قمونية) مدينة من موضع القيروان، وفي كتاب (المشترك وضعا المفترق صقعا)، أن الروم كانت تسمي سوس إفريقية (قمونية) وقيل السوس كورة مدينتها (قمونية) وفي كتاب (المسالك والممالك) لابن خرداذبه أن (مدينة قمونية من موضع القيروان على ألفي ميل ومائة وخمسين ميلا). ولكن يظهر أن هناك سقطا في العبارة التي وردت هكذا في الهمذاني «ثم انتشرت (أي البرابرة) إلى السوس الأدنى خلف طنجة والسوس الأقصى، وهي من مدينة (قمونية) من موضع القيروان على ألفين وخمسين ميلا أما (المسالك) ففيها: ثم انتشرت البربر إلى السوس الأدنى خلف طنجة وهي مدينة (قمونية) من موضع إلخ»، فسقطت (من) بعد (وهي) كما سقطت (والسوس الأقصى) قبلها...ويذكر اليعقوبي في كتابه (البلدان) أن مدينة القيروان فيها «أصناف من العجم من أهل خراسان...» وفي معرفة الطرق التي كانت تسلك بهذه الأماكن حتى القرن الرابع، يمكن أن نستفسر المقدسي، في كتابه (أحسن التقاسيم) فيقول: « وتأخذ من طرابلس إلى القيروان... ثم تركب المفاوز إلى السوس الأدنى... ثم إلى السوس الأقصى... وتأخذ من القيروان... إلى فاس إلى البصرة، وأنت في حد السوس الأدنى، وإن شئت فتأخذ من القيروان... ثم إلى فاس، ثم إلى السوس الأقصى... وتأخذ من القيروان إلى سجلماسة... إلخ 245-247.
(3) - انظر فيما قيل عنه حاشية عزام على الشاهنامه ص: 17-18.
(4) - هذه غير البصرة التي كانت إحدى عواصم أمراء الإدارسة.
(5) - استعمال كلمة بزار بمعنى السوق، كان معروفا على عهد الجاحظ، فهو يتحدث عنها في البيان كما يتحدث عن مرادفها (جهارسون).
(6) - الواقع أن هذه الكلمة أتتنا قديما، ففي نفح الطيب أن الأشرف بن العادل وضع شربوشه بيده على رأس مملوك صغير، أما الآن فيسمى بالفاسي كما في اللغات الأوربية.
(1) - وكذلك في الإسلام كان المغرب نسبيا، والشاعر يقول: إذا المنبر الغربي خلاه ربه... وهو يريد النسبة إلى الشام.
(2) - على أننا نجد في دائرة المعارف الإسلامية، ما يثبت أن القيروان كانت ضيعة رومانية تعرف باسم قمونية kamunia وأن العرب بنوا بأنقاضها القيروان، وكذلك نجد لهذه الضيعة ذكرا في كتاب (البلدان) للهمذاني، على (أن قمونية) مدينة من موضع القيروان، وفي كتاب (المشترك وضعا المفترق صقعا)، أن الروم كانت تسمي سوس إفريقية (قمونية) وقيل السوس كورة مدينتها (قمونية) وفي كتاب (المسالك والممالك) لابن خرداذبه أن (مدينة قمونية من موضع القيروان على ألفي ميل ومائة وخمسين ميلا). ولكن يظهر أن هناك سقطا في العبارة التي وردت هكذا في الهمذاني «ثم انتشرت (أي البرابرة) إلى السوس الأدنى خلف طنجة والسوس الأقصى، وهي من مدينة (قمونية) من موضع القيروان على ألفين وخمسين ميلا أما (المسالك) ففيها: ثم انتشرت البربر إلى السوس الأدنى خلف طنجة وهي مدينة (قمونية) من موضع إلخ»، فسقطت (من) بعد (وهي) كما سقطت (والسوس الأقصى) قبلها...ويذكر اليعقوبي في كتابه (البلدان) أن مدينة القيروان فيها «أصناف من العجم من أهل خراسان...» وفي معرفة الطرق التي كانت تسلك بهذه الأماكن حتى القرن الرابع، يمكن أن نستفسر المقدسي، في كتابه (أحسن التقاسيم) فيقول: « وتأخذ من طرابلس إلى القيروان... ثم تركب المفاوز إلى السوس الأدنى... ثم إلى السوس الأقصى... وتأخذ من القيروان... إلى فاس إلى البصرة، وأنت في حد السوس الأدنى، وإن شئت فتأخذ من القيروان... ثم إلى فاس، ثم إلى السوس الأقصى... وتأخذ من القيروان إلى سجلماسة... إلخ 245-247.
(3) - انظر فيما قيل عنه حاشية عزام على الشاهنامه ص: 17-18.
(4) - هذه غير البصرة التي كانت إحدى عواصم أمراء الإدارسة.
(5) - استعمال كلمة بزار بمعنى السوق، كان معروفا على عهد الجاحظ، فهو يتحدث عنها في البيان كما يتحدث عن مرادفها (جهارسون).
(6) - الواقع أن هذه الكلمة أتتنا قديما، ففي نفح الطيب أن الأشرف بن العادل وضع شربوشه بيده على رأس مملوك صغير، أما الآن فيسمى بالفاسي كما في اللغات الأوربية.
الزاهوية- عضو نشيط
- الجنس : عدد المساهمات : 62
درجة التقدير : 0
تاريخ الميلاد : 14/12/1976
تاريخ التسجيل : 16/09/2012
العمر : 47
مواضيع مماثلة
» سيتة في التاريخ 11/3/12
» التاريخ ظلم التتر
» من التاريخ الحي ..(1).
» من التاريخ الحي ..(3)..
» ليت التاريخ يعيد نفسه؟
» التاريخ ظلم التتر
» من التاريخ الحي ..(1).
» من التاريخ الحي ..(3)..
» ليت التاريخ يعيد نفسه؟
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى