رسالة إلى الأمير محمد الخطابي
صفحة 1 من اصل 1
رسالة إلى الأمير محمد الخطابي
إلى الأمير محمد الخطابي :
يا سُمو الأمير ذي المهابة والمكانة :
إنك من تحققت له الإمارة لخمس سنوات بمنطقة الريف فكانت تُسَبِّح بحمدك سهول الشمال وتتصدع من خشيتك الجبال، وإنك من تعلم في المدرسة الحربية بإسبانيا فنون القتل بمختلف الأسلحة والطرق، حتى تفوقت في ذلك على من علموك. ومع ذلك أجرؤ على كتابة هذه الرسالة إليك بعد أن ذقتُ الأَمَرَّين ممن روَّضْتهم على طاعتك وأغريتهم بكاريزميتك فقدسوك حيا وميتا وثاروا على من رأى فيك مجرد عسكري ابن إقطاعي طمع في إمارة وما تحقق له حلمه إلا لفترة قصيرة.
لقد استخفوا بي وأهانوني لأني من بلدة صغيرة ومن أب غير معروف، بينما أنت ابن القائد على القبائل بظهير شريف من الملك . قد يكون ذنبي من ذنب أبي الذي كان يذبح شاة من قطيعه كلما حل أحد بقراه فأزعجهم تصرفه ولا أزعجهم أنك كنت تذبح الآلاف وتعرض الآلاف للذبح من البشر وليس من الغنم. لست أدري وقد اجتمع علي جهلة من المشرق ومن المغرب من أعمتهم العصبية يريدون نهشي ظلما وعدوانا، أَ أُفصح عما يؤلمني ويحزنني أم أجتر خيبتي وأبكي كما يبكي الطفل في حضن أمه؟ إنها مغامرة أن تراسل ذوي السلطة والجاه وقد تجد لهم في كل ناحية كلب شرس لا يرحم. لكني مع ذلك سأفعل عسى أن أفرغ ثقلا في صدري أو أهدي ضالا إلى رشد أو أطلع قارئا على كمدي .
من أين أبدأ في أمر لا بداية له وأين أنتهي في حديث لا نهاية له ؟ ربما كان أبوك هو المذنب لأنه حين غلبه المتمردون ورفضوا دفع الضرائب والقيام بالسخرة وثاروا في وجهه التجأ إلى الإسبان كي يوفروا له الحماية واعتمد عليهم كي يقضي على مُناوئيه ظنا منه أن الأمر سيستتب له في النهاية . لكن حساباته لم تكن في محلها ما دام صفر اليدين في السياسة وأقل حيلة من الإسبان الخبثاء. فما لبث أن مهد لهم الدخول حتى صارت لهم السيادة ولهم القيادة وضاع منه ما كان له أيام العلويين من قوة وجاه.
ولو كان القُواد محصنين بالشعب ومتعاونين معه غير مبالغين في ظلمه وإهانته وإثقال كاهله بالضرائب والسخرة وإرغامه على الالتحاق بالخدمة العسكرية لمواجهة المتمردين لما اضطروا جميعا للاستعانة بالأجنبي لحمايتهم. لقد ظنوا أن مانعتهم أسلحة فرنسا وإسبانيا والولايات المتحدة. وهكذا عوض أن تجد في فمك ملعقة من ذهب وجدت نفسك خادما لأسيادك الإسبان في أحقر عمل على الإطلاق ألا وهو المخابرات متجسسا على الريفيين وإن كانوا أصدقائك، ومتفانيا في إبلاغ المستعمر بمعلومات دقيقة عنهم كي لا يفقدوا ثقتهم فيك وكي يتسنى لك معرفة مكامن الضعف عند من تعد لهم العدة من القبائل . فلا عجب وأنت من قبيلة صغيرة تمكنت من السيادة على قبيلة كبيرة بفضل حنكتك العسكرية كما لقنها لك الإسبان، ومقدرتك على التجسس والحيلة والمكر والخديعة كما تعلمت في المخابرات، حتى يُقال أنك كنت مُلهِم أكبر القادة في حرب العصابات بما أوتيت به من خداع وقدرة فائقة على التضليل . وإذا كانت هذه خصال ذميمة ولا تشرف أحدا فإنها عند من يعشقون إراقة الدماء دليل كفاءة ومهارة.
يا سمو الأمير :
إنني أسهر الليالي لا أعرف ما بحالي. يذهب النوم من جفنَيَّ ويؤرقني شعور غريب بأنني وحدي بلا مجداف في بحر لجج . يوجد فيه من السفاحين والقتلة أكثر ما فيه من المُشفِـقين والمنتجين. فلو أحصيت عدد الجيش والشرطة والقواة المساعدة وقواة مكافحة الشغب وشرطة الإرهاب والجمارك والبوليس السري والمخابرات وجنود الاحتياط والحرس الرئاسي ( الملكي) ثم زدت عليهم رجال الدين وأرباب الأقلام والحواسيب من الزبانية أصحاب الجرائد والمجلات والقنوات لأصبت بالذهول من عالم أحمق. هذا يقطع عنق الإنسان وذاك يلوي عنق الحقيقة وآخر يدجن الناس ولا أحد منهم ينتج ولو حبة قمح. إنني لا أريد أن أبكي كي لا تُمس رجولتي بسوء لكن الدمع يغالبني حين يتحرش بي الدهماء ويتواطؤ معهم من كنت أحسبهم أصدقاء، أو على الأقل من ظننت أنهم لن يوافقوا على الرذيلة. يزداد تشاؤمي وأنظر إليك وإلى من مثلك بعين الحقد والضغينة رغم أني أسعى بكل جهدي أن لا يتسرب إلى قلبي غير الحب والفضيلة.
يا ذا الذي كان يطمح يوما إلى إمارة حتى تحققت له ومبرره طرد المستعمر وكأن المستعمر ليس بحليف الأمس، قل لي من فضلك: لمَّا قضيتَ على آلاف الإسبان المساكين على حين غرة وقد هجرهم قادتهم المذعورين من ألمانيا، فتركوهم بدون دعم ولا تغطية من الخلف، ألم تذرف دموعا على ما فعلتَ ؟ خاصة وأنهم حينما منعت وصول الزاد إليه شربوا بولهم ونفقوا عطشا! عجبي من الذين لا تؤثر فيهم المأساة ويحسبونها ملهاة. ثم قل لي من فضلك: حين عاد الإسبان بجيش عرمرم وقد أعادوا ترتيب الصفوف ثم أبادوا من الريفيين ما يجعلك نظريا – لو كان لك ضمير حي- لا تنام طيلة حياتك ، ماذا فعلتَ كي تنسى المجزرة فــتَـعِدَ الإسبان وفرنسا باستغلال الحديد والرصاص وكل خيرات البلاد إذا ثبتوا لك الحكم؟ صحيح أنهم كانوا إلى محمد الخامس أقرب لما كان أنصاره مترسملون وبالتالي صالحون لإقامة دولة رأسمالية ولمَّا كان هو سليل ملك وَوَرِيث عرش مما يجعل الرقاب تذعن له بسهولة وها ما كان، بينما يلزم طامعا جديدا في الإمارة مثلك كثير من الحظ وقليل جدا من الأخطاء وها ما لم توفق فيه. لهذا كنتَ إلى مصر العربية أقرب. ساعدتك على قيام دولة ريفية بالكلام ” وما كان الكلام يحافظ على الدول” كما جاء في كتاب ” الأمير” الذي بدون شك لم يكن يفارقك. لكن هذا لم يمنع من الود بينكم جميعا كأنكم لم تقتلوا نفسا واحدة أو كأن المساكين مجرد بيادق في رقعة شطرنج لا يؤدي موتهم إلى أدنى إحساس بالذنب أو الشفقة. ثم قل لي من فضلك: كيف قضيت على ما ينيف عن عشرين ألف إسباني حسب الروايات وهو رقم حتى لو كان نصفه هو الصحيح لضل جريمة إنسانية بكل المقاييس ومع ذلك استقبلك الإسبان بأمان ولم يحاكموك ولم يعذبوك ولم يسجنوك. أَهَانَ عليهم أن يموت جُنودُهم بهذا الشكل الغريب؟؟ وهل هَان عليكَ أن يموت الريفيون جماعات في الجبال والوديان حتى تُسِلِّم نفسك دون الاستمرار في الحرب إلى آخر نفس ؟؟ لو أنك فعلتَ على الأقل كما فعل قبْلك الجيلالي الروكي حين حارب السلطانَ وأباك المتحالفين ضده إلى آخر رمق حتى أُخذ مع أنصارِه مُلْـتـفِّين حوله وقُتل معهم، لحظيتَ على الأقل ببعض المصداقية.
يا مهابة الأمير :
إنني أمرض بدون سبب أو ربما كان السبب عندما أرى وثائقيا أو أقرأ كتابا فيه مثلا أنك جلست جنبا إلى جنب دون شجار ولا خصام مع من قتلت فيهم ما قتلت ومن قتلوا في الريفيين ما قتلوا وتمت التسوية أن تقبل من الغنيمة بدل إمارة ، بالرحيل إلى ضيعة كبيرة في جزيرة ” لارينيون” تعيش فيها سعيدا هنيئا مريئا مع أبنائك كأنك لم تكن سفاحا. ثم رحَّلوك إلى مصر كي تتلقى من سفارة المغرب راتبا شهريا تعيش به في بحبوحة ورغد عيش بينما يعيش المصريون على العِـيش والفول المدمس والمغاربة على الخبز والشاي والقطاني أو على النباتات البقولية والطفيلية حين يسمح فصل الربيع بذلك.
إنها لمفارقة عجيبة أن أرمى بالشتائم أنا الذي لم أقتل أحدا ولا بمكنتي فعل ذلك، بينما يُعزُّ ويكرَّمُ المجرمون أمثالك. ربما كان ذبح أبي للشياه قرى جالبا لسوء الطالع فورثت منه هذه المأساة كما ورثت من أبيك ذنب استعانته بالأجانب وقطع رقاب البشر مساندة للسلطان.
إني أرى أن هناك شيء آخر ينغص علي حياتي غير سوء الحظ هذا. فإن لم أكن ورثت الإمارة ولا حُكم مقاطعة كبيرة فإني فوق هذا جُبلت على غير طبع الخليقة ربما. ذلك أن الناس يرون أن حريتهم لا تنتهي أبدا، وإن قيدوها فإنها تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين وهم ندرة، إذ السواد الأعظم عبيد لواقع مؤلم لا بداية لحريتهم ولا يُنْهُونَ حرية أحد. بينما جِـبِـلَّتي يا ذا السمو والمهابة، جعلتني أشعر أن حريتي لن تبدأ إلا مع حرية المضطهدين. لقد كنت أشمئز من رؤية طوابير المتسولين وماسحي الأحدية والحمقى والأرامل، ولم أكن أطيق رؤية المعطلين يواجهون الهراوات والعزلة دون أن يجدوا صديقا ولا نصيرا حتى أنهم اضطروا لإضرام النار في أجسادهم. ومن لم يضرم النار فيها، أصيب بالجنون. لهذا هاجرت إلى هنا لما كان الحل عصيا والأزمة متجدرة والأعلام والرموز مثلك معالما لطريق التخلف والفُرقة والعصبية. ومن سوء حظي مرة أخرى أنني وأنا خلف المحيط كأنني أرى أولئك المتسولين والمحبطين والمقموعين بالعين المجردة.
وددت يا سمو الأمير أن أنهي رسالتي عند هذا الحد وقد وضحت ما يكفي مما ينغرس رماحا في صدري تؤلمني وتدميني لكني فضلت أن أخبرك بأن أخاك الذي نصبته ولي عهدك في إمارتك التي لم يكتب لها طول العمر حتى يخلفك عليها، رُزق بابن حصل على الدكتوراة في وقت لم يكن يسمع بكلية الطب غير الميسورين. ثم أصبحت له مصحة كبيرة بمنطقة الغرب بعيدا عن منطقة الريف التي كنت تريد انفصالها، واندمج مع العرب حتى أنه أصبح رئيسا فعليا لأقوى فريق غرباوي حينذاك ( النادي القنيطري). هذا مصير أبناء الأمراء والقادة، أما المتقاعدون من الجيش ذوي المراتب الدنيا فإنهم يعتبرون أنفسهم محظوظين جدا لمجرد أن رؤساءهم السابقون توسطوا لهم فتمكن أبناؤهم من الانخراط في الجندية. نجا الأبناء من مسغبة حقيقية كي يصبحوا حطب نار قادمة يشعلها زعماء الحظائر وقادة الحرب المجرمون. إنه قدرهم المأساوي المحتوم الذي لو كانت لي القدرة على رده لما ترددت لحظة واحدة لكنه من صناع أقوى مني بكثير.
وأخيرا يا مهابة الأمير أكتفي بالقول والحديث ذو شجون :
عم مساءً إن المغرب يسير على الدرب الذي كنت تريد وتريده فرنسا كذلك.
يا سُمو الأمير ذي المهابة والمكانة :
إنك من تحققت له الإمارة لخمس سنوات بمنطقة الريف فكانت تُسَبِّح بحمدك سهول الشمال وتتصدع من خشيتك الجبال، وإنك من تعلم في المدرسة الحربية بإسبانيا فنون القتل بمختلف الأسلحة والطرق، حتى تفوقت في ذلك على من علموك. ومع ذلك أجرؤ على كتابة هذه الرسالة إليك بعد أن ذقتُ الأَمَرَّين ممن روَّضْتهم على طاعتك وأغريتهم بكاريزميتك فقدسوك حيا وميتا وثاروا على من رأى فيك مجرد عسكري ابن إقطاعي طمع في إمارة وما تحقق له حلمه إلا لفترة قصيرة.
لقد استخفوا بي وأهانوني لأني من بلدة صغيرة ومن أب غير معروف، بينما أنت ابن القائد على القبائل بظهير شريف من الملك . قد يكون ذنبي من ذنب أبي الذي كان يذبح شاة من قطيعه كلما حل أحد بقراه فأزعجهم تصرفه ولا أزعجهم أنك كنت تذبح الآلاف وتعرض الآلاف للذبح من البشر وليس من الغنم. لست أدري وقد اجتمع علي جهلة من المشرق ومن المغرب من أعمتهم العصبية يريدون نهشي ظلما وعدوانا، أَ أُفصح عما يؤلمني ويحزنني أم أجتر خيبتي وأبكي كما يبكي الطفل في حضن أمه؟ إنها مغامرة أن تراسل ذوي السلطة والجاه وقد تجد لهم في كل ناحية كلب شرس لا يرحم. لكني مع ذلك سأفعل عسى أن أفرغ ثقلا في صدري أو أهدي ضالا إلى رشد أو أطلع قارئا على كمدي .
من أين أبدأ في أمر لا بداية له وأين أنتهي في حديث لا نهاية له ؟ ربما كان أبوك هو المذنب لأنه حين غلبه المتمردون ورفضوا دفع الضرائب والقيام بالسخرة وثاروا في وجهه التجأ إلى الإسبان كي يوفروا له الحماية واعتمد عليهم كي يقضي على مُناوئيه ظنا منه أن الأمر سيستتب له في النهاية . لكن حساباته لم تكن في محلها ما دام صفر اليدين في السياسة وأقل حيلة من الإسبان الخبثاء. فما لبث أن مهد لهم الدخول حتى صارت لهم السيادة ولهم القيادة وضاع منه ما كان له أيام العلويين من قوة وجاه.
ولو كان القُواد محصنين بالشعب ومتعاونين معه غير مبالغين في ظلمه وإهانته وإثقال كاهله بالضرائب والسخرة وإرغامه على الالتحاق بالخدمة العسكرية لمواجهة المتمردين لما اضطروا جميعا للاستعانة بالأجنبي لحمايتهم. لقد ظنوا أن مانعتهم أسلحة فرنسا وإسبانيا والولايات المتحدة. وهكذا عوض أن تجد في فمك ملعقة من ذهب وجدت نفسك خادما لأسيادك الإسبان في أحقر عمل على الإطلاق ألا وهو المخابرات متجسسا على الريفيين وإن كانوا أصدقائك، ومتفانيا في إبلاغ المستعمر بمعلومات دقيقة عنهم كي لا يفقدوا ثقتهم فيك وكي يتسنى لك معرفة مكامن الضعف عند من تعد لهم العدة من القبائل . فلا عجب وأنت من قبيلة صغيرة تمكنت من السيادة على قبيلة كبيرة بفضل حنكتك العسكرية كما لقنها لك الإسبان، ومقدرتك على التجسس والحيلة والمكر والخديعة كما تعلمت في المخابرات، حتى يُقال أنك كنت مُلهِم أكبر القادة في حرب العصابات بما أوتيت به من خداع وقدرة فائقة على التضليل . وإذا كانت هذه خصال ذميمة ولا تشرف أحدا فإنها عند من يعشقون إراقة الدماء دليل كفاءة ومهارة.
يا سمو الأمير :
إنني أسهر الليالي لا أعرف ما بحالي. يذهب النوم من جفنَيَّ ويؤرقني شعور غريب بأنني وحدي بلا مجداف في بحر لجج . يوجد فيه من السفاحين والقتلة أكثر ما فيه من المُشفِـقين والمنتجين. فلو أحصيت عدد الجيش والشرطة والقواة المساعدة وقواة مكافحة الشغب وشرطة الإرهاب والجمارك والبوليس السري والمخابرات وجنود الاحتياط والحرس الرئاسي ( الملكي) ثم زدت عليهم رجال الدين وأرباب الأقلام والحواسيب من الزبانية أصحاب الجرائد والمجلات والقنوات لأصبت بالذهول من عالم أحمق. هذا يقطع عنق الإنسان وذاك يلوي عنق الحقيقة وآخر يدجن الناس ولا أحد منهم ينتج ولو حبة قمح. إنني لا أريد أن أبكي كي لا تُمس رجولتي بسوء لكن الدمع يغالبني حين يتحرش بي الدهماء ويتواطؤ معهم من كنت أحسبهم أصدقاء، أو على الأقل من ظننت أنهم لن يوافقوا على الرذيلة. يزداد تشاؤمي وأنظر إليك وإلى من مثلك بعين الحقد والضغينة رغم أني أسعى بكل جهدي أن لا يتسرب إلى قلبي غير الحب والفضيلة.
يا ذا الذي كان يطمح يوما إلى إمارة حتى تحققت له ومبرره طرد المستعمر وكأن المستعمر ليس بحليف الأمس، قل لي من فضلك: لمَّا قضيتَ على آلاف الإسبان المساكين على حين غرة وقد هجرهم قادتهم المذعورين من ألمانيا، فتركوهم بدون دعم ولا تغطية من الخلف، ألم تذرف دموعا على ما فعلتَ ؟ خاصة وأنهم حينما منعت وصول الزاد إليه شربوا بولهم ونفقوا عطشا! عجبي من الذين لا تؤثر فيهم المأساة ويحسبونها ملهاة. ثم قل لي من فضلك: حين عاد الإسبان بجيش عرمرم وقد أعادوا ترتيب الصفوف ثم أبادوا من الريفيين ما يجعلك نظريا – لو كان لك ضمير حي- لا تنام طيلة حياتك ، ماذا فعلتَ كي تنسى المجزرة فــتَـعِدَ الإسبان وفرنسا باستغلال الحديد والرصاص وكل خيرات البلاد إذا ثبتوا لك الحكم؟ صحيح أنهم كانوا إلى محمد الخامس أقرب لما كان أنصاره مترسملون وبالتالي صالحون لإقامة دولة رأسمالية ولمَّا كان هو سليل ملك وَوَرِيث عرش مما يجعل الرقاب تذعن له بسهولة وها ما كان، بينما يلزم طامعا جديدا في الإمارة مثلك كثير من الحظ وقليل جدا من الأخطاء وها ما لم توفق فيه. لهذا كنتَ إلى مصر العربية أقرب. ساعدتك على قيام دولة ريفية بالكلام ” وما كان الكلام يحافظ على الدول” كما جاء في كتاب ” الأمير” الذي بدون شك لم يكن يفارقك. لكن هذا لم يمنع من الود بينكم جميعا كأنكم لم تقتلوا نفسا واحدة أو كأن المساكين مجرد بيادق في رقعة شطرنج لا يؤدي موتهم إلى أدنى إحساس بالذنب أو الشفقة. ثم قل لي من فضلك: كيف قضيت على ما ينيف عن عشرين ألف إسباني حسب الروايات وهو رقم حتى لو كان نصفه هو الصحيح لضل جريمة إنسانية بكل المقاييس ومع ذلك استقبلك الإسبان بأمان ولم يحاكموك ولم يعذبوك ولم يسجنوك. أَهَانَ عليهم أن يموت جُنودُهم بهذا الشكل الغريب؟؟ وهل هَان عليكَ أن يموت الريفيون جماعات في الجبال والوديان حتى تُسِلِّم نفسك دون الاستمرار في الحرب إلى آخر نفس ؟؟ لو أنك فعلتَ على الأقل كما فعل قبْلك الجيلالي الروكي حين حارب السلطانَ وأباك المتحالفين ضده إلى آخر رمق حتى أُخذ مع أنصارِه مُلْـتـفِّين حوله وقُتل معهم، لحظيتَ على الأقل ببعض المصداقية.
يا مهابة الأمير :
إنني أمرض بدون سبب أو ربما كان السبب عندما أرى وثائقيا أو أقرأ كتابا فيه مثلا أنك جلست جنبا إلى جنب دون شجار ولا خصام مع من قتلت فيهم ما قتلت ومن قتلوا في الريفيين ما قتلوا وتمت التسوية أن تقبل من الغنيمة بدل إمارة ، بالرحيل إلى ضيعة كبيرة في جزيرة ” لارينيون” تعيش فيها سعيدا هنيئا مريئا مع أبنائك كأنك لم تكن سفاحا. ثم رحَّلوك إلى مصر كي تتلقى من سفارة المغرب راتبا شهريا تعيش به في بحبوحة ورغد عيش بينما يعيش المصريون على العِـيش والفول المدمس والمغاربة على الخبز والشاي والقطاني أو على النباتات البقولية والطفيلية حين يسمح فصل الربيع بذلك.
إنها لمفارقة عجيبة أن أرمى بالشتائم أنا الذي لم أقتل أحدا ولا بمكنتي فعل ذلك، بينما يُعزُّ ويكرَّمُ المجرمون أمثالك. ربما كان ذبح أبي للشياه قرى جالبا لسوء الطالع فورثت منه هذه المأساة كما ورثت من أبيك ذنب استعانته بالأجانب وقطع رقاب البشر مساندة للسلطان.
إني أرى أن هناك شيء آخر ينغص علي حياتي غير سوء الحظ هذا. فإن لم أكن ورثت الإمارة ولا حُكم مقاطعة كبيرة فإني فوق هذا جُبلت على غير طبع الخليقة ربما. ذلك أن الناس يرون أن حريتهم لا تنتهي أبدا، وإن قيدوها فإنها تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين وهم ندرة، إذ السواد الأعظم عبيد لواقع مؤلم لا بداية لحريتهم ولا يُنْهُونَ حرية أحد. بينما جِـبِـلَّتي يا ذا السمو والمهابة، جعلتني أشعر أن حريتي لن تبدأ إلا مع حرية المضطهدين. لقد كنت أشمئز من رؤية طوابير المتسولين وماسحي الأحدية والحمقى والأرامل، ولم أكن أطيق رؤية المعطلين يواجهون الهراوات والعزلة دون أن يجدوا صديقا ولا نصيرا حتى أنهم اضطروا لإضرام النار في أجسادهم. ومن لم يضرم النار فيها، أصيب بالجنون. لهذا هاجرت إلى هنا لما كان الحل عصيا والأزمة متجدرة والأعلام والرموز مثلك معالما لطريق التخلف والفُرقة والعصبية. ومن سوء حظي مرة أخرى أنني وأنا خلف المحيط كأنني أرى أولئك المتسولين والمحبطين والمقموعين بالعين المجردة.
وددت يا سمو الأمير أن أنهي رسالتي عند هذا الحد وقد وضحت ما يكفي مما ينغرس رماحا في صدري تؤلمني وتدميني لكني فضلت أن أخبرك بأن أخاك الذي نصبته ولي عهدك في إمارتك التي لم يكتب لها طول العمر حتى يخلفك عليها، رُزق بابن حصل على الدكتوراة في وقت لم يكن يسمع بكلية الطب غير الميسورين. ثم أصبحت له مصحة كبيرة بمنطقة الغرب بعيدا عن منطقة الريف التي كنت تريد انفصالها، واندمج مع العرب حتى أنه أصبح رئيسا فعليا لأقوى فريق غرباوي حينذاك ( النادي القنيطري). هذا مصير أبناء الأمراء والقادة، أما المتقاعدون من الجيش ذوي المراتب الدنيا فإنهم يعتبرون أنفسهم محظوظين جدا لمجرد أن رؤساءهم السابقون توسطوا لهم فتمكن أبناؤهم من الانخراط في الجندية. نجا الأبناء من مسغبة حقيقية كي يصبحوا حطب نار قادمة يشعلها زعماء الحظائر وقادة الحرب المجرمون. إنه قدرهم المأساوي المحتوم الذي لو كانت لي القدرة على رده لما ترددت لحظة واحدة لكنه من صناع أقوى مني بكثير.
وأخيرا يا مهابة الأمير أكتفي بالقول والحديث ذو شجون :
عم مساءً إن المغرب يسير على الدرب الذي كنت تريد وتريده فرنسا كذلك.
عبد الغني بنكروم- عضو نشيط
- الجنس : عدد المساهمات : 50
درجة التقدير : 0
تاريخ الميلاد : 01/01/1963
تاريخ التسجيل : 30/06/2012
العمر : 61
مواضيع مماثلة
» رسالة محمد حسن الوزاني الى الأمير الخطابي
» إلى الأمير محمد الخطابي :
» الأمير محمد عبد الكريم الخطابي
» رسالة من الأمير الخطابي الى الرئيس جمال عبد الناصر يطلب فيها مساعدة معنوية
» الأمير المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي من عظمائنا الأستاذ فارس الصغير 10 01 2013
» إلى الأمير محمد الخطابي :
» الأمير محمد عبد الكريم الخطابي
» رسالة من الأمير الخطابي الى الرئيس جمال عبد الناصر يطلب فيها مساعدة معنوية
» الأمير المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي من عظمائنا الأستاذ فارس الصغير 10 01 2013
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى