سيدي عبد السلام بن ريسون طبيبا
صفحة 1 من اصل 1
سيدي عبد السلام بن ريسون طبيبا
سيدي عبد السلام بن ريسون طبيبا
فى السادس عشر من شهر شوال الماضي (1399) احتفل فى مدينة تطوان بالذكرى المئوية لوفاة احد رجالها الصالحين المصلحين ، المربين المرشدين ، من طبقت شهرته الآفاق وسمى الى رحابه القصاد والرواد من كل صقع ، لطلب دعواته ، والتزود من معلوماته ، والاقتباس من انواره ، ألا وهو الشيخ الجليل ، الشريف الحسيب النسيب ، سيدي عبد السلام بن علي ابن ريسون اليونسي الادريسي الحسني الفاطمي ، سليل امام المرسلين وسيد العالمين ، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم .
وقد تطرق المتحدثون فى ذلك الاحتفال للكلام عن جوانب مختلفة من حياة " السيد " (1) ، فمنهم من تكلم عن الجانب الصوفي ، ومنهم من تحدث عن الجانب الاجتماعي والسياسي ، ومنهم من تعرض للجانب الفني الى غير ذلك ...
وكان لي حظ التحدث عن الجانب الطبي لسيدي عبد السلام ابن ريسون (2) .
واستجابة لعدة رغبات ... رايت ان انشر على صفحات مجلة " دعوة الحق " – تعميما للفائدة – عرضا عن هذا الجانب الهام من حياة الشيخ ابن ريسون ، وهو : عنايته بالتطبيب ونظرياته فى العلاج .
وقبل ان اخوض في الموضوع ، لا باس بان آتي بنبذة ملخصة للتعريف بهذا الشيخ الجليل :
ولد سيدي عبد السلام ابن ريسون " السيد " بمدينة تطوان عام خمسة عشر ومائتين والــــــــــــف (1801م) فى بيت العز والشرف والعلم ، وفى جو قوامه الصلاح والتعبد ، وزهد التبتل ، فنشا بين قوم صالحين ، افنوا عمرهم فى حب الله ورسوله ، واسهروا جفونهم فى قيام ليلهم ، تتجافى جنوبهم عن مضاجعهم ، يرجون رحمة ربهم . فكان زهرة فى روضة من رياض الجنة تنتظر الغيث لتتفتح باذن ربها ، وتؤرج الدنيا بشذى عطرها .
و " السيد " سليل اسرة من العلماء والصالحين ، ذوي معارف ومواهب ، ولهذا بدأ حياته من اول يوم فى نهج صوفي عال ، من توطين النفس على الاقتداء بهؤلاء الآباء . وقد قرأ القرءان الكريم ودرس بتطوان وغيرها العلوم التي كانت تدرس كالنحو والفقه ، والحديث والتفسير ، والسيرة النبوية والتاريخ ، والادب والموسيقى ، والطب والفلك والرياضيا ت ، حتى كان مشاركا عبقريا يسبي العقول بما يعرض عليها من مختلف الصور والمعاني . وما تكلم فى علم من العلوم الا وظن سامعه انه اختصاصي فيه ، وذلك حسب ما شهد له به علماء وادباء عاصروه واجتمعوا به وتحدثوا اليه .
وبدأ حياته العرفانية بالتطهر والعفاف ، والتنسك والعبادة ، والتطوع والورع . وجعل من الكون مسجدا ، فاضفى على كل مكان حلة قداسة المسجد . وسلك طريق آبائه فى انتهاج المحجة البيضاء السالمة ، فجعل حب رسول الله لى الله عليه وسلم معراجا له يتقرب الى الله تبارك وتعالى " اذ لا وصول الا من بابه ، ولا فروع ولا اصول الا فى ارض عرفانه " كما كان يقول رحمه الله .
وهكذا نشا متميزا بشخصية فذة فى وسامة وبهاء ، وجلال ورواء ، محبوبا من جميع من رآه او خالطه .
نظرا لما حياه الله من ذكاء خارق ، وذهن وقاد ، وموهبة فائقة ، فقد هضم جميع ما درسه ، ونبغ فى كل ما تعلمه . وعرف الناس قدره فخطبوا وده ، والتمسوا دعواته ؛ فمن رجل الشارع ، الى الوجيه ، الى الفقيه ، الى الحاكم ، الى الوزير ، الى امير المؤمنين .
وما اجتمع به عالم ولا فقيه ولا اديب ولا فنان ، الا بهره بعلومه ومعارفه وفنونه .
وكان " السيد " بالنسبة لاصحابه ومريديه مربيا ناصحا ، وموجها بصيرا ، يسهر على تقويمهم ، وتصفية نفوسهم ، وترقية اذواقهم ، وتليين عرائكهم ، وتعليمهم ما ينفعهم فى دنياهم وآخرتهم . يرشدهم باسلوب الحكيم ، ويهذب اخلاقهم بطريقة العليم ، ويدلهم على الله بالقول والفعل والحال .فكانوا يرون فيه ما لا يراه غيرهم ، ويسمعون منه ما يجعلهم متفانين فى حبه متنافسين فى طاعته ، متسابقين الى خدمته ، مجتهدين فى ارضائه . وكان يعرف منهم ذلك ، فيضفي عليهم من عطفه ما يفوق عطف الوالد على افلاذ كبده .
وكانت مجالسه التعليمية تشمل :
1) التفقه فى الدين بالدرس والمذاكرة حتى يكون اصحابه على بصيرة فى اداء واجباتهم الدينية من عقيدة وعبادة واحسان ، وقد كلف بذلك احد افذاذ العلماء من اصحابه .
2) دراسة السيرة النبوية للتعرف على حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكان يحضر هذا الدرس ليشارك فيه بما يخطر له من السوانح والواردات ، والرقائق والاستنباطات ، حيث كانت تتدفق معارفه وتشع انواره على اصحابه فتضيء قلوبهم بحب الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتخشع وتشتاق ، وتعتريها الاحوال ، وتخفق بالاشواق ، فتتلى الصلوات وتكرر الدعوات .
ترقية الذوق بالفن الجميل المتمثل فى الموسيقى والامداح ، والتانق فى مظهر والمخبر ، فكانت حضرته تبهر العقول بالجمال الخلاب ، وتاخذ بالالباب فتسطع الانوار وتتدفق الاسرار ، ولا يحضرها من الاصحاب الا المختارون الاخيار من ذوي الذوق الفني الممتاز .
وعلى العموم ، فاننا لانستطيع ان ناتي بصورة كاملة لحياة " السيد " فى صباه وشبابه ، وفى كهولته وشيخوخته ، تصف هذه الحياة بما مر فيها من الوان ، وترسم تقدمه فى مدراج العرفان ، الى ان نضج واكتمل ؛ لان الذين رافقوه وعاشروه ، لم يدونوا لنا ما نقتبس منه الانوار او نستنشق منه اريح تلك الازهار . وكل ما لدينا من حديث عن تلك الفترة لا يخرج عن نتف سمعناها من الذين سبقونا ، فنقلوا عمن شاهد وقال ، وهو حديث لا يتصف بالتدقيق ، وانما يعني بالعموميات غير المقيدة بالزمان والتاريخ ولا بالمكان والتحديد .
واهم المراجع التي ورد فيها الحديث عن سيدي عبد السلام ابن ريسون هي :
1 – كتاب تاريخ تطوان للعلامة الاستاذ السيد الحاج محمد داود حفظه الله .
2 – كتاب الفهرسة ( مخطوط ) للعلامة المحقق السيد محمد المرير وحمه الله .
3 – كتاب عمدة الراوين فى تاريخ تطاوين ( مخطوط ) للعلامة السيد الحاج احمد الرهوني رحمه الله .
وقد امتاز الاستاذ محمد داود فى مؤلفه بالاحاطة بجميع جوانب حياة الشيخ سيدي عبد السلام ابن ريسون ، سواء منها الجانب الصوفي او العلمي او الفني او الطبي او الاجتماعي او السياسي .
وبعد هذه المقدمة ، انقل بعض ما جمعه من معلومات عن الجانب الطبي فى حياة " السيد " رحمه الله :
ذكر الفقيه الاديب السيد المفضل افيلال – وهو من خاصة اصحاب السيد -- : " انه درس على سيدي عبد السلام ابن ريسون حركات الافلاك السبعة ومقابلتها بالانغام السبع ( يقصد اصوات السلم الموسيقي المعروف فى علم النوبة : دو ، ري ، مي ، فا ، صول ، لا ، سي ، ) كما درس عليه علم الموسيقى ، واخذ عنه مثلث الغزالي ، وعلوما ومعارف كثيرة فى الطب والكمياء ، وكيفية تحليل العناصر الاربعة ، واستخراجها من المعادن والنباتات والازاهير ، وكيفية تزبيب الفواكه والازهار ، وفوائد جمة فى علم التوقيت . وقال انه درس عليه اصول علم التشريح والطب للسيوطي " .
وهكذا عرف عن الشيخ سيدي عبد السلام ابن ريسون انه كان عالما بالطب فى وقت ندر فيه الاطباء ، بل لم يكن موجودا فى تطوان وقتئذ اي طبيب اجنبي . كما لم يكن هناك وجود لصيدليات تقوم بتركيب الادوية او بيعها للعموم .
فكان " السيد " رحمه الله يصف الدواء الناجع لمن قصده او سأله من المرضى ، وكانت الادوية التي يصنعها او يشيربها مؤلفة من العقاقير والنباتات المعروفة عند الناس باعيانها واسمائها . فكانوا يتناولونها فيجدون مفعولها ويلمسون تأثيرها فيشفيهم الله سبحانه عند استعمالها .
وقد درس كتب الطب القديمة ، وفى مقدمة الكتب التي كان يعتمد عليها ويستفيد منها : كتاب القانون لابن سينا ، وكتاب تذكرة اولي الالباب للشيخ داوود الانطاكي .
وكانت له تجارب شخصية ، ظهر اثرها وثبت نفعها لكثير من الناس . وكان صائبا فى افكاره واشاراته ونظرياته ، ساعيا لجلب الخير للخاصة والعامة ، ودفع الضرر عن مختلف طبقات الامة .
ولم يقتصر على ما جاء في الكتب القديمة فحسب ، بل كان باحثا دؤوبا عما يتجدد من الاكتشافات والابتكارات فى الميدان الطبي باوربا وغيرها . وذلك بواسطة عدد من اصحابه وخواصه الذين كانوا يحتلون مناصب سامية فى الحكومة المغربية ، والذين كانوا يسافرون من حين لآخر الى اوربا وغيرها فى مهمات رسمية امثال السيد امحمد الخطيب النائب السلطاني بطنجة المكلف بالشؤون الخارجية ، والسيد محمد بن عبد الله الصفار رئيس الوزراء ، والسيد الحاج عبد الكريم بريشة واخيه السيد الحاج العربي بريشة السفيرين الى عدة اقطار اوربية واسيوية ، وغيرهم .
وكان كثير من الناس يخلطون بين الطب وبين الولاية والكرامات ، فينسبون الشفاء للبركة التي يتوفر عليها الشيخ ... لكنه كان يستنكر ذلك ويقول : بل هي علوم وقواعد وتجارب وارشادات ، ولا دخل فيها لما يظنون انها من قبيل الولاية او الكرامات (3) .
وأذكر هنا قصة طريفة فى الموضوع :
اصابت الحمى شخصا تطوانيا يدعى " التاهي " فقصد الطبيب المعروف السيد محمد بن عبد الوهاب لوقش لمعالجته ، فوصف له دواء مناسبا لمرضه . وبعد ما تناول التاهي ذلك الدواء اشتدت عليه وطأة المرض ، واستفحل داؤه ، فذهب الى سيدي عبد السلام ابن ريسون مشتكيا ضره وملتمسا منه العلاج ، واشار عليه " السيد " بأكل السمك المعروف بالسردين ، فتناوله الباهي وشفاه الله من علته . وبلغ الخبر الطبيب لوقش فقال : "متاع الله لله اسيدي عبد السلام ... " يعني ان " السيد " عالج المريض " بالبركة " او " الكرامة " التي خص الله بها اولياءه المصطفين من عباده الصالحين ، وان سمك السردين ليس بدواء ناجع للعلاج من مرض الحمى .
ونميت قولة الطبيب لوقش الى سيدي عبد السلام ابن ريسون ، فتاثر لذلك وتألم لما نسبه اليه لوقش من الكرامة ، وقال لمحدثه : كلا ، انها ليست كرامة ولا بركة ، ، بل هي علم الطب والتداوي .. وان نوع الحمى التي اصابت الباهي يداويها العشب الفلاني الذي يوجد فى هذا الفصل فى قاع البحر ، فيتغذى به سمك السردين .. ! ثم ارشده الى الكتاب الذي جاء فيه وصف ذلك المرض وذلك العلاج .
ونقل العلامة المرحوم المفضل افيلال عن " السيد " قوله :
" الحمى كلها نار تشتعل فى العفونات ان وقع فيها احتراق ظاهري او باطني . فاذا احت الروح بها وكانت لها قوة ، وهربت الى القلب ، ويبقى الجسد خاليا منها ، فيبرد ويحصل له الارتعاش ، ثم تراجعه الحمى شيئا فشيئا حتى تشتعل فيه نارها وتقوى الحرارة فى البدن ، وان لم تبق للروح قوة يمكن منها الفرار ، فهي المكلفة باخذ الروح والبلدان ، وتقهر الجميع . والذي يزيلها فى الحين : النافع والقلين – اي الارنب – يستنشق بخاره ويشرب مرقه وياكل من لحمه ولا يخرج للريح " (4) .
وقال السيد المفضل افيلال ايضا : سال رجل " السيد " رضي الله عنه عن صبي تورمت احدى قدميه ؟ فقال له " السيد " : ان كانت اليمنى فليضع عليها النخالة مطبوخة مع الخل او ما يقوم مقامه من الاحماض ، وان كانت اليسرى فليضع عليها الحناء مع الصابون . فسالته – يقول افيلال – عن الفرق بينهما ؟ فاجاب : لان اليمنى من ناحية الكبد ، فمادتها حارة . اما اليسرى فمن ناحية الطحال ، وهو بارد ، فيعالج كل بضده " .
وذكر افيلال ايضا ان رجلا جاء الى " السيد " يساله علاجا لانتفاخ فى بطنه وتغير فى لونه ، فامره " السيد " ان يدهن بطنه بالعسل ويجعل عليها قرنفلا مسحوقا او سكمجبيرا ، ويضع فوق الكل قطعة من الصوف ويربط على الجميع .
ثم التفت " السيد " الى افيلال شارحا له هذا الداء وقال :
" المعدة تعتريها البرودة من كثرة الشرب ، فتعجز عن الهضم الذي يكون بحرارة الكبد والرئة ، فلا بد من مسخن ، وهذه الامور ( اي العسل والقرنفل وسكنجبير ) مسخنة . فاذا اشتد العطش معها فيشرب ماء الحليب المصفى بالحامض " .
واضاف قائلا : " ان فى البطن عروقا تستمد من المعدة ، تتلذذ بالماء عند الشرب . فاذا شرب الانسان عقب التعب الذي تخرج الحرارة معه للظاهر ، تبرد المعدة وتعجز عن هضمه ، وتبقى تلك العروق متشرفة للماء فتاخذه وحدها ، ويكثر جذبها له ، فتتسع افواهها ، فينشا من ذلك الاستسقاء الذي لا دواء له الا الموت " .
زمن اقواله الماثورة :
" شرب العسل حارا يحل ما ينعقد فى المعدة " .
"الخفقان بسكته القرنفل " (5) .
وذكر احد اصحابه وهوالفقيه السيد الحاج محمد الصفار رحمه الله انه تلقى عن الشيخ سيدي عبد السلام ابن ريسون عدة فوائد طبية ، منها :
1 – ان الانسان اذا احس فى اذنه شيئا ، يعجل لها بدهن زيت البنفسج او غيره من الزيوت . فاذا لم يجد ، فلياخ زيت العود من القنديل ويدهن به اذنه من داخلها وتحت اذنه من خارجها . وان ذلك يصرف المادة التي تكون حادثة من الراس .
2 – شرب الشيتة يفتح الرياح ( اى يفسخ الغازات ) ويحلل البلغم . واذا اكثر المرء من شربها ، وظهرت حرارتها فى الحلق ، يكون اصلاحها بالعود القماري يشربه مع الشاي بعد ان يضعه فى " البراد " او فى الكاس . وهو نافع جدا .
3 – خاصية فى شرب الشاي : اذا كان مزاج المرء معتدلا ، فلا يصلح له الشاي المركز ( المجهد ) بل يصلح الشاي اللطيف ( الخفيف) . واذا كان المزاج متغيرا او غلبت عليه السواد فيليق له الشاي المركز .
ولنقرأ جوابا " للسيد " على رسالة بعث بها اليه الفقيه محمد ابن تاويت من قبيلة وادراس ، ففيه ارشادات طبية وحض على الحمية ، وقد جاء فيه :
" ... وقد بلغنا كتابكم الاعز . وما فيه من مودتكم ، ومآثر محبتكم وفضلكم ، وما فيه من بث الشكوى ، فنسال الله العافية والشفاء لكم مما اصابكم فى سبيل الله من الامراض والكلام ( بكر الكاف ) ، لما حاربتم العدو بالدعاء والكلام ، ولكم ان شاء الله اجر المجاهدين ، والجواء من جنس العمل ، والحمد لله على كل حال . وما ذكرتم من سبب الامراض الظاهرة من برد وتناول طعام او ماء وكونه مضرا : فهو كذلك . الا انه رحمة ولطف لنيل حظ مما سعيتم فيه ، وفيه علامة قبول الدعاء ، ان يمسسكم قرح فقد مس القوم فرح مثله . واما ما تتخوفه من تعدي الامراض ، فلا باس عليكم ان شاء الله . واجتناب السبب من اكل وشرب : واجب . لان الحمية راس الدواء . وتناول اضداد المضرات : لازم ، وهو كل بارد ثقيل مثل القطاني والحوامض والفطير من الطعام ، والغليظ من اللحوم كالبقر . واما ما يتناول من خارج : فبالاستحمام بلا ماء ، ليعرق وتخفف المواد . ويحتال على العرق بما امكن من غطاء او غيره بلا تعب . وان وجدت قنفوذا فاذبحه وحلله ، وارم ما فى جوفه من الفضلات ، واعمله فى قشعة اقرور (6) ، وادخله فى فرن واقلبه حتى يتجمر ، بحيث حين يبرد بدق كله ويصير غيره (7) فيلئق ( بعسل ، ويؤكل منه على الريق قدر فص البيضة . والله الشافي . وان خفت من شرب الماء فاجعل شيئا من خطرة البقر فى الماء ، واتركه يصغى ، واشرب ما صفا ، فانه نافع ان شاء الله " (9) .
وكتب الفقيه السيد المفضل افيلال رسالة الى سيدي عبد السلام ابن ريسون بشكر فيها مرضا الم بيده اليمنى ، ويساله علاجا لعلته وجاء فيها :
" وبعد ، فان يدي اليمنى لاذت ببركة يمناك ويمنك ، واستمسكت بالعروة الوثقى من ودادك ، واعربت عما فى ضميرها بخطها ، وحطت رحلها بفناء سيادتك ، راغبة ان تفوز بنظرة منك اليها ، يكون فيها علاجها وشفاؤها . وعلى المحبة والسلام " .
وقد سطر " السيد " وحمه الله جوابا لافيلا على نفس رسالته ، جاء فيه :
" الحمد لله وحده . وعلى سيدنا العلامة اللبيب ، اللوذعي الاربب ، ازكى السلام ، والرحمة والبركة والانعام . وقد طالعنا الاعز كتابكم اعلاه . وما ذكر سيدنا من ان ننظر فى اليد العزيزة علينا ما اصابها ؟ فاعلم – سيدي – اني لما فتحت الكتاب ، ورايت فيه ضر اليد اليمنى ، نظرت فى يدي فاذا هي اخت المصابة . وهي كهي ؛ انكسرت الفكرة من مطالعة امر الدواء ، لاني لم ار ما يصلح ليدي من المباشرة ، فاستحييت من القول بلا ظن قوي ، ورددت امر اليدين لراحة طبيب الارواح والابدان . لعله ينظر فيهما نظرة الشفاء ، فيحصل لنا به الاكتفاء عن طب من لم يحسن معرفة ، واوصاف العجز عليه لائحة بلا خفاء . ثم ان وهب الله لاحدنا ما يحصل به الشفاء . فلينفع اخاه بما نفعه به الطبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم . وعلى المحبة والسلام . عبد السلام بن علي " (10) .
من هذا الجواب الواضح الصريح ، يتضح لنا ان " السيد " رحمه الله ، كان يعالج مرضاه بحسب علمه بقواعد الطب ، ومعرفته بانواع الادوية الصالحة للامراض والادواء . وليس كما تدعي العامة من الناس بانه يعالج بالبركة والكرامات ... فلو كان الامر كما يدعون لعالج يده المريضة او يد صديقه ومريده العزيز عليه ، والاثير لديه ، السيد المفضل لفيلال ، لكنه عندنا عجز عن معرفة الدواء ، فوض الامر الى الباري سبحانه الشافي من كل العلل ، ولم يجرب دواء على سبيل الظن او يستعمل علاجا من قبيل " البركة " .
وهذه وصفة دواء آخر ، ذكرها فى رسالة منه الى السيد امحمد الخطيب النائب السلطاني يطنجة . جاء فيها : " وما ذكرتم من امر السيد مصطفى الدكالي فالظاهر مادة دموية ولم تنقض بخدمة الدمال المذكور ، فتسفل ما بقي منها . فينبغي اخراج الدم الاسليم الذي يلي جهة الدمال من اليد . وان كان الضعف فيترك اللحم وكل ثقيل . فان خف من اعلى البدن وبقي الاسفل ، فالعلق من الرجل . وهاك شيئا من الدهن يدهن به من حد الوجع الى اسفل الرجل . والله الشافي . وان وجد سخانة ( اي حرارة ) فيشرب ماء قشر اللوز او ماء الزعزوف. وهذا ما ظهر ، والله يشفي العلل " الخ ..
ولعل اطراف رسالة – عثرت عليها – متعلقة بنظريات " السيد " فى الطب ، هي التي وجهها الى صديقه السفير الحاج عبد الكريم بريشة الذي كان موجودا فى مهمة بلندن ، فاصابه مرض فى خصيته ، واشار وعليه الاطباء فى انجلترا باجراء عملية جراحية لاخراج الماء من الخصية .فكتب الى سيدي عبد السلام ابن ريسون بصف له داءه ويستشيره فى امر اجراء العملية الجراحية . فاجابه " السيد " برسالة مؤرخه فى 16 ؤجب عام 1278 ( وهي من الرسائل القليلة التي ارخها " السيد " اذ لم يكن يهتم بتاريخ رسائله ) . ومما جاء فيها قوله :
" وذكرت لنا انه اصابك الم في بيضة اليمين ، وذكرت ما اراد الطبيب من الضرب على الماء . فاعلم انه يظهر لي ان تفصد من اسليم (11) اليمين ، وهو عرق بين الخنصر والبنصر ، وتجتنب اكل ما فيه الثقل من البطاطة وما اصبهها ، وتشرب طبخ العود القماري او تعمله فى البراد مع اتاي لانه نافع ويضيق مجاري المادة . وحين ترى الماء الذي مع البيضة وقف ولم يزد ، فانت دحينئذ بالخيار فى الضرب لاخراجه . واما قبل ان يقف عن نزرله فى المحل ، فانما اخراحه زيادة في مادته وسرعة هبوط مادة فانما اخراجه زيادة فى مادته وسرعة هبوط مادة اخرى . واياك تثقيفه فى وعاء البيضة بماء قاطع يسد العروق ، فذلك يوجب تحويل المادة لجهة اخرى عند توفرها . وانما يصلح تثقيفه من فوق مثل ما اشرنا ، ونسال الله ان يشفيك شفاء لا يغادر سقما بفضله ورحمنه " الخ ...
اليس هذا كافيا للدلالة على سعة اطلاعه وعمق نظره فى امور الطب والعلاج ؟
بالاضافة الى ذلك فقد كانت له خبرة بالاماكن التي تمتاز بهوائها الجيد النافع لصحة الابدان وراحة الانفس . وقد كتب العلامة المرحوم السيد محمد المرير فى فهرسته حول هذا الموضوع فقال : " قد اخبرني الفاضل المرحوم السيد الحاج العربي بنونة انه ( اى الشيخ سيدي عبد السلام ابن ريسون ) جاءه ذات يوم المرحوم السيد الحاج احمد ابن موسى – وكان ممن ينتاب مجلس الشيخ – عن طول غيبة عنه ، فقال له : اني كنت مريضا . فقال له الشيخ : " انت عندك جنان في بوجراح (12) ، وانت تمرض ؟ ففهم ابن موسى اشارة الشيخ ، وخرج لجنانه ، واقام به مدة، فوجد فى ذلك عافية جديدة " .
هذه نبذة عن عناية سيدي عبد السلام ابن ريسون بالطب . فقد كان رضي الله عنه طبيبا للارواح والابدان فى تطوان خلال القرن الثالث عشر الهجري . وكان يتخذ من مهنة الطب عبادة بتقرب بها الى الله سبحانه ، فلم يكن يتقاضى عن ذلك اى اجر . بل كان بقدم فى كثير من الاحيان المراهم والادوية التي يركبها الى المرضى والى الفقراء منهم خاصة .
لازالت بعض الاسر محتفظة الى الآن بوصفاته لعدد من الادوية لعلاج مختلف الامراض.
وقد توفي هذا السيد الجليل بتطوان فى 16 شوال عام 1299 الموافق لـ 31 غشت سنة 1882. ودفن فى زاوية والده سيدي علي ابن ريسون بعد ظهر يوم الجمعة الموالي . رحمة الله واسكنه فسيح الجنان ، وجزاه عما قدم للمسلمين احسن الجزاء .
وقد تطرق المتحدثون فى ذلك الاحتفال للكلام عن جوانب مختلفة من حياة " السيد " (1) ، فمنهم من تكلم عن الجانب الصوفي ، ومنهم من تحدث عن الجانب الاجتماعي والسياسي ، ومنهم من تعرض للجانب الفني الى غير ذلك ...
وكان لي حظ التحدث عن الجانب الطبي لسيدي عبد السلام ابن ريسون (2) .
واستجابة لعدة رغبات ... رايت ان انشر على صفحات مجلة " دعوة الحق " – تعميما للفائدة – عرضا عن هذا الجانب الهام من حياة الشيخ ابن ريسون ، وهو : عنايته بالتطبيب ونظرياته فى العلاج .
وقبل ان اخوض في الموضوع ، لا باس بان آتي بنبذة ملخصة للتعريف بهذا الشيخ الجليل :
ولد سيدي عبد السلام ابن ريسون " السيد " بمدينة تطوان عام خمسة عشر ومائتين والــــــــــــف (1801م) فى بيت العز والشرف والعلم ، وفى جو قوامه الصلاح والتعبد ، وزهد التبتل ، فنشا بين قوم صالحين ، افنوا عمرهم فى حب الله ورسوله ، واسهروا جفونهم فى قيام ليلهم ، تتجافى جنوبهم عن مضاجعهم ، يرجون رحمة ربهم . فكان زهرة فى روضة من رياض الجنة تنتظر الغيث لتتفتح باذن ربها ، وتؤرج الدنيا بشذى عطرها .
و " السيد " سليل اسرة من العلماء والصالحين ، ذوي معارف ومواهب ، ولهذا بدأ حياته من اول يوم فى نهج صوفي عال ، من توطين النفس على الاقتداء بهؤلاء الآباء . وقد قرأ القرءان الكريم ودرس بتطوان وغيرها العلوم التي كانت تدرس كالنحو والفقه ، والحديث والتفسير ، والسيرة النبوية والتاريخ ، والادب والموسيقى ، والطب والفلك والرياضيا ت ، حتى كان مشاركا عبقريا يسبي العقول بما يعرض عليها من مختلف الصور والمعاني . وما تكلم فى علم من العلوم الا وظن سامعه انه اختصاصي فيه ، وذلك حسب ما شهد له به علماء وادباء عاصروه واجتمعوا به وتحدثوا اليه .
وبدأ حياته العرفانية بالتطهر والعفاف ، والتنسك والعبادة ، والتطوع والورع . وجعل من الكون مسجدا ، فاضفى على كل مكان حلة قداسة المسجد . وسلك طريق آبائه فى انتهاج المحجة البيضاء السالمة ، فجعل حب رسول الله لى الله عليه وسلم معراجا له يتقرب الى الله تبارك وتعالى " اذ لا وصول الا من بابه ، ولا فروع ولا اصول الا فى ارض عرفانه " كما كان يقول رحمه الله .
وهكذا نشا متميزا بشخصية فذة فى وسامة وبهاء ، وجلال ورواء ، محبوبا من جميع من رآه او خالطه .
نظرا لما حياه الله من ذكاء خارق ، وذهن وقاد ، وموهبة فائقة ، فقد هضم جميع ما درسه ، ونبغ فى كل ما تعلمه . وعرف الناس قدره فخطبوا وده ، والتمسوا دعواته ؛ فمن رجل الشارع ، الى الوجيه ، الى الفقيه ، الى الحاكم ، الى الوزير ، الى امير المؤمنين .
وما اجتمع به عالم ولا فقيه ولا اديب ولا فنان ، الا بهره بعلومه ومعارفه وفنونه .
وكان " السيد " بالنسبة لاصحابه ومريديه مربيا ناصحا ، وموجها بصيرا ، يسهر على تقويمهم ، وتصفية نفوسهم ، وترقية اذواقهم ، وتليين عرائكهم ، وتعليمهم ما ينفعهم فى دنياهم وآخرتهم . يرشدهم باسلوب الحكيم ، ويهذب اخلاقهم بطريقة العليم ، ويدلهم على الله بالقول والفعل والحال .فكانوا يرون فيه ما لا يراه غيرهم ، ويسمعون منه ما يجعلهم متفانين فى حبه متنافسين فى طاعته ، متسابقين الى خدمته ، مجتهدين فى ارضائه . وكان يعرف منهم ذلك ، فيضفي عليهم من عطفه ما يفوق عطف الوالد على افلاذ كبده .
وكانت مجالسه التعليمية تشمل :
1) التفقه فى الدين بالدرس والمذاكرة حتى يكون اصحابه على بصيرة فى اداء واجباتهم الدينية من عقيدة وعبادة واحسان ، وقد كلف بذلك احد افذاذ العلماء من اصحابه .
2) دراسة السيرة النبوية للتعرف على حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكان يحضر هذا الدرس ليشارك فيه بما يخطر له من السوانح والواردات ، والرقائق والاستنباطات ، حيث كانت تتدفق معارفه وتشع انواره على اصحابه فتضيء قلوبهم بحب الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتخشع وتشتاق ، وتعتريها الاحوال ، وتخفق بالاشواق ، فتتلى الصلوات وتكرر الدعوات .
ترقية الذوق بالفن الجميل المتمثل فى الموسيقى والامداح ، والتانق فى مظهر والمخبر ، فكانت حضرته تبهر العقول بالجمال الخلاب ، وتاخذ بالالباب فتسطع الانوار وتتدفق الاسرار ، ولا يحضرها من الاصحاب الا المختارون الاخيار من ذوي الذوق الفني الممتاز .
وعلى العموم ، فاننا لانستطيع ان ناتي بصورة كاملة لحياة " السيد " فى صباه وشبابه ، وفى كهولته وشيخوخته ، تصف هذه الحياة بما مر فيها من الوان ، وترسم تقدمه فى مدراج العرفان ، الى ان نضج واكتمل ؛ لان الذين رافقوه وعاشروه ، لم يدونوا لنا ما نقتبس منه الانوار او نستنشق منه اريح تلك الازهار . وكل ما لدينا من حديث عن تلك الفترة لا يخرج عن نتف سمعناها من الذين سبقونا ، فنقلوا عمن شاهد وقال ، وهو حديث لا يتصف بالتدقيق ، وانما يعني بالعموميات غير المقيدة بالزمان والتاريخ ولا بالمكان والتحديد .
واهم المراجع التي ورد فيها الحديث عن سيدي عبد السلام ابن ريسون هي :
1 – كتاب تاريخ تطوان للعلامة الاستاذ السيد الحاج محمد داود حفظه الله .
2 – كتاب الفهرسة ( مخطوط ) للعلامة المحقق السيد محمد المرير وحمه الله .
3 – كتاب عمدة الراوين فى تاريخ تطاوين ( مخطوط ) للعلامة السيد الحاج احمد الرهوني رحمه الله .
وقد امتاز الاستاذ محمد داود فى مؤلفه بالاحاطة بجميع جوانب حياة الشيخ سيدي عبد السلام ابن ريسون ، سواء منها الجانب الصوفي او العلمي او الفني او الطبي او الاجتماعي او السياسي .
وبعد هذه المقدمة ، انقل بعض ما جمعه من معلومات عن الجانب الطبي فى حياة " السيد " رحمه الله :
ذكر الفقيه الاديب السيد المفضل افيلال – وهو من خاصة اصحاب السيد -- : " انه درس على سيدي عبد السلام ابن ريسون حركات الافلاك السبعة ومقابلتها بالانغام السبع ( يقصد اصوات السلم الموسيقي المعروف فى علم النوبة : دو ، ري ، مي ، فا ، صول ، لا ، سي ، ) كما درس عليه علم الموسيقى ، واخذ عنه مثلث الغزالي ، وعلوما ومعارف كثيرة فى الطب والكمياء ، وكيفية تحليل العناصر الاربعة ، واستخراجها من المعادن والنباتات والازاهير ، وكيفية تزبيب الفواكه والازهار ، وفوائد جمة فى علم التوقيت . وقال انه درس عليه اصول علم التشريح والطب للسيوطي " .
وهكذا عرف عن الشيخ سيدي عبد السلام ابن ريسون انه كان عالما بالطب فى وقت ندر فيه الاطباء ، بل لم يكن موجودا فى تطوان وقتئذ اي طبيب اجنبي . كما لم يكن هناك وجود لصيدليات تقوم بتركيب الادوية او بيعها للعموم .
فكان " السيد " رحمه الله يصف الدواء الناجع لمن قصده او سأله من المرضى ، وكانت الادوية التي يصنعها او يشيربها مؤلفة من العقاقير والنباتات المعروفة عند الناس باعيانها واسمائها . فكانوا يتناولونها فيجدون مفعولها ويلمسون تأثيرها فيشفيهم الله سبحانه عند استعمالها .
وقد درس كتب الطب القديمة ، وفى مقدمة الكتب التي كان يعتمد عليها ويستفيد منها : كتاب القانون لابن سينا ، وكتاب تذكرة اولي الالباب للشيخ داوود الانطاكي .
وكانت له تجارب شخصية ، ظهر اثرها وثبت نفعها لكثير من الناس . وكان صائبا فى افكاره واشاراته ونظرياته ، ساعيا لجلب الخير للخاصة والعامة ، ودفع الضرر عن مختلف طبقات الامة .
ولم يقتصر على ما جاء في الكتب القديمة فحسب ، بل كان باحثا دؤوبا عما يتجدد من الاكتشافات والابتكارات فى الميدان الطبي باوربا وغيرها . وذلك بواسطة عدد من اصحابه وخواصه الذين كانوا يحتلون مناصب سامية فى الحكومة المغربية ، والذين كانوا يسافرون من حين لآخر الى اوربا وغيرها فى مهمات رسمية امثال السيد امحمد الخطيب النائب السلطاني بطنجة المكلف بالشؤون الخارجية ، والسيد محمد بن عبد الله الصفار رئيس الوزراء ، والسيد الحاج عبد الكريم بريشة واخيه السيد الحاج العربي بريشة السفيرين الى عدة اقطار اوربية واسيوية ، وغيرهم .
وكان كثير من الناس يخلطون بين الطب وبين الولاية والكرامات ، فينسبون الشفاء للبركة التي يتوفر عليها الشيخ ... لكنه كان يستنكر ذلك ويقول : بل هي علوم وقواعد وتجارب وارشادات ، ولا دخل فيها لما يظنون انها من قبيل الولاية او الكرامات (3) .
وأذكر هنا قصة طريفة فى الموضوع :
اصابت الحمى شخصا تطوانيا يدعى " التاهي " فقصد الطبيب المعروف السيد محمد بن عبد الوهاب لوقش لمعالجته ، فوصف له دواء مناسبا لمرضه . وبعد ما تناول التاهي ذلك الدواء اشتدت عليه وطأة المرض ، واستفحل داؤه ، فذهب الى سيدي عبد السلام ابن ريسون مشتكيا ضره وملتمسا منه العلاج ، واشار عليه " السيد " بأكل السمك المعروف بالسردين ، فتناوله الباهي وشفاه الله من علته . وبلغ الخبر الطبيب لوقش فقال : "متاع الله لله اسيدي عبد السلام ... " يعني ان " السيد " عالج المريض " بالبركة " او " الكرامة " التي خص الله بها اولياءه المصطفين من عباده الصالحين ، وان سمك السردين ليس بدواء ناجع للعلاج من مرض الحمى .
ونميت قولة الطبيب لوقش الى سيدي عبد السلام ابن ريسون ، فتاثر لذلك وتألم لما نسبه اليه لوقش من الكرامة ، وقال لمحدثه : كلا ، انها ليست كرامة ولا بركة ، ، بل هي علم الطب والتداوي .. وان نوع الحمى التي اصابت الباهي يداويها العشب الفلاني الذي يوجد فى هذا الفصل فى قاع البحر ، فيتغذى به سمك السردين .. ! ثم ارشده الى الكتاب الذي جاء فيه وصف ذلك المرض وذلك العلاج .
ونقل العلامة المرحوم المفضل افيلال عن " السيد " قوله :
" الحمى كلها نار تشتعل فى العفونات ان وقع فيها احتراق ظاهري او باطني . فاذا احت الروح بها وكانت لها قوة ، وهربت الى القلب ، ويبقى الجسد خاليا منها ، فيبرد ويحصل له الارتعاش ، ثم تراجعه الحمى شيئا فشيئا حتى تشتعل فيه نارها وتقوى الحرارة فى البدن ، وان لم تبق للروح قوة يمكن منها الفرار ، فهي المكلفة باخذ الروح والبلدان ، وتقهر الجميع . والذي يزيلها فى الحين : النافع والقلين – اي الارنب – يستنشق بخاره ويشرب مرقه وياكل من لحمه ولا يخرج للريح " (4) .
وقال السيد المفضل افيلال ايضا : سال رجل " السيد " رضي الله عنه عن صبي تورمت احدى قدميه ؟ فقال له " السيد " : ان كانت اليمنى فليضع عليها النخالة مطبوخة مع الخل او ما يقوم مقامه من الاحماض ، وان كانت اليسرى فليضع عليها الحناء مع الصابون . فسالته – يقول افيلال – عن الفرق بينهما ؟ فاجاب : لان اليمنى من ناحية الكبد ، فمادتها حارة . اما اليسرى فمن ناحية الطحال ، وهو بارد ، فيعالج كل بضده " .
وذكر افيلال ايضا ان رجلا جاء الى " السيد " يساله علاجا لانتفاخ فى بطنه وتغير فى لونه ، فامره " السيد " ان يدهن بطنه بالعسل ويجعل عليها قرنفلا مسحوقا او سكمجبيرا ، ويضع فوق الكل قطعة من الصوف ويربط على الجميع .
ثم التفت " السيد " الى افيلال شارحا له هذا الداء وقال :
" المعدة تعتريها البرودة من كثرة الشرب ، فتعجز عن الهضم الذي يكون بحرارة الكبد والرئة ، فلا بد من مسخن ، وهذه الامور ( اي العسل والقرنفل وسكنجبير ) مسخنة . فاذا اشتد العطش معها فيشرب ماء الحليب المصفى بالحامض " .
واضاف قائلا : " ان فى البطن عروقا تستمد من المعدة ، تتلذذ بالماء عند الشرب . فاذا شرب الانسان عقب التعب الذي تخرج الحرارة معه للظاهر ، تبرد المعدة وتعجز عن هضمه ، وتبقى تلك العروق متشرفة للماء فتاخذه وحدها ، ويكثر جذبها له ، فتتسع افواهها ، فينشا من ذلك الاستسقاء الذي لا دواء له الا الموت " .
زمن اقواله الماثورة :
" شرب العسل حارا يحل ما ينعقد فى المعدة " .
"الخفقان بسكته القرنفل " (5) .
وذكر احد اصحابه وهوالفقيه السيد الحاج محمد الصفار رحمه الله انه تلقى عن الشيخ سيدي عبد السلام ابن ريسون عدة فوائد طبية ، منها :
1 – ان الانسان اذا احس فى اذنه شيئا ، يعجل لها بدهن زيت البنفسج او غيره من الزيوت . فاذا لم يجد ، فلياخ زيت العود من القنديل ويدهن به اذنه من داخلها وتحت اذنه من خارجها . وان ذلك يصرف المادة التي تكون حادثة من الراس .
2 – شرب الشيتة يفتح الرياح ( اى يفسخ الغازات ) ويحلل البلغم . واذا اكثر المرء من شربها ، وظهرت حرارتها فى الحلق ، يكون اصلاحها بالعود القماري يشربه مع الشاي بعد ان يضعه فى " البراد " او فى الكاس . وهو نافع جدا .
3 – خاصية فى شرب الشاي : اذا كان مزاج المرء معتدلا ، فلا يصلح له الشاي المركز ( المجهد ) بل يصلح الشاي اللطيف ( الخفيف) . واذا كان المزاج متغيرا او غلبت عليه السواد فيليق له الشاي المركز .
ولنقرأ جوابا " للسيد " على رسالة بعث بها اليه الفقيه محمد ابن تاويت من قبيلة وادراس ، ففيه ارشادات طبية وحض على الحمية ، وقد جاء فيه :
" ... وقد بلغنا كتابكم الاعز . وما فيه من مودتكم ، ومآثر محبتكم وفضلكم ، وما فيه من بث الشكوى ، فنسال الله العافية والشفاء لكم مما اصابكم فى سبيل الله من الامراض والكلام ( بكر الكاف ) ، لما حاربتم العدو بالدعاء والكلام ، ولكم ان شاء الله اجر المجاهدين ، والجواء من جنس العمل ، والحمد لله على كل حال . وما ذكرتم من سبب الامراض الظاهرة من برد وتناول طعام او ماء وكونه مضرا : فهو كذلك . الا انه رحمة ولطف لنيل حظ مما سعيتم فيه ، وفيه علامة قبول الدعاء ، ان يمسسكم قرح فقد مس القوم فرح مثله . واما ما تتخوفه من تعدي الامراض ، فلا باس عليكم ان شاء الله . واجتناب السبب من اكل وشرب : واجب . لان الحمية راس الدواء . وتناول اضداد المضرات : لازم ، وهو كل بارد ثقيل مثل القطاني والحوامض والفطير من الطعام ، والغليظ من اللحوم كالبقر . واما ما يتناول من خارج : فبالاستحمام بلا ماء ، ليعرق وتخفف المواد . ويحتال على العرق بما امكن من غطاء او غيره بلا تعب . وان وجدت قنفوذا فاذبحه وحلله ، وارم ما فى جوفه من الفضلات ، واعمله فى قشعة اقرور (6) ، وادخله فى فرن واقلبه حتى يتجمر ، بحيث حين يبرد بدق كله ويصير غيره (7) فيلئق ( بعسل ، ويؤكل منه على الريق قدر فص البيضة . والله الشافي . وان خفت من شرب الماء فاجعل شيئا من خطرة البقر فى الماء ، واتركه يصغى ، واشرب ما صفا ، فانه نافع ان شاء الله " (9) .
وكتب الفقيه السيد المفضل افيلال رسالة الى سيدي عبد السلام ابن ريسون بشكر فيها مرضا الم بيده اليمنى ، ويساله علاجا لعلته وجاء فيها :
" وبعد ، فان يدي اليمنى لاذت ببركة يمناك ويمنك ، واستمسكت بالعروة الوثقى من ودادك ، واعربت عما فى ضميرها بخطها ، وحطت رحلها بفناء سيادتك ، راغبة ان تفوز بنظرة منك اليها ، يكون فيها علاجها وشفاؤها . وعلى المحبة والسلام " .
وقد سطر " السيد " وحمه الله جوابا لافيلا على نفس رسالته ، جاء فيه :
" الحمد لله وحده . وعلى سيدنا العلامة اللبيب ، اللوذعي الاربب ، ازكى السلام ، والرحمة والبركة والانعام . وقد طالعنا الاعز كتابكم اعلاه . وما ذكر سيدنا من ان ننظر فى اليد العزيزة علينا ما اصابها ؟ فاعلم – سيدي – اني لما فتحت الكتاب ، ورايت فيه ضر اليد اليمنى ، نظرت فى يدي فاذا هي اخت المصابة . وهي كهي ؛ انكسرت الفكرة من مطالعة امر الدواء ، لاني لم ار ما يصلح ليدي من المباشرة ، فاستحييت من القول بلا ظن قوي ، ورددت امر اليدين لراحة طبيب الارواح والابدان . لعله ينظر فيهما نظرة الشفاء ، فيحصل لنا به الاكتفاء عن طب من لم يحسن معرفة ، واوصاف العجز عليه لائحة بلا خفاء . ثم ان وهب الله لاحدنا ما يحصل به الشفاء . فلينفع اخاه بما نفعه به الطبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم . وعلى المحبة والسلام . عبد السلام بن علي " (10) .
من هذا الجواب الواضح الصريح ، يتضح لنا ان " السيد " رحمه الله ، كان يعالج مرضاه بحسب علمه بقواعد الطب ، ومعرفته بانواع الادوية الصالحة للامراض والادواء . وليس كما تدعي العامة من الناس بانه يعالج بالبركة والكرامات ... فلو كان الامر كما يدعون لعالج يده المريضة او يد صديقه ومريده العزيز عليه ، والاثير لديه ، السيد المفضل لفيلال ، لكنه عندنا عجز عن معرفة الدواء ، فوض الامر الى الباري سبحانه الشافي من كل العلل ، ولم يجرب دواء على سبيل الظن او يستعمل علاجا من قبيل " البركة " .
وهذه وصفة دواء آخر ، ذكرها فى رسالة منه الى السيد امحمد الخطيب النائب السلطاني يطنجة . جاء فيها : " وما ذكرتم من امر السيد مصطفى الدكالي فالظاهر مادة دموية ولم تنقض بخدمة الدمال المذكور ، فتسفل ما بقي منها . فينبغي اخراج الدم الاسليم الذي يلي جهة الدمال من اليد . وان كان الضعف فيترك اللحم وكل ثقيل . فان خف من اعلى البدن وبقي الاسفل ، فالعلق من الرجل . وهاك شيئا من الدهن يدهن به من حد الوجع الى اسفل الرجل . والله الشافي . وان وجد سخانة ( اي حرارة ) فيشرب ماء قشر اللوز او ماء الزعزوف. وهذا ما ظهر ، والله يشفي العلل " الخ ..
ولعل اطراف رسالة – عثرت عليها – متعلقة بنظريات " السيد " فى الطب ، هي التي وجهها الى صديقه السفير الحاج عبد الكريم بريشة الذي كان موجودا فى مهمة بلندن ، فاصابه مرض فى خصيته ، واشار وعليه الاطباء فى انجلترا باجراء عملية جراحية لاخراج الماء من الخصية .فكتب الى سيدي عبد السلام ابن ريسون بصف له داءه ويستشيره فى امر اجراء العملية الجراحية . فاجابه " السيد " برسالة مؤرخه فى 16 ؤجب عام 1278 ( وهي من الرسائل القليلة التي ارخها " السيد " اذ لم يكن يهتم بتاريخ رسائله ) . ومما جاء فيها قوله :
" وذكرت لنا انه اصابك الم في بيضة اليمين ، وذكرت ما اراد الطبيب من الضرب على الماء . فاعلم انه يظهر لي ان تفصد من اسليم (11) اليمين ، وهو عرق بين الخنصر والبنصر ، وتجتنب اكل ما فيه الثقل من البطاطة وما اصبهها ، وتشرب طبخ العود القماري او تعمله فى البراد مع اتاي لانه نافع ويضيق مجاري المادة . وحين ترى الماء الذي مع البيضة وقف ولم يزد ، فانت دحينئذ بالخيار فى الضرب لاخراجه . واما قبل ان يقف عن نزرله فى المحل ، فانما اخراحه زيادة في مادته وسرعة هبوط مادة فانما اخراجه زيادة فى مادته وسرعة هبوط مادة اخرى . واياك تثقيفه فى وعاء البيضة بماء قاطع يسد العروق ، فذلك يوجب تحويل المادة لجهة اخرى عند توفرها . وانما يصلح تثقيفه من فوق مثل ما اشرنا ، ونسال الله ان يشفيك شفاء لا يغادر سقما بفضله ورحمنه " الخ ...
اليس هذا كافيا للدلالة على سعة اطلاعه وعمق نظره فى امور الطب والعلاج ؟
بالاضافة الى ذلك فقد كانت له خبرة بالاماكن التي تمتاز بهوائها الجيد النافع لصحة الابدان وراحة الانفس . وقد كتب العلامة المرحوم السيد محمد المرير فى فهرسته حول هذا الموضوع فقال : " قد اخبرني الفاضل المرحوم السيد الحاج العربي بنونة انه ( اى الشيخ سيدي عبد السلام ابن ريسون ) جاءه ذات يوم المرحوم السيد الحاج احمد ابن موسى – وكان ممن ينتاب مجلس الشيخ – عن طول غيبة عنه ، فقال له : اني كنت مريضا . فقال له الشيخ : " انت عندك جنان في بوجراح (12) ، وانت تمرض ؟ ففهم ابن موسى اشارة الشيخ ، وخرج لجنانه ، واقام به مدة، فوجد فى ذلك عافية جديدة " .
هذه نبذة عن عناية سيدي عبد السلام ابن ريسون بالطب . فقد كان رضي الله عنه طبيبا للارواح والابدان فى تطوان خلال القرن الثالث عشر الهجري . وكان يتخذ من مهنة الطب عبادة بتقرب بها الى الله سبحانه ، فلم يكن يتقاضى عن ذلك اى اجر . بل كان بقدم فى كثير من الاحيان المراهم والادوية التي يركبها الى المرضى والى الفقراء منهم خاصة .
لازالت بعض الاسر محتفظة الى الآن بوصفاته لعدد من الادوية لعلاج مختلف الامراض.
وقد توفي هذا السيد الجليل بتطوان فى 16 شوال عام 1299 الموافق لـ 31 غشت سنة 1882. ودفن فى زاوية والده سيدي علي ابن ريسون بعد ظهر يوم الجمعة الموالي . رحمة الله واسكنه فسيح الجنان ، وجزاه عما قدم للمسلمين احسن الجزاء .
(1) اشتهر سيدي عبد السلام ابن ريسون فى الاوساط التطوانية بلقب " السيد " سواء قيد حياته او بعد وفاته .
(2) جمعت اللجنة التي سهرت على تنظيم الذكرى المئوية لوفاة " السيد " الكلمات التي القيت فى حفل الذكرى ، وطبعتها فى كتيب محلى بصور مختلفة ، من رسائل ومخلفات وآثار فنية للسيد رحمه الله .
(3) تاريخ تطوان للاستاذ محمد داود : المجلد 7 عدد 19 ص 99 .
(4) تاريخ تطوان ، لداود – مجلد 7 عدد 19 ص 141 .
(5) المصدر السابق .
(6) اناء من الخزف .
(7) مسحوقا كالرماد .
( يلتئق : يبلل .
(9) تاريخ تطوان لداود ، مجلد 7 عدد : 19 ص 154 .
(10) كتاب عمدة الراوين فى تاريخ تطاوين للعلامة المرحوم احمد الرهوني : الجزء 4 ص 216 ، (مخطوط) .
(11) الاسيلم : عرق بين الخنصر والبنصر ( المنجد)
(12) ناحية فى ضواحي تطوان ضهيرة بهوائها الصحي واجنتها المزدائة بالاشجار والازهار والرباحين .
دعوة الحق
205 العدد
الزاهوية- عضو نشيط
- الجنس : عدد المساهمات : 62
درجة التقدير : 0
تاريخ الميلاد : 14/12/1976
تاريخ التسجيل : 16/09/2012
العمر : 47
مواضيع مماثلة
» ترجمة الشيخ سيدي عبد السلام الخنوس رحمه الله
» سيدي الحاج بركة
» سيدي علي بوغالب
» من هو سيدي قاسم؟
» من سيدي بوصبار
» سيدي الحاج بركة
» سيدي علي بوغالب
» من هو سيدي قاسم؟
» من سيدي بوصبار
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى