“من ديوان السياسة”لعبد الله العروي
صفحة 1 من اصل 1
“من ديوان السياسة”لعبد الله العروي
“من ديوان السياسة”لعبد الله العروي
قراءة في كتاب “من ديوان السياسة”
إلى من يوجه عبد الله العروي خطابه؟
الكل يجمع على قيمة وغنى الكتاب الأخير لعبد الله العروي: “من ديوان السياسة” وعلى كثافة ما يحمله من أفكار، وأعتقد شخصيا أن لا محيد لكل من يعتبر نفسه سياسيا أو يمارس السياسة في بلادنا بمفهومها المحترم، إلا أن يطلع عليه ويقف عند مغازيه العميقة. فهو وحده قد يغني لمن فاته ذلك، عن قراءة العديد من أمهات الكتب في هذا الميدان. أمام هذه الكثافة في الأفكار سيقف كل من يحاول قراءة الكتاب أو مناقشته عاجزا بدون شك، عن الإحاطة بكل ما ورد فيه، ولهذا نعترف مسبقا بأن ما نحاول القيام به من خلال هذه الورقة، فيه كثير من المجازفة واحتمالات الخطأ أو عدم الفهم، وعذرنا في ذلك أننا فقط قد نساهم في إثارة النقاش حول الكتاب واستفزاز البعض ربما لكي يدلوا هم أيضا بدلوهم في الموضوع
1 وقبل التطرق إلى مضمون الكتاب نفسه، لا بأس من عرض بعض ما عرفته عن فكر العروي، حتى تتوضح الزاوية التي من خلالها قد أتناول الموضوع. فعبد الله العروي قد انفتحت أعينه بداية وهو يحاول تلمس طريقه الإيديولوجي والفكري في أواخر الخمسينات وبداية الستينات، على الصراع الدائر آنذاك بين قادة الحركة الوطنية والقصر حول طبيعة الدولة المغربية لما بعد الاستقلال. وقد احتك بالمهدي بن بركة و ساهم بجانبه في صياغة وثيقة “الاختيار الثوري”، تلك التي لخصت أهم إشكاليات ذلك الصراع. ولأنه كان شاهدا على فشل المشروع البديل للحركة الاتحادية الطامح إلى بناء الدولة العصرية، فإنه وجه جهده بعد ذلك للبحث في الأسباب العميقة لذلك الفشل، فجاءت كتبه الأولى حول تاريخ المغرب وأصول الحركة الوطنية، ثم الإيديولوجية العربية المعاصرة والوعي التاريخي عند العرب … ليربط من خلالها هذا الفشل بالعقلية التقليدية أو التراثية المهيمنة في المحيط العربي أو المغربي، ويؤسس لأطروحته التاريخانية الداعية إلى القطيعة مع هذا التراث، مستلهما في ذلك نموذج ماكس فيبر بالخصوص في تفسير كيفية المرور من الدولة ما قبل الليبرالية إلى الدولة الليبرالية الحديثة في المجتمعات الأوروبية. وفي هذا الإطار جاءت أيضا سلسلة كتبه حول المفاهيم المؤسسة للإيديولوجية الليبرالية كمفهوم الدولة أو العقل أو الأدلوجة … (مع الإشارة إلى أنه لم يخصص أي شيء لمفهوم الديمقراطية ولا لمفهوم الاشتراكية اللذين كانا هما الشعارين الأساسيين في تلك المرحلة بالنسبة لليساريين المغاربة، وهو ما يفسر ربما من بين أشياء أخرى، علاقته التي بقيت دائما مترددة مع حزب الاتحاد الاشتراكي). وبما أن نموذج الانتقال الليبرالي في أوروبا الغربية قد اعتمد في الكثير من التجارب على دور المستبد العادل، كما في نموذج الأمير لميكيافيلي أو نموذج بسمارك في بروسيا الألمانية بالنسبة لهيجل …ألخ، فقد يكون أحد الدوافع التي جعلته يقبل عرض الحسن الثاني لتدريس ولي العهد محمد السادس، لعل ذلك يساهم في إيجاد ملك عادل مغربي، يسهل حين يأتي وقته، عملية الانتقال الليبرالي في بلادنا. لكن ما وقع من تطورات لاحقا في المغرب أو العالم العربي ككل، من صعود للمد الأصولي وتهميش لكل المفاهيم الليبرالية التي نظر لها، لصالح مفاهيم سلفية، وعودة الفقيه بقوة إلى الساحة على حساب المثقف العصري على عكس ما توقعه في كتاب الإيديولوجية العربية المعاصرة، جعله يقف حائرا ويبتعد لمدة زمنية عن التنظير حتى يستوعب ما يحدث. وبالفعل فنحن لم يتسن لنا الالتقاء بالعروي مجددا إلا حين جاء لإلقاء محاضرته المشهورة منذ سنوات قليلة في قاعة سمية بالرباط، ليكشف لنا أن صعود الأصولية ليس في الحقيقة رجوعا إلى الماضي ولا عودة للفقيه التقليدي، وإنما هي الحداثة أو الليبرالية تشق لنفسها طرقا ملتوية بما فيها اختراق هذه الحركات الأصولية نفسها، رغم مظاهرها الرجعية الخارجية. بعد ذلك بمدة جاء كتاب “الإصلاح والسنة”، كمحاولة لتفكيك المنطق السلفي السني ويكشف حدوده أو تناقضه مع متطلبات العصر. أو بعبارة أخرى ليعلن نهاية وإغلاق هذا القوس من الـتأثير الأصولي الذي عرقل لمدة مسيرة التحديث أو اللبرلة في تطور المغرب، ويمهد بذلك للعودة لاستكمال مشروعه الأصلي. في هذا السياق إذن يأتي كتاب “من ديوان السياسة”، كمحاولة منه لإعادة وضع خارطة طريق جديدة لبناء الدولة الديمقراطية الحديثة.
2 يضم الكتاب مدخلا و13 بابا، موزعة على 70 فصل، يستهل فيها كل فصل بسرد حكاية ممهدة على الطريقة الأنكلوساكسونية، وباستعمال جمل قصيرة في كثير من الأحيان ومصطلحات جديدة من إبداعه الخاص. لكن الكتاب قد يمكن تقسيمه على العموم، إلى خمسة أجزاء:
- في الجزء الأول يعرف بالمنطلقات الأولية للسياسة المتمثلة في النوازع التي يرثها الإنسان عن أصله الحيواني، هاته النوازع التي تتكلف تربية الأم أو التربية الأولى بنقلها إلى الفرد منذ البداية، أو هي ما يمثل الصيغة الأولى للإدماج الاجتماعي من داخل الأسرة والعشيرة. مع التمييز بين الإدماج بناءا على مصلحة وهو ما يمثله تقليديا إطار القبيلة، أو بناءا على قيم ثقافية وهو ما تتكلف به عموما الزاوية والفقهاء.
- في الجزء الثاني يتطرق إلى التربية الاجتماعية النظامية التي تؤهل الفرد لمرحلة الفطام وتجاوز ثقافة الأم. هذه التربية تسمح بالانتقال إلى مجال أرحب أو تفتح أفقا يتجاوز القبيلة والزاوية معا، وهو ما يمثله إطار السلطة السياسية أو الدولة. وعلى هذا المستوى الأخير يقدم العروي خطاطة لتطور أنماط الحكم أو السلط السياسية المعروفة تاريخيا: حكم الفرد وحكم القلة وحكم الجمهور، مع الإشارة إلى أن كل واحد من هذه الأنماط قد يتأرجح ما بين الفضيلة والرذيلة، ما بين العدل والاستبداد. وهذه الأشكال تتعاقب فيما بينها في دورة متكاملة تنتهي لتعود من حيث بدأت. ويبدو هنا أن العروي قد جعل من تجربة أثينا قبل القرن الخامس ما قبل الميلاد، نموذجه المفضل الذي يقيس عليه باقي التجارب الأخرى. لكنه يتساءل مع ذلك، إن كان يمكن كسر هذه الدورة والخروج منها، كما بشرت بذلك الإيديولوجية الاشتراكية منذ القرن التاسع عشر. هذه الأخيرة التي انطلقت من اعتبار أنه ما دامت الثورة الصناعية تعمل على تحرير الفرد اقتصاديا، فذلك يكفي لنقله من حالة الأمية (ثقافة الأم) إلى حالة الفطام أو التهذيب، وفسح المجال إلى إقامة حكم الجمهور حيث تصبح الحاجة إلى الدولة لاغية أصلا، وبالتالي التخلص نهائيا من حكم الفرد أو حكم الأقلية. وذلك على عكس الإيديولوجية الليبرالية التقليدية القائلة بضرورة التنوير أو التهذيب الثقافي، والتي لا يمكن أن تؤدي في آخر المطاف، عبر نظام التمثيلية البرلمانية، إلا إلى إقامة حكم الأقلية البرجوازية. إلا أنه يتكلم عن هذه الفكرة باعتبارها فقط الطوبى الجديدة التي جاءت تعوض ما روج له أفلاطون في “الجمهورية” الفاضلة، والتي لم تكن تدافع في الحقيقة سوى عن حكم الأقلية المتمثلة في جماعة الفلاسفة.
- في الجزء الثالث ينتقل العروي للتحدث عن النموذج المغربي أو الدولة المخزنية. ويمهد لذلك بالتعرض إلى الدولة الإسلامية التي لا يخرجها عن النموذج العام لتعاقب الدول، حتى وإن حاول أصحابها إخفاء ذلك وراء مصطلحات إسلامية خاصة، و يعرفها بأنها دولة مزيجة أو هي تمثل مرحلة ما بين الدولة الهيليستينية كمزيج من كل الدول السابقة إغريقية أو رومانية أو فارسية … وبين الدولة الأوروبية الحديثة. أما عن دولة المخزن فهي قد تميزت على العموم بالاعتماد على ثلاثة أركان: السلطان والإمام والأمير ، وأنها لم تبق متماثلة مع نفسها طوال الوقت، بل متغيرة من عهد إلى آخر بحسب الأولية التي يعطيها كل سلطان لهذا الركن أو ذاك، فمخزن مولاي سليمان مثلا اعتمد أكثر على الزاوية ووظيفة الإمامة في مقابل اعتماد مخزن مولاي اسماعيل على القبيلة ووظيفة الإمارة.
- في الجزء الرابع ينتقل العروي إلى الدولة المغربية الحديثة، مشيرا إلى قيام الحماية بالفصل بين مقومات الدولة المخزنية، حيث تركت وظيفة الإمامة للسلطان بينما احتكرت هي سلطة الإمارة، أي كل ما يتعلق بالجيش والإدارة والإقتصاد. غير أن دولة ما بعد الاستقلال، ستعمل على إعادة تجميع كل هذه السلط في يد الملك، أو التوليف بين دولة المخزن القديمة ودولة الحماية الحديثة، وهو ما أنتج وضعا مركبا تتنازع داخله شرعيتان هما ما يعرف بالأصالة والمعاصرة. وهذا ما يوضحه العروي من خلال عرضه للقراءتين المتنافستين للدستور الملكي منذ سنة 1961: القراءة السلفية التي توظف مصطلحات من قبيل البيعة والشرع والشورى … وأخرى توظف المصطلحات الحديثة من قبل التعاقد والقانون والانتخاب ….
- أخيرا في الجزء الخامس وهو الذي يهمنا هنا أكثر، يتحدث العروي عن الآفاق المفتوحة لتجاوز الوضع الراهن. وهو إذ يشير إلى الصراع القائم بين ثقافة الأم والثقافة الحديثة أو ثقافة المواطنة، أو بين الأصالة والمعاصرة، ويقف عند العودة القوية في السنوات الأخيرة لظاهرة البدونة التي ترجع بالمجتمع إلى الثقافة الأولى و تغلب النوازع على العقل، يقترح أن الحل من أجل تطوير المواطنة أو ما يعبر عنه بالفطام، هو في اعتماد سياسة للإصلاح وليس للتغيير الجذري أو الثورة، فننطلق من الدستور الملكي الراهن في محاولة لتغليب القراءة أو التأويل الديمقراطي له على حساب القراءة أو التأويل السلفي. وهو ينصح بأن تكون الجهوية هي المدخل الأفضل لذلك، أي أن يتم البدء في تأسيس المواطنة عبر الإشراك الفعلي للنخب المحلية في تدبير القضايا القريبة منها، على أن يتدرج ذلك حتى الوصول إلى القضايا الوطنية. والعروي يقدم هنا مقترحات ملموسة كأن يعاد النظر مثلا في التقسيم الجهوي الحالي باختزاله إلى عشر جهات فقط بما يجعل التوافق حاصلا بين البعدين التاريخي والسوسيولوجي لكل جهة، أو كأن تتحول الغرفة الثانية إلى المجلس الاستشاري الخاص للملك بدلا عن الدواوين و المجالس الأخرى المتعددة …..ألخ
3 بعد هذا العرض المركز لمضمون الكتاب والذي لا يمكن بأية حال أن يلم بكل غنى الأفكار التي يحملها، نطرح بعض الملاحظات أو التساؤلات الآتية: إن العروي وهو يقترح هذا البرنامج العملي، يبقى وفيا في النهاية للخطاطة التي وضعها حول تطور أنظمة الحكم عبر العصور، أي الانتقال من حكم الفرد إلى حكم الأقلية ومنها إلى حكم الأغلبية أو حكم الجمهور، ثم العودة مجددا من حيث بدأت الدورة. وفي هذا الإطار فهو يضع المغرب حاليا في المحطة الأولى من الدورة أي حكم الفرد، مع الإشارة إلى التأرجح الذي لا يزال يطبع هذا الأخير بين تغليب القهر أو الإقناع، أو بين استعمال التخويف واستعمال الترغيب. ولذلك بحسب هذا المنطق، فإن المهمة التاريخية المطروحة حاليا، هي كيف مساعدة البلاد في الانتقال من حكم الفرد إلى حكم الأقلية، بالتركيز أولا على النخب المحلية، وتوسيع دائرة المشاركة السياسية أو دور الفاعلين السياسيين بجانب الملك في كل جهة. وهذا يعني ضمنيا أن ما نتكلم عنه من بناء نظام ديمقراطي حقيقي وفصل واضح للسلط وحكم الشعب من طرف نفسه…. هو طرح غير جدي بالنسبة للعروي أو أن شروطه لا زالت بعيدة. أو هو في أحسن الأحوال سيعتبر ذلك من باب الطوبى ووسيلة للتعبئة لا غير. أي أن العروي لا يؤمن هنا بسياسة حرق المراحل ولا بتحقيق القطائع، فالدورة السياسية الثلاثية هي أقوى من أن تتجاوزها الإرادات الذاتية للفاعلين السياسيين. إن العروي وانطلاقا من تجارب الشعوب السابقة، قد ينظر إلى تطور التاريخ وكأنه تطور دائري يبدأ دائما من حيث ينتهي، بحيث حتى ولو افترضنا مثلا أن الديمقراطية أو حكم الجمهور قد يتحقق يوما، فسيبقى هناك احتمال كبير لأن تعم الفوضى بعده، أو ما يعبر عنه بخطر الديماغوجية، وبالتالي يعود حكم المستبد من جديد. فالثورة العمالية البلشفية مثلا في روسيا، قد أنتجت في النهاية حكم الاستبداد مع ستالين، والثورة الفرنسية أعطت الحكم الفردي مع نابوليون … وأن أحسن ما أنتجه التاريخ لحد الآن، وبعد عملية تهذيب وتثقيف طويلة المدى هو ما نعرفه بالنموذج الديمقراطي الغربي، الذي ليس في نظر العروي أكثر من حكم أقلية من الملاكين الرأسماليين، لا يختلف كثيرا في العمق عن حكم الأقلية الأرستقراطية في اسبرطة القديمة. وكأن العروي يريد أن ينبهنا هنا، أن ما نجري وراءه كديمقراطيين، من ديمقراطية حقيقية وحكم الشعب نفسه بنفسه، يبقى مجرد وهم أو سراب قد نقترب منه أحيانا لكننا لن ندركه أبدا. كل ما نستطيع أن نحققه في الواقع، هذا إذا ما نجحنا في مهمتنا، هو توسيع دائرة المشاركة السياسية ونقل البلاد من حكم الفرد إلى حكم الأقلية، أما أن نصل إلى حكم الشعب أو الجمهور فذلك من باب المستحيلات بمنطق العروي. لكن حتى إذا قبلنا بمسايرة العروي في منطقه هذا، ما الذي يمكن لنا أن نفعله أو ما العمل؟ الجواب هو تغليب ما سماه بالتأويل الديمقراطي للدستور الملكي على حساب التأويل السلفي. ولكن لمن يمكن أن توكل هذه المهمة؟ ربما الذي في ذهن العروي هي تلك النخبة أو النخب المهمشة حاليا، والطامحة لأن تلتحق بدائرة القرار السياسي بجانب الملك. فهذا ما نجحت فيه نخبة الحركة الوطنية سابقا، وهو ما بقيت بعض النخب اللاحقة تناضل من أجله بعد الاستقلال بدون جدوى، باسم شعارات الديمقراطية تارة وشعارات الاشتراكية تارة أخرى، وحتى باسم الشعارات الإسلامية في مرحلة ثالثة. ولكن أليس من المفروض حتى تنجح هذه النخب في مهمتها وتفرض على الملك أن يتقاسم معها بعض السلط، أن تعبأ حولها أكثر ما يمكن من فئات الشعب؟ وفي هذه الحالة، حول ماذا ستعبئ، أو ما هو برنامجها أو الشعارات التي يمكن أن تقنع بها هذه الفئات؟ هل ستدعوها فقط إلى الالتفاف حول مطلب تغليب التأويل الديمقراطي بما سيسمح بتوسيع دائرة المشاركة السياسية؟ و لكن من يمكن أن يستفيد من ذلك التوسيع غير النخبة نفسها؟ ماذا ستجنيه باقي الفئات الشعبية من ذلك؟ أو بعبارة أوضح، كيف يمكن للنخية الديمقراطية أن تقنع فئات واسعة من الشعب بالالتفاف حول مطلب هي تعرف أن المستفيد الوحيد منه هي تلك النخبة لوحدها؟ هذا ما لا تجيب عنه أطروحة العروي، لسبب بسيط هو أن التعبئة الجماهيرية تفترض وجود طوبى معبئة، والعروي لا يقترح علينا أية طوبى. وكأن العروي ينحاز هنا إلى واقعية أرسطو في مواجهة جمهورية أفلاطون المثالية، وإلى دروس ابن خلدون الجافة في مقابل مدينة الفارابي الفاضلة، أو إلى واقعية أمير ماكيافيلي البغيضة في وجه حلم روسو حول العقد الاجتماعي … والخلاصة، ماذا قد يستفيد المناضلون الديمقراطيون واليساريون من هذه الأطروحة (من غير فائدتها العلمية بالطبع) في صياغة مشروعهم النضالي؟ أو بتعبير آخر لمن يوجه العروي خطابه هذا؟ أليس المخاطب الأساسي هنا هو الأمير أو الملك نفسه قبل الديمقراطيين؟ ألا يدخل هذا في أخر الأمر في إطار ما يعرف بالنصائح السلطانية التي كان العلماء والفقهاء يسدونها للسلاطين والملوك، أو أليس هذا هو نفسه المشروع الأصلي للعروي الذي بقي يشتغل عليه منذ نهاية الستينات بغرض المساعدة في إفراز المستبد العادل على الطريقة المغربية؟ لكن إذا كان الملك هو مخاطبه فعلا، ألا يكون قد أخطأ الهدف؟ لأنه متى كان السلاطين يقبلون العمل بالنصيحة الموجهة إليهم إن لم يكن هناك من مبرر جدي يدفعهم لذلك، أي أن يكونوا مضطرين لذلك بسبب تهديد أو ضغط سواء خارجي أو داخلي؟ من الذي سيرغم الملك محمد السادس على العمل بنصيحة العروي وتغليب الـتأويل الديمقراطي على حساب التأويل السلفي؟ هل هناك فعلا من ضغط خارجي أو داخلي؟ وإذا استثنينا ربما الضغط الخارجي بسبب قضية الصحراء، هل يوجد أي ضغط داخلي يجعله يوسع من الدائرة الضيقة المحيطة به بإشراك نخب أخرى في صنع القرار السياسي بجانبه؟ هل توجد أدنى معارضة ديمقراطية جدية في البلاد حتى تدفعه إلى ذلك؟ وكيف يمكن أن توجد معارضة ديمقراطية حقيقية وهي فاقدة الآن لأي طوبى معبئة؟ إنه المأزق الذي تكشف عنه أطروحة العروي هذه: كيف يمكن بناء الديمقراطية في غياب الديمقراطيين وكيف يمكن أن يوجد ديمقراطيون في غياب الطوبى المعبئة؟
4 لقد سبق وأن كتبنا مقالا من قبل تحت عنوان “ماذا بعد العروي؟” اعتبرنا فيه أن هذا الأخير قد استنفذ دوره بالنسبة إلينا كيساريين أو ديمقراطيين بشكل عام، وأننا اصبحنا في حاجة لمنظر بديل من عيار العروي نفسه ليقترح علينا أفقا للمستقبل. وهذا ما ازددنا اقتناعا به أكثر بعد قراءة كتاب “من ديوان السياسة”. فقد تنفع قراءة العروي في فهم التاريخ والاستفادة من دروسه، ولكن ذلك لا يكفي لآن يفتح أفقا جديدا ، لأن الحديث عن أفق هو حديث عن مشروع للمستقبل وعن الطوبى، والتاريخ قبل أن يسجله المؤرخون ويقرأه المحللون إنما يصنعه أولا الطوباويون والحالمون. أعتقد أن الذي يمنع العروي من الانفتاح أكثر على المستقبل وعلى الطوبى، وهذه ليست مشكلته وحده وإنما مشكلة كل مفكر مهما كانت قيمته، هو الآستمرار في الارتباط بمرجعية فكرية أو باراديغم يكون الفرد قد تلقنه في بداية مشواره الفكري، ويصعب عليه بعد ذلك الانعتاق منه. وباراديغم العروي هو ما سبق أن صاغه ماكس فيبر ومعه مفكرو القرن التاسع عشر، حول نموذج التحول الليبرالي في المجتمعات الأوروبية آنذاك. من خاصيات ذلك الباراديغم، أنه حصر متابعة التحول الليبرالي في الإطار الوطني لكل دولة على حدة، أي بمعزل أو باستقلال عما يحدث خارج هذا الإطار. فما يمكن أن يحدث داخل كل دولة هو شأن داخلي خاص لا علاقة له بالتحولات الخارجية، وإنما نتاج محض للعوامل الداخلية. هذا ما نستنتجه من الطريقة التي يعالج بها العروي إمكانيات الإصلاح الديمقراطي في المغرب، فيتحدث عن ذلك وكأننا نعيش في جزيرة منعزلة لا حق ولا إمكانية للغير أن يتدخل في شؤوننا. ونحن هنا إذ نستلهم من مرجعية فكرية مغايرة أو باراديغم غير باراديغم الإطار الوطني الضيق، هو ما تؤسس له “النظرية العامة للأنظمة المعقدة المتكيفة”، نخلص إلى أن ما لم يهتم به العروي، ولم يدخله لحد الآن في اعتباراته، هو أن العالم قد دخل منذ بداية التوسع الأمبريالي آواخر القرن التاسع عشر، في مرحلة العولمة التي تعني بين ما تعنيه، أن لا استقلالية لأي مجتمع عما يحدث في محيطه أو في النظام العالمي الشامل، وأن لا فرصة بقيت للعوامل الداخلية لأن تشتغل بمعزل عن العالم الخارجي أو أن تقرر بمفردها في مصير أي بلد. فالعولمة إنما تعني أنه بإمكان العامل الخارجي أن يكون حاسما في التطور الداخلي لأي بلد أكثر مما تسمح به الظروف الداخلية أحيانا. و للإشارة فإن العروي قد وظف هذا المعطى نفسه حين حديثه عن دور الحماية في تطوير المخزن المغربي، لكنه يقف عند الاستقلال، ويتعامل مع ذلك وكأنه مجرد قوس انفتح في لحظة معينة من تاريخ المغرب ُثم أغلق بعد ذلك. لهذا فنحن نتساءل: إن كان ما حدث من تطور داخل دولة الحسن الثاني، يمكن تفسيره فقط بالعوامل الداخلية أو على ضوء خطاطة العروي عن الدورة الثلاثية للسلط، أم يجب البحث عن أسبابه في تأثيرات الصراعات الدولية لتلك الفترة والمتمثلة في التنافس الشيوعي الرأسمالي إلى حدود آواخر الثمانينات، ثم في تزايد المد الأصولي على الصعيد العالمي بعد ذلك؟ أو بعبارة أخرى، ألم يكن للأمبريالية الأمريكية التي كان المغرب واقعا تحت نفوذها، دور أساسي في إجهاض أي تحول ديمقراطي بالبلاد في إطار محاصرة المد التحرري والشيوعي عبر العالم؟ ألم يكن الحسن الثاني يستغل فقط ذلك الصراع الدولي الخارجي ليثبت حكمه الفردي ويستأصل كل النخب المعارضة له؟ ثم ألم يكن ذلك التأثير الخارجي نفسه ما حدث منذ التسعينات متمثلا مع تصاعد المد الأصولي، هو ما ساعد مرة أخرى على عزل النخب الديمقراطية في البلاد لصالح النخب السلفية، وجعل الحسن وبعده محمد السادس يلعب على التناقض بينها ليضرب هذا الطرف بذاك؟ بل ألم يكن ما تحدث عنه العروي من عودة قوية لمظاهر البدونة في السنوات الأخيرة، وتباطؤ عملية الفطام أو المواطنة، هو فقط الصيغة التي اختارها الحسن الثاني عبر وزيره ادريس البصري، في إطار محاربته للنخب أعلاه، لتشجيع فئات معينة من أعيان البادية على حساب فئات مدينية أخرى خاصة من أصل فاسي أو سوسي، كانت قد بدأت تخرج من تحت مراقبته؟ أو بعبارة أخرى، ألم يكن ذلك التحول نحو البدونة هو مجرد استغلال لعوامل خارجية وتوظيفها في الصراع الداخلي وليس تطورا طبيعيا أو مستقلا للمجتمع المغربي؟ إن العروي حين يقترح خطاطته أعلاه، وكأنه يعيد فقط إحياء النموذج الخلدوني حول المراحل الثلاث لتطور الدول، حسب دائرة متكررة تبدأ دائما من حيث تنتهي. أي وكأنه يلغي المفهوم التقدمي أو التصاعدي لحركة التاريخ حسب التصور الهيجيلي، وبالتالي لا يعير أي اهتمام لما كتبه ماركس مثلا، عن التمرحل والانتقال من نمط إنتاج إلى آخر أرقى منه. إنه هنا يماثل النموذج المغربي الحالي في القرن الواحد العشرين بنموذج أثينا أو اسبرطة 6 قرون قبل الميلاد. العروي لا يريد أن يعترف أن المرحلة التي نعيشها الآن هي مرحلة عولمة شاملة، وأن المغرب اليوم لا يمكن أن يكون مغرب القرن الماضي، وأن الدورة السياسية حتى وإن تكررت وتماثلت ظاهريا مع بعض المظاهر من المراحل السابقة، فإنها تبقى مختلفة في العمق عن كل ما سبقها. وتجليات هذا الاختلاف هي ملموسة بقوة، سواء نظرنا إلى ذلك من زاوية المقاربة الاقتصادوية الماركسية التقليدية، حيث الاقتصاد المغربي هو الآن جزء لا يتجزأ من الاقتصاد العالمي، وأن رزق المغاربة أكثر ارتباطا بالرأسمال العالمي، أكثر منه برأسمال “وطني” أو محلي مفترض، أو نظرنا لذلك من زاوية مقاربة “ثقافوية” تعطي الأسبقية للعامل الثقافي، حيث لم يعد ممكنا الحديث عن فضاء أو هوية ثقافية محلية مستقلة في ظل الاختراق الذي تمارسه الفضائيات أو الأنترنيت، هذا الأخير الذي فتح أمام الناشئة المغربية آفاقا تتجاوز كل ما يمكن أن يعتبر وطنيا محضا أو مما يحسب على الخصوصية والثوابت. إننا الآن نعيش عصر عولمة كاسحة، اقتصاديا وإعلاميا وثقافيا ، وبالتالي سيصعب على الحقل السياسي في بلادنا أن يبقى بمعزل عن هذه العولمة و محكوما فقط بالعوامل الداخلية الخاصة به. لهذا السبب بالضبط فإننا نعتبر أن ما يقدمه العروي من اقتراحات للإصلاح، أو ما يعبر عنه بتغليب التأويل الديمقراطي للدستور الملكي، يبقى في نظرنا دون مستوى المرحلة الراهنة، وغير كاف للاستجابة لتطلعات أبناء القرن الواحد والعشرين، ولا يمنحهم أية طوبى أو مشروعا تعبويا يقودهم نحو المستقبل. هاته الطوبى التي لا يمكن أن تنزل في نظرنا عن أقل ما أصبح متعارف عليه كونيا في هذا المجال، أي بالنسبة حالة المغرب، عن ملكية برلمانية كاملة الصفات.
حميد باجو
قراءة في كتاب “من ديوان السياسة”
إلى من يوجه عبد الله العروي خطابه؟
الكل يجمع على قيمة وغنى الكتاب الأخير لعبد الله العروي: “من ديوان السياسة” وعلى كثافة ما يحمله من أفكار، وأعتقد شخصيا أن لا محيد لكل من يعتبر نفسه سياسيا أو يمارس السياسة في بلادنا بمفهومها المحترم، إلا أن يطلع عليه ويقف عند مغازيه العميقة. فهو وحده قد يغني لمن فاته ذلك، عن قراءة العديد من أمهات الكتب في هذا الميدان. أمام هذه الكثافة في الأفكار سيقف كل من يحاول قراءة الكتاب أو مناقشته عاجزا بدون شك، عن الإحاطة بكل ما ورد فيه، ولهذا نعترف مسبقا بأن ما نحاول القيام به من خلال هذه الورقة، فيه كثير من المجازفة واحتمالات الخطأ أو عدم الفهم، وعذرنا في ذلك أننا فقط قد نساهم في إثارة النقاش حول الكتاب واستفزاز البعض ربما لكي يدلوا هم أيضا بدلوهم في الموضوع
1 وقبل التطرق إلى مضمون الكتاب نفسه، لا بأس من عرض بعض ما عرفته عن فكر العروي، حتى تتوضح الزاوية التي من خلالها قد أتناول الموضوع. فعبد الله العروي قد انفتحت أعينه بداية وهو يحاول تلمس طريقه الإيديولوجي والفكري في أواخر الخمسينات وبداية الستينات، على الصراع الدائر آنذاك بين قادة الحركة الوطنية والقصر حول طبيعة الدولة المغربية لما بعد الاستقلال. وقد احتك بالمهدي بن بركة و ساهم بجانبه في صياغة وثيقة “الاختيار الثوري”، تلك التي لخصت أهم إشكاليات ذلك الصراع. ولأنه كان شاهدا على فشل المشروع البديل للحركة الاتحادية الطامح إلى بناء الدولة العصرية، فإنه وجه جهده بعد ذلك للبحث في الأسباب العميقة لذلك الفشل، فجاءت كتبه الأولى حول تاريخ المغرب وأصول الحركة الوطنية، ثم الإيديولوجية العربية المعاصرة والوعي التاريخي عند العرب … ليربط من خلالها هذا الفشل بالعقلية التقليدية أو التراثية المهيمنة في المحيط العربي أو المغربي، ويؤسس لأطروحته التاريخانية الداعية إلى القطيعة مع هذا التراث، مستلهما في ذلك نموذج ماكس فيبر بالخصوص في تفسير كيفية المرور من الدولة ما قبل الليبرالية إلى الدولة الليبرالية الحديثة في المجتمعات الأوروبية. وفي هذا الإطار جاءت أيضا سلسلة كتبه حول المفاهيم المؤسسة للإيديولوجية الليبرالية كمفهوم الدولة أو العقل أو الأدلوجة … (مع الإشارة إلى أنه لم يخصص أي شيء لمفهوم الديمقراطية ولا لمفهوم الاشتراكية اللذين كانا هما الشعارين الأساسيين في تلك المرحلة بالنسبة لليساريين المغاربة، وهو ما يفسر ربما من بين أشياء أخرى، علاقته التي بقيت دائما مترددة مع حزب الاتحاد الاشتراكي). وبما أن نموذج الانتقال الليبرالي في أوروبا الغربية قد اعتمد في الكثير من التجارب على دور المستبد العادل، كما في نموذج الأمير لميكيافيلي أو نموذج بسمارك في بروسيا الألمانية بالنسبة لهيجل …ألخ، فقد يكون أحد الدوافع التي جعلته يقبل عرض الحسن الثاني لتدريس ولي العهد محمد السادس، لعل ذلك يساهم في إيجاد ملك عادل مغربي، يسهل حين يأتي وقته، عملية الانتقال الليبرالي في بلادنا. لكن ما وقع من تطورات لاحقا في المغرب أو العالم العربي ككل، من صعود للمد الأصولي وتهميش لكل المفاهيم الليبرالية التي نظر لها، لصالح مفاهيم سلفية، وعودة الفقيه بقوة إلى الساحة على حساب المثقف العصري على عكس ما توقعه في كتاب الإيديولوجية العربية المعاصرة، جعله يقف حائرا ويبتعد لمدة زمنية عن التنظير حتى يستوعب ما يحدث. وبالفعل فنحن لم يتسن لنا الالتقاء بالعروي مجددا إلا حين جاء لإلقاء محاضرته المشهورة منذ سنوات قليلة في قاعة سمية بالرباط، ليكشف لنا أن صعود الأصولية ليس في الحقيقة رجوعا إلى الماضي ولا عودة للفقيه التقليدي، وإنما هي الحداثة أو الليبرالية تشق لنفسها طرقا ملتوية بما فيها اختراق هذه الحركات الأصولية نفسها، رغم مظاهرها الرجعية الخارجية. بعد ذلك بمدة جاء كتاب “الإصلاح والسنة”، كمحاولة لتفكيك المنطق السلفي السني ويكشف حدوده أو تناقضه مع متطلبات العصر. أو بعبارة أخرى ليعلن نهاية وإغلاق هذا القوس من الـتأثير الأصولي الذي عرقل لمدة مسيرة التحديث أو اللبرلة في تطور المغرب، ويمهد بذلك للعودة لاستكمال مشروعه الأصلي. في هذا السياق إذن يأتي كتاب “من ديوان السياسة”، كمحاولة منه لإعادة وضع خارطة طريق جديدة لبناء الدولة الديمقراطية الحديثة.
2 يضم الكتاب مدخلا و13 بابا، موزعة على 70 فصل، يستهل فيها كل فصل بسرد حكاية ممهدة على الطريقة الأنكلوساكسونية، وباستعمال جمل قصيرة في كثير من الأحيان ومصطلحات جديدة من إبداعه الخاص. لكن الكتاب قد يمكن تقسيمه على العموم، إلى خمسة أجزاء:
- في الجزء الأول يعرف بالمنطلقات الأولية للسياسة المتمثلة في النوازع التي يرثها الإنسان عن أصله الحيواني، هاته النوازع التي تتكلف تربية الأم أو التربية الأولى بنقلها إلى الفرد منذ البداية، أو هي ما يمثل الصيغة الأولى للإدماج الاجتماعي من داخل الأسرة والعشيرة. مع التمييز بين الإدماج بناءا على مصلحة وهو ما يمثله تقليديا إطار القبيلة، أو بناءا على قيم ثقافية وهو ما تتكلف به عموما الزاوية والفقهاء.
- في الجزء الثاني يتطرق إلى التربية الاجتماعية النظامية التي تؤهل الفرد لمرحلة الفطام وتجاوز ثقافة الأم. هذه التربية تسمح بالانتقال إلى مجال أرحب أو تفتح أفقا يتجاوز القبيلة والزاوية معا، وهو ما يمثله إطار السلطة السياسية أو الدولة. وعلى هذا المستوى الأخير يقدم العروي خطاطة لتطور أنماط الحكم أو السلط السياسية المعروفة تاريخيا: حكم الفرد وحكم القلة وحكم الجمهور، مع الإشارة إلى أن كل واحد من هذه الأنماط قد يتأرجح ما بين الفضيلة والرذيلة، ما بين العدل والاستبداد. وهذه الأشكال تتعاقب فيما بينها في دورة متكاملة تنتهي لتعود من حيث بدأت. ويبدو هنا أن العروي قد جعل من تجربة أثينا قبل القرن الخامس ما قبل الميلاد، نموذجه المفضل الذي يقيس عليه باقي التجارب الأخرى. لكنه يتساءل مع ذلك، إن كان يمكن كسر هذه الدورة والخروج منها، كما بشرت بذلك الإيديولوجية الاشتراكية منذ القرن التاسع عشر. هذه الأخيرة التي انطلقت من اعتبار أنه ما دامت الثورة الصناعية تعمل على تحرير الفرد اقتصاديا، فذلك يكفي لنقله من حالة الأمية (ثقافة الأم) إلى حالة الفطام أو التهذيب، وفسح المجال إلى إقامة حكم الجمهور حيث تصبح الحاجة إلى الدولة لاغية أصلا، وبالتالي التخلص نهائيا من حكم الفرد أو حكم الأقلية. وذلك على عكس الإيديولوجية الليبرالية التقليدية القائلة بضرورة التنوير أو التهذيب الثقافي، والتي لا يمكن أن تؤدي في آخر المطاف، عبر نظام التمثيلية البرلمانية، إلا إلى إقامة حكم الأقلية البرجوازية. إلا أنه يتكلم عن هذه الفكرة باعتبارها فقط الطوبى الجديدة التي جاءت تعوض ما روج له أفلاطون في “الجمهورية” الفاضلة، والتي لم تكن تدافع في الحقيقة سوى عن حكم الأقلية المتمثلة في جماعة الفلاسفة.
- في الجزء الثالث ينتقل العروي للتحدث عن النموذج المغربي أو الدولة المخزنية. ويمهد لذلك بالتعرض إلى الدولة الإسلامية التي لا يخرجها عن النموذج العام لتعاقب الدول، حتى وإن حاول أصحابها إخفاء ذلك وراء مصطلحات إسلامية خاصة، و يعرفها بأنها دولة مزيجة أو هي تمثل مرحلة ما بين الدولة الهيليستينية كمزيج من كل الدول السابقة إغريقية أو رومانية أو فارسية … وبين الدولة الأوروبية الحديثة. أما عن دولة المخزن فهي قد تميزت على العموم بالاعتماد على ثلاثة أركان: السلطان والإمام والأمير ، وأنها لم تبق متماثلة مع نفسها طوال الوقت، بل متغيرة من عهد إلى آخر بحسب الأولية التي يعطيها كل سلطان لهذا الركن أو ذاك، فمخزن مولاي سليمان مثلا اعتمد أكثر على الزاوية ووظيفة الإمامة في مقابل اعتماد مخزن مولاي اسماعيل على القبيلة ووظيفة الإمارة.
- في الجزء الرابع ينتقل العروي إلى الدولة المغربية الحديثة، مشيرا إلى قيام الحماية بالفصل بين مقومات الدولة المخزنية، حيث تركت وظيفة الإمامة للسلطان بينما احتكرت هي سلطة الإمارة، أي كل ما يتعلق بالجيش والإدارة والإقتصاد. غير أن دولة ما بعد الاستقلال، ستعمل على إعادة تجميع كل هذه السلط في يد الملك، أو التوليف بين دولة المخزن القديمة ودولة الحماية الحديثة، وهو ما أنتج وضعا مركبا تتنازع داخله شرعيتان هما ما يعرف بالأصالة والمعاصرة. وهذا ما يوضحه العروي من خلال عرضه للقراءتين المتنافستين للدستور الملكي منذ سنة 1961: القراءة السلفية التي توظف مصطلحات من قبيل البيعة والشرع والشورى … وأخرى توظف المصطلحات الحديثة من قبل التعاقد والقانون والانتخاب ….
- أخيرا في الجزء الخامس وهو الذي يهمنا هنا أكثر، يتحدث العروي عن الآفاق المفتوحة لتجاوز الوضع الراهن. وهو إذ يشير إلى الصراع القائم بين ثقافة الأم والثقافة الحديثة أو ثقافة المواطنة، أو بين الأصالة والمعاصرة، ويقف عند العودة القوية في السنوات الأخيرة لظاهرة البدونة التي ترجع بالمجتمع إلى الثقافة الأولى و تغلب النوازع على العقل، يقترح أن الحل من أجل تطوير المواطنة أو ما يعبر عنه بالفطام، هو في اعتماد سياسة للإصلاح وليس للتغيير الجذري أو الثورة، فننطلق من الدستور الملكي الراهن في محاولة لتغليب القراءة أو التأويل الديمقراطي له على حساب القراءة أو التأويل السلفي. وهو ينصح بأن تكون الجهوية هي المدخل الأفضل لذلك، أي أن يتم البدء في تأسيس المواطنة عبر الإشراك الفعلي للنخب المحلية في تدبير القضايا القريبة منها، على أن يتدرج ذلك حتى الوصول إلى القضايا الوطنية. والعروي يقدم هنا مقترحات ملموسة كأن يعاد النظر مثلا في التقسيم الجهوي الحالي باختزاله إلى عشر جهات فقط بما يجعل التوافق حاصلا بين البعدين التاريخي والسوسيولوجي لكل جهة، أو كأن تتحول الغرفة الثانية إلى المجلس الاستشاري الخاص للملك بدلا عن الدواوين و المجالس الأخرى المتعددة …..ألخ
3 بعد هذا العرض المركز لمضمون الكتاب والذي لا يمكن بأية حال أن يلم بكل غنى الأفكار التي يحملها، نطرح بعض الملاحظات أو التساؤلات الآتية: إن العروي وهو يقترح هذا البرنامج العملي، يبقى وفيا في النهاية للخطاطة التي وضعها حول تطور أنظمة الحكم عبر العصور، أي الانتقال من حكم الفرد إلى حكم الأقلية ومنها إلى حكم الأغلبية أو حكم الجمهور، ثم العودة مجددا من حيث بدأت الدورة. وفي هذا الإطار فهو يضع المغرب حاليا في المحطة الأولى من الدورة أي حكم الفرد، مع الإشارة إلى التأرجح الذي لا يزال يطبع هذا الأخير بين تغليب القهر أو الإقناع، أو بين استعمال التخويف واستعمال الترغيب. ولذلك بحسب هذا المنطق، فإن المهمة التاريخية المطروحة حاليا، هي كيف مساعدة البلاد في الانتقال من حكم الفرد إلى حكم الأقلية، بالتركيز أولا على النخب المحلية، وتوسيع دائرة المشاركة السياسية أو دور الفاعلين السياسيين بجانب الملك في كل جهة. وهذا يعني ضمنيا أن ما نتكلم عنه من بناء نظام ديمقراطي حقيقي وفصل واضح للسلط وحكم الشعب من طرف نفسه…. هو طرح غير جدي بالنسبة للعروي أو أن شروطه لا زالت بعيدة. أو هو في أحسن الأحوال سيعتبر ذلك من باب الطوبى ووسيلة للتعبئة لا غير. أي أن العروي لا يؤمن هنا بسياسة حرق المراحل ولا بتحقيق القطائع، فالدورة السياسية الثلاثية هي أقوى من أن تتجاوزها الإرادات الذاتية للفاعلين السياسيين. إن العروي وانطلاقا من تجارب الشعوب السابقة، قد ينظر إلى تطور التاريخ وكأنه تطور دائري يبدأ دائما من حيث ينتهي، بحيث حتى ولو افترضنا مثلا أن الديمقراطية أو حكم الجمهور قد يتحقق يوما، فسيبقى هناك احتمال كبير لأن تعم الفوضى بعده، أو ما يعبر عنه بخطر الديماغوجية، وبالتالي يعود حكم المستبد من جديد. فالثورة العمالية البلشفية مثلا في روسيا، قد أنتجت في النهاية حكم الاستبداد مع ستالين، والثورة الفرنسية أعطت الحكم الفردي مع نابوليون … وأن أحسن ما أنتجه التاريخ لحد الآن، وبعد عملية تهذيب وتثقيف طويلة المدى هو ما نعرفه بالنموذج الديمقراطي الغربي، الذي ليس في نظر العروي أكثر من حكم أقلية من الملاكين الرأسماليين، لا يختلف كثيرا في العمق عن حكم الأقلية الأرستقراطية في اسبرطة القديمة. وكأن العروي يريد أن ينبهنا هنا، أن ما نجري وراءه كديمقراطيين، من ديمقراطية حقيقية وحكم الشعب نفسه بنفسه، يبقى مجرد وهم أو سراب قد نقترب منه أحيانا لكننا لن ندركه أبدا. كل ما نستطيع أن نحققه في الواقع، هذا إذا ما نجحنا في مهمتنا، هو توسيع دائرة المشاركة السياسية ونقل البلاد من حكم الفرد إلى حكم الأقلية، أما أن نصل إلى حكم الشعب أو الجمهور فذلك من باب المستحيلات بمنطق العروي. لكن حتى إذا قبلنا بمسايرة العروي في منطقه هذا، ما الذي يمكن لنا أن نفعله أو ما العمل؟ الجواب هو تغليب ما سماه بالتأويل الديمقراطي للدستور الملكي على حساب التأويل السلفي. ولكن لمن يمكن أن توكل هذه المهمة؟ ربما الذي في ذهن العروي هي تلك النخبة أو النخب المهمشة حاليا، والطامحة لأن تلتحق بدائرة القرار السياسي بجانب الملك. فهذا ما نجحت فيه نخبة الحركة الوطنية سابقا، وهو ما بقيت بعض النخب اللاحقة تناضل من أجله بعد الاستقلال بدون جدوى، باسم شعارات الديمقراطية تارة وشعارات الاشتراكية تارة أخرى، وحتى باسم الشعارات الإسلامية في مرحلة ثالثة. ولكن أليس من المفروض حتى تنجح هذه النخب في مهمتها وتفرض على الملك أن يتقاسم معها بعض السلط، أن تعبأ حولها أكثر ما يمكن من فئات الشعب؟ وفي هذه الحالة، حول ماذا ستعبئ، أو ما هو برنامجها أو الشعارات التي يمكن أن تقنع بها هذه الفئات؟ هل ستدعوها فقط إلى الالتفاف حول مطلب تغليب التأويل الديمقراطي بما سيسمح بتوسيع دائرة المشاركة السياسية؟ و لكن من يمكن أن يستفيد من ذلك التوسيع غير النخبة نفسها؟ ماذا ستجنيه باقي الفئات الشعبية من ذلك؟ أو بعبارة أوضح، كيف يمكن للنخية الديمقراطية أن تقنع فئات واسعة من الشعب بالالتفاف حول مطلب هي تعرف أن المستفيد الوحيد منه هي تلك النخبة لوحدها؟ هذا ما لا تجيب عنه أطروحة العروي، لسبب بسيط هو أن التعبئة الجماهيرية تفترض وجود طوبى معبئة، والعروي لا يقترح علينا أية طوبى. وكأن العروي ينحاز هنا إلى واقعية أرسطو في مواجهة جمهورية أفلاطون المثالية، وإلى دروس ابن خلدون الجافة في مقابل مدينة الفارابي الفاضلة، أو إلى واقعية أمير ماكيافيلي البغيضة في وجه حلم روسو حول العقد الاجتماعي … والخلاصة، ماذا قد يستفيد المناضلون الديمقراطيون واليساريون من هذه الأطروحة (من غير فائدتها العلمية بالطبع) في صياغة مشروعهم النضالي؟ أو بتعبير آخر لمن يوجه العروي خطابه هذا؟ أليس المخاطب الأساسي هنا هو الأمير أو الملك نفسه قبل الديمقراطيين؟ ألا يدخل هذا في أخر الأمر في إطار ما يعرف بالنصائح السلطانية التي كان العلماء والفقهاء يسدونها للسلاطين والملوك، أو أليس هذا هو نفسه المشروع الأصلي للعروي الذي بقي يشتغل عليه منذ نهاية الستينات بغرض المساعدة في إفراز المستبد العادل على الطريقة المغربية؟ لكن إذا كان الملك هو مخاطبه فعلا، ألا يكون قد أخطأ الهدف؟ لأنه متى كان السلاطين يقبلون العمل بالنصيحة الموجهة إليهم إن لم يكن هناك من مبرر جدي يدفعهم لذلك، أي أن يكونوا مضطرين لذلك بسبب تهديد أو ضغط سواء خارجي أو داخلي؟ من الذي سيرغم الملك محمد السادس على العمل بنصيحة العروي وتغليب الـتأويل الديمقراطي على حساب التأويل السلفي؟ هل هناك فعلا من ضغط خارجي أو داخلي؟ وإذا استثنينا ربما الضغط الخارجي بسبب قضية الصحراء، هل يوجد أي ضغط داخلي يجعله يوسع من الدائرة الضيقة المحيطة به بإشراك نخب أخرى في صنع القرار السياسي بجانبه؟ هل توجد أدنى معارضة ديمقراطية جدية في البلاد حتى تدفعه إلى ذلك؟ وكيف يمكن أن توجد معارضة ديمقراطية حقيقية وهي فاقدة الآن لأي طوبى معبئة؟ إنه المأزق الذي تكشف عنه أطروحة العروي هذه: كيف يمكن بناء الديمقراطية في غياب الديمقراطيين وكيف يمكن أن يوجد ديمقراطيون في غياب الطوبى المعبئة؟
4 لقد سبق وأن كتبنا مقالا من قبل تحت عنوان “ماذا بعد العروي؟” اعتبرنا فيه أن هذا الأخير قد استنفذ دوره بالنسبة إلينا كيساريين أو ديمقراطيين بشكل عام، وأننا اصبحنا في حاجة لمنظر بديل من عيار العروي نفسه ليقترح علينا أفقا للمستقبل. وهذا ما ازددنا اقتناعا به أكثر بعد قراءة كتاب “من ديوان السياسة”. فقد تنفع قراءة العروي في فهم التاريخ والاستفادة من دروسه، ولكن ذلك لا يكفي لآن يفتح أفقا جديدا ، لأن الحديث عن أفق هو حديث عن مشروع للمستقبل وعن الطوبى، والتاريخ قبل أن يسجله المؤرخون ويقرأه المحللون إنما يصنعه أولا الطوباويون والحالمون. أعتقد أن الذي يمنع العروي من الانفتاح أكثر على المستقبل وعلى الطوبى، وهذه ليست مشكلته وحده وإنما مشكلة كل مفكر مهما كانت قيمته، هو الآستمرار في الارتباط بمرجعية فكرية أو باراديغم يكون الفرد قد تلقنه في بداية مشواره الفكري، ويصعب عليه بعد ذلك الانعتاق منه. وباراديغم العروي هو ما سبق أن صاغه ماكس فيبر ومعه مفكرو القرن التاسع عشر، حول نموذج التحول الليبرالي في المجتمعات الأوروبية آنذاك. من خاصيات ذلك الباراديغم، أنه حصر متابعة التحول الليبرالي في الإطار الوطني لكل دولة على حدة، أي بمعزل أو باستقلال عما يحدث خارج هذا الإطار. فما يمكن أن يحدث داخل كل دولة هو شأن داخلي خاص لا علاقة له بالتحولات الخارجية، وإنما نتاج محض للعوامل الداخلية. هذا ما نستنتجه من الطريقة التي يعالج بها العروي إمكانيات الإصلاح الديمقراطي في المغرب، فيتحدث عن ذلك وكأننا نعيش في جزيرة منعزلة لا حق ولا إمكانية للغير أن يتدخل في شؤوننا. ونحن هنا إذ نستلهم من مرجعية فكرية مغايرة أو باراديغم غير باراديغم الإطار الوطني الضيق، هو ما تؤسس له “النظرية العامة للأنظمة المعقدة المتكيفة”، نخلص إلى أن ما لم يهتم به العروي، ولم يدخله لحد الآن في اعتباراته، هو أن العالم قد دخل منذ بداية التوسع الأمبريالي آواخر القرن التاسع عشر، في مرحلة العولمة التي تعني بين ما تعنيه، أن لا استقلالية لأي مجتمع عما يحدث في محيطه أو في النظام العالمي الشامل، وأن لا فرصة بقيت للعوامل الداخلية لأن تشتغل بمعزل عن العالم الخارجي أو أن تقرر بمفردها في مصير أي بلد. فالعولمة إنما تعني أنه بإمكان العامل الخارجي أن يكون حاسما في التطور الداخلي لأي بلد أكثر مما تسمح به الظروف الداخلية أحيانا. و للإشارة فإن العروي قد وظف هذا المعطى نفسه حين حديثه عن دور الحماية في تطوير المخزن المغربي، لكنه يقف عند الاستقلال، ويتعامل مع ذلك وكأنه مجرد قوس انفتح في لحظة معينة من تاريخ المغرب ُثم أغلق بعد ذلك. لهذا فنحن نتساءل: إن كان ما حدث من تطور داخل دولة الحسن الثاني، يمكن تفسيره فقط بالعوامل الداخلية أو على ضوء خطاطة العروي عن الدورة الثلاثية للسلط، أم يجب البحث عن أسبابه في تأثيرات الصراعات الدولية لتلك الفترة والمتمثلة في التنافس الشيوعي الرأسمالي إلى حدود آواخر الثمانينات، ثم في تزايد المد الأصولي على الصعيد العالمي بعد ذلك؟ أو بعبارة أخرى، ألم يكن للأمبريالية الأمريكية التي كان المغرب واقعا تحت نفوذها، دور أساسي في إجهاض أي تحول ديمقراطي بالبلاد في إطار محاصرة المد التحرري والشيوعي عبر العالم؟ ألم يكن الحسن الثاني يستغل فقط ذلك الصراع الدولي الخارجي ليثبت حكمه الفردي ويستأصل كل النخب المعارضة له؟ ثم ألم يكن ذلك التأثير الخارجي نفسه ما حدث منذ التسعينات متمثلا مع تصاعد المد الأصولي، هو ما ساعد مرة أخرى على عزل النخب الديمقراطية في البلاد لصالح النخب السلفية، وجعل الحسن وبعده محمد السادس يلعب على التناقض بينها ليضرب هذا الطرف بذاك؟ بل ألم يكن ما تحدث عنه العروي من عودة قوية لمظاهر البدونة في السنوات الأخيرة، وتباطؤ عملية الفطام أو المواطنة، هو فقط الصيغة التي اختارها الحسن الثاني عبر وزيره ادريس البصري، في إطار محاربته للنخب أعلاه، لتشجيع فئات معينة من أعيان البادية على حساب فئات مدينية أخرى خاصة من أصل فاسي أو سوسي، كانت قد بدأت تخرج من تحت مراقبته؟ أو بعبارة أخرى، ألم يكن ذلك التحول نحو البدونة هو مجرد استغلال لعوامل خارجية وتوظيفها في الصراع الداخلي وليس تطورا طبيعيا أو مستقلا للمجتمع المغربي؟ إن العروي حين يقترح خطاطته أعلاه، وكأنه يعيد فقط إحياء النموذج الخلدوني حول المراحل الثلاث لتطور الدول، حسب دائرة متكررة تبدأ دائما من حيث تنتهي. أي وكأنه يلغي المفهوم التقدمي أو التصاعدي لحركة التاريخ حسب التصور الهيجيلي، وبالتالي لا يعير أي اهتمام لما كتبه ماركس مثلا، عن التمرحل والانتقال من نمط إنتاج إلى آخر أرقى منه. إنه هنا يماثل النموذج المغربي الحالي في القرن الواحد العشرين بنموذج أثينا أو اسبرطة 6 قرون قبل الميلاد. العروي لا يريد أن يعترف أن المرحلة التي نعيشها الآن هي مرحلة عولمة شاملة، وأن المغرب اليوم لا يمكن أن يكون مغرب القرن الماضي، وأن الدورة السياسية حتى وإن تكررت وتماثلت ظاهريا مع بعض المظاهر من المراحل السابقة، فإنها تبقى مختلفة في العمق عن كل ما سبقها. وتجليات هذا الاختلاف هي ملموسة بقوة، سواء نظرنا إلى ذلك من زاوية المقاربة الاقتصادوية الماركسية التقليدية، حيث الاقتصاد المغربي هو الآن جزء لا يتجزأ من الاقتصاد العالمي، وأن رزق المغاربة أكثر ارتباطا بالرأسمال العالمي، أكثر منه برأسمال “وطني” أو محلي مفترض، أو نظرنا لذلك من زاوية مقاربة “ثقافوية” تعطي الأسبقية للعامل الثقافي، حيث لم يعد ممكنا الحديث عن فضاء أو هوية ثقافية محلية مستقلة في ظل الاختراق الذي تمارسه الفضائيات أو الأنترنيت، هذا الأخير الذي فتح أمام الناشئة المغربية آفاقا تتجاوز كل ما يمكن أن يعتبر وطنيا محضا أو مما يحسب على الخصوصية والثوابت. إننا الآن نعيش عصر عولمة كاسحة، اقتصاديا وإعلاميا وثقافيا ، وبالتالي سيصعب على الحقل السياسي في بلادنا أن يبقى بمعزل عن هذه العولمة و محكوما فقط بالعوامل الداخلية الخاصة به. لهذا السبب بالضبط فإننا نعتبر أن ما يقدمه العروي من اقتراحات للإصلاح، أو ما يعبر عنه بتغليب التأويل الديمقراطي للدستور الملكي، يبقى في نظرنا دون مستوى المرحلة الراهنة، وغير كاف للاستجابة لتطلعات أبناء القرن الواحد والعشرين، ولا يمنحهم أية طوبى أو مشروعا تعبويا يقودهم نحو المستقبل. هاته الطوبى التي لا يمكن أن تنزل في نظرنا عن أقل ما أصبح متعارف عليه كونيا في هذا المجال، أي بالنسبة حالة المغرب، عن ملكية برلمانية كاملة الصفات.
حميد باجو
محمد الورياكلي- فارس المنتدى
- الجنس : عدد المساهمات : 2246
درجة التقدير : 2
تاريخ الميلاد : 25/11/1954
تاريخ التسجيل : 11/09/2010
العمر : 69
مواضيع مماثلة
» المحاضرة الكاملة لعبد الله العروي حول "المواطنة والمساهمة والمجاورة"
» عبد الله العروي
» عبد الله العروي- الأعمال الكاملة
» عبد الله العروي يتحدث عن طه عبد الرحمان
» عبد الله العروي … إكليل الصناعة الثقيلة في الفكر المغربي
» عبد الله العروي
» عبد الله العروي- الأعمال الكاملة
» عبد الله العروي يتحدث عن طه عبد الرحمان
» عبد الله العروي … إكليل الصناعة الثقيلة في الفكر المغربي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى