تفاصيل "الأجندة الخفية" للإطاحة بحكومة بن كيران
صفحة 1 من اصل 1
تفاصيل "الأجندة الخفية" للإطاحة بحكومة بن كيران
تفاصيل "الأجندة الخفية" للإطاحة بحكومة بن كيران
--> إسماعيل حمودي
«شكون اللي بغا تسقط حكومة بنكيران؟»، هذا سؤال من أحسّ بأن شيئا يُطبخ في الخفاء، وأدرك أن الأمر جدّ وليس هزلا. المفاجأة أن السائل هو بنكيران نفسه، وليس أي أحد آخر. تكرّر السؤ
ال على لسانه أكثر من مرة وبصيغ مختلفة. حينما نزل لقيادة الحملة الانتخابية لحزبه في طنجة ومراكش قبل أسبوعين، كان بنكيران يسأل الجماهير الغفيرة التي حجت للاستماع إليه، يسأل فيأتيه الجواب «لا، لا»، ويرسل رسالته إلى كل من يهمهم الأمر: «هذه حكومة الشعب، اختارها الشعب، وستبقى إلى حين أن يُغيّر الشعب رأيه فيها».
الحديث عن إسقاط حكومة بنكيران لم يعد حديث الصالونات إذن، إذ لم يكن ليعلق عليه بنكيران لولا أنه أدرك أن شيئا ما يطبخ في الكواليس. ومِن مَن؟ مِن «العديان»، أولئك الذين عوّلوا على اندحار شعبية حزب العدالة والتنمية، وخططوا للانتقام منه، لكن بنكيران ردّ عليهم بقوة من وسط الجماهير: «أقول للعديان، انظروا يمنة ويسرة لتعرفوا معنى الشعبية، الشعبية تتطلب المصداقية، وتتطلب المعقول»، ثم أضاف كما لو أنه يبارز أحدا: «لن أتراجع، ولا أخاف من التشويش، لأني أعرف خصومي جيدا، وسننتصر».
كلمة «التشويش» التي ينعت بها بنكيران ما يقع لحكومته من قبل خصومها، تعني أن ما يجري هو مقدمة لما هو آتٍ فحسب، بمعنى أن قرار الإطاحة بحكومة بنكيران لم يُتخذ بعد، ولم يصدر الضوء الأخضر بشأنه، لكن التشويش ما هو إلا مقدمة لذلك. ربما كان التعويل على نتائج انتخابات طنجة ومراكش لتكون النقطة الفاصلة التي سينتقل بعدها خصوم بنكيران إلى مرحلة موالية في ما سمّي إعلاميا بـ«المخطط السري» للإطاحة بحكومته، لكن نتائج تلك الانتخابات كانت ضربة قاصمة لذلك المخطط، حيث أوقفت كل شيء... إلى حين.
لكن لماذا يريد خصوم بنكيران الإطاحة بحكومته بعد عام من توليها المسؤولية فقط؟ ومن له المصلحة في ذلك؟ وكيف يمكن إسقاطها؟ وما هي نتائج ذلك على الاستقرار العام للبلاد؟ ألن يجعل ذلك المغرب يتجه إلى مصير مجهول كما حذر من ذلك بنكيران نفسه؟
خفايا الموقف
المعطي منجب، أستاذ التاريخ السياسي بجامعة محمد الخامس، يرى أن «هناك إرادة للتخلص من حكومة بنكيران عند أول فرصة»، ثمة أسباب كثيرة تدفع إلى ذلك، فهي «مزعجة لأكثر من طرف»، بما في ذلك القصر، الذي «نزع عنه بنكيران هيبته التي ظل يحكم بها منذ قرون»، ودفعت سياسيا يساريا وتقدميا مثل سعيد السعدي للقول إن بنكيران «قلل لحيا» على الملك، لأنه «يتحدث عنه مثل صاحبه»، ويحكي «النكت الحامضة» في حضرته.
«الهيبة»، «الهالة»، كلمتان ثقيلتان في دولة المخزن، بل إن المعطي منجب يعتبرهما «أساس الحكم» فيه، فهما يعكسان في العمق ميزان قوى رمزيا، يرتكز على الدين والتاريخ للحفاظ على قوته، ويسخر آلة إعلامية كاملة لذلك. هيبة السلطان أو هيبة الملك من هيبة الدولة، لكنها في حقيقتها «هيبة قصر يريد الحفاظ على القوة المادية بين يديه»، ويتوسل لأجل ذلك بـ«القوة الرمزية». من هنا يعتبر القصر أن بنكيران، ومنذ صعوده إلى رئاسة الحكومة، ألحق «الضرر بهيبته»، لأنه يقدمه كـ«فاعل سياسي عادي» مثل بقية الفاعلين، وينزع عنه «قدسيته» أمام الشعب.
للقصر إذن حساب مع بنكيران وحكومته، لا يدور فقط حول ميزان القوى المادي، بل حول ميزان القوى الرمزي. صلاة بنكيران على الحصير، تواصله الانفعالي والعاطفي مع الجماهير، بساطة خطابه وعفويته، صراحته التي لا يطيقها خصومه، جعلت المحيطين بالقصر ينظرون إليه كمنافس رمزي للملك، ويسارعون إلى تشكيل خلية إعلامية داخل القصر مهمتها الدعاية للملك وأنشطته، بعدما بات بنكيران يسرق منه الأضواء. لكن قياديا في حزب العدالة والتنمية يبدو غير مقتنع بهذا كله، فهو يقول: «إنهم يستغلون كل الأوراق من أجل إفساد العلاقة بين الحكومة والملكية».
لا يقف الأمر عند هذا الحد، حيث تراقب أحزاب المعارضة ما تعتبره أزمات بين القصر والحكومة عن قرب. فمنذ تولي حكومة بنكيران تدبير الشأن العام، وبداية تنزيل برنامجها، وقعت على الأقل ثلاث أزمات بارزة بين الطرفين: في قضية دفاتر التحملات، تدخل الملك بصفته حكما، فخلال اللقاء الذي جمعه برئيس الحكومة بنكيران، ووزير الدولة عبد الله بها، ووزير الاتصال مصطفى الخلفي، انتقد الملك بعض مضامين تلك الدفاتر، وانحاز إلى الطرف المناهض لها، داعيا الحكومة إلى الاستماع إلى الجميع، وأخذ تخوفاتهم بعين الاعتبار.
من يومها لا تزال دفاتر التحملات تتقاذفها الأرجل بين الحكومة والهيئة العليا للسمعي البصري (الهاكا)؛ حيث كان مقررا أن تدخل حيّز التنفيذ في أبريل الماضي، لكن تدخل الملك دفع الحكومة إلى إعادة النظر فيها من جديد. ثم كان مقررا أن تدخل حيّز التنفيذ في شتنبر الماضي، لكن «الهاكا» كان لها رأي آخر، وأرادت أن تثبت أن لها سلطات وصلاحيات تجاه الحكومة، وإلى اليوم لاتزال تلك الدفاتر مجهولة المصير.
يحاول بنكيران امتصاص كل الضربات الآتية من محيط القصر، إذ إنه حين يحسّ بأن الأمر يتجاوز أحيانا حدود اللياقة، ينتفض وفق طريقته.
هناك أزمة ثانية توضح بجلاء طريقته في التصرف تلك، إذ يتذكر الرأي العام جيدا اعتذاره الشهير إلى الملك ومستشاريه. لم يكن ذلك واضحا في البداية، لكن الحقيقة أنه هو من سبق خصومه ووجه الضربة، فارتدت إلى وجهه. حدث ذلك حين صرّح لمجلة فرانكفونية بأن علاقته بالمحيط الملكي ليست على ما يرام. كان قصده تبليغ رسالة مفادها أنه يرفض تدخل مستشاري الملك في عمل الوزراء من دون المرور عبر رئاسة الحكومة، حيث أراد أن يوضح أنه يريد أن يتم التعامل بين مؤسستين: مؤسسة الحكومة والمؤسسة الملكية بشكل مباشر، على خلاف ما ألفه مستشارو الملك قبل الدستور الجديد.
لكن رسالته تلك تلقفها خصومه بسرعة، وتم تحوير معنى كلامه ليصبح شيئا آخر، ربما ضد الملكية. وبسرعة بديهته أدرك السقطة التي وقع فيها، فبادر إلى الاعتذار مباشرة إلى الملك ومستشاريه، لـ«قطع الطريق على الخصوم»، كما قال لاحقا. بيد أن تلك الواقعة كشفت أن المياه لا تجري بين الطرفين كما يشتهي بنكيران، وأن ثمة صخورا وحفرا كثيرة في الطريق، لذلك يُكثر هو نفسه من الحديث عن «العلاقة الممتازة بين الحكومة والملك»، ولا يكاد يملّ من ذلك.
لم يكد الرأي العام ينسى اعتذار بنكيران، حتى برز موقف ثالث أقوى وأدهى، ففي بداية غشت الماضي، اجتمع الملك بوزير الداخلية والمدير العام للأمن الوطني ووزير الاقتصاد والمالية وقائد الدرك الملكي والمدير العام للجمارك بالدار البيضاء، وبدون حضور رئيس الحكومة، وصدر عن الاجتماع قرار بتوقيف عدد من رجال الأمن والجمارك في المراكز الحدودية والتحقيق مع بعضهم، لأنهم، طبقا لبلاغ صدر عن الديوان الملكي، متهمون بالرشوة وسوء معاملة المغاربة المقيمين في الخارج.
القرار لم يتقبله العدالة والتنمية الذي يقود الحكومة، لأنه قرار تنفيذي يدخل في نطاق الاختصاصات التنفيذية للحكومة، كما كتب عن ذلك القيادي في الحزب، عبد العالي حامي الدين، الذي اعتبر أنه «لا أساس دستوري» للقرار الملكي، لأن البلاغ كان يمكن أن يصدر عن المجلس الوزاري فقط، وليس عن الديوان الملكي، لأن رئيس الحكومة وحده من له الحق في إصدار مثل تلك القرارات.
مراقبون اعتبروا أن مواقف حامي الدين وقيادات أخرى في الحزب أغضبت مراكز النفوذ المحيطة بالقصر، لذلك كان الرد قويا في المكان نفسه، وفي المناسبة نفسها كذلك، أي في الملتقى الثامن لشبيبة الحزب الحاكم، التي بلعت بصعوبة قرار كتابيا للسلطات المحلية يمنعها من تنظيم مهرجان ختامي في ساحة عمومية بطنجة، كان مقررا أن يؤطرها رئيس الحكومة والأمين العام للحزب الذي يقود الائتلاف الحكومي، القادم لتوه من عمرة إلى مكة، والتي ثار بشأنها جدل من لدن القيادي البارز في الأصالة والمعاصرة إلياس العمري.
امتص بنكيران الضربة التي وُجّهت إليه يومها، لكن الأزمة الثالثة، التي لم تنته بعد، كان طرفها هذه المرة مصطفى الرميد، وزير العدالة والحريات، حين طلب من النيابة العامة، في محكمة الناظور، إطلاق سراح 12 من رجال الجمارك، والذين لم تثبت في حقهم تهمة إساءة معاملة المهاجرين المغاربة في الخارج، طبقا لما قاله البلاغ الصادر عن الديوان الملكي، لعدم توفر الأدلة المادية ضدهم، وكان ذلك سابقة هي الأولى من نوعها.
في ميدان العدالة هذا وقعت أزمة صامتة أخرى بين القصر والحكومة، يتعلق الأمر بملف لايزال قيد النظر في المحكمة، أي ملف التعويضات التي استفاد منها صلاح الدين مزوار رئيس التجمع الوطني للأحرار ووزير المالية والاقتصاد في الحكومة السابقة، ونور الدين بنسودة الخازن العام للمملكة، فمن جهة، تم تحريك شكاية ضد متهمين قيل إنهم وراء تسريب تلك الوثائق التي نشرتها «أخبار اليوم»، ومازالت محاكمتهم مستمرة أمام المحكمة الابتدائية بالرباط، ومن جهة ثانية، كان مصطفى الرميد قد أمر بصفته رئيسا للنيابة العامة بفتح تحقيق مع مزوار وبنسودة حول المنسوب إليهما، ويبدو أن ذلك القرار لم يعجب أكثر من جهة، وهي تحاول عرقلة تنفيذه، مما أدى إلى اصطدامات قوية، مستمرة إلى حد الآن.
تتابع أحزاب المعارضة كل ذلك عن كثب، فهي فاعل ثانوي منهك، وفي كل أزمة تحدث بين المحيطين بالقصر والحكومة، تحاول من جهتها استغلال الموقف لصالحها، فهي تدرك أن الصدام الأخير كان قويا، لذلك بدأت لأول مرة تتحدث عن ضرورة الإسراع في «إزاحة حكومة بنكيران»، وهي عبارة قالها مصطفى الباكوري، الأمين العام للأصالة والمعاصرة، علانية في وسائل الإعلام، بحجة أنها لم تنجز شيئا، أو أنها تقود «البلد نحو المجهول»، كما عبّر عن ذلك عبد الواحد الراضي، الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في آخر مجلس وطني لحزبه.
لمصلحة من؟
لكن هل من مصلحة القصر سقوط حكومة بنكيران؟ رغم الأزمات التي حدثت وتحدث، لا يبدو أن ذلك أولوية بالنسبة إليه إلى حد الآن. فؤاد عبد المومني، المحلل الاقتصادي، يرى أن هذا «الاحتمال بعيد عن الواقع في الأمد المنظور»، لأنه ليس هناك حزب يستطيع «تعويض العدالة والتنمية ويحظى بمصداقية لدى الشعب»، وفي الوقت نفسه لأن سقوط الحكومة سيدفع العدالة والتنمية إلى الخروج إلى المعارضة، وقد يؤدي إلى خروج الشارع في مواجهة النظام السياسي الذي سيكون حينها في واجهة الأحداث، وهو ما يعتبر «خطيرا بالنسبة إلى مستقبله».
يخاف النظام السياسي إذن من مصير كهذا، فهو لا يريد أن يكون في مواجهة الشارع في زمن الربيع العربي الذي لم ينته بعد، ولذلك يتحمل الحكومة كرها. بنكيران يبدو مقتنعا جدا بهذه الأطروحة، فليس هناك «من يستطيع تعويض العدالة والتنمية»، لذلك يلجؤون إلى «التشويش». هي كلمة مختارة بعناية فائقة. بيد أن قراءة متأنية للوثيقة المؤطرة للمؤتمرات الجهوية للحزب تكشف أن قيادته مقتنعة بأن ثمة «خطة مدروسة ضد الحكومة»، يتم تنزيلها عبر ثلاثة مداخل، أولها محاولة إفساد العلاقة بين الملكية والحكومة، ثانيها محاولة خلخلة الانسجام الحكومي، وثالثها محاولة التشكيك في مصداقية العدالة والتنمية وقدرته على الوفاء بوعوده.
قراءة العدالة والتنمية لا تكشف عن الجهات التي تحاول ذلك كله. بنكيران اختلق قاموسا لوصف خصومه الذين ينعتهم بـ«التماسيح»، و«العفاريت»، وحتى «الشياطين»! فهو يختار التلميح والإشارة بدل التعيين والتحديد. بيد أنه في آخر خروج جماهيري له بطنجة، استهدف بشكل علني ومباشر قيادات الأصالة والمعاصرة، ورئيس التجمع الوطني للأحرار، الذي يمثل الجناح «البامي» داخل حزب عصمان، على حدّ تعبير امحمد الهلالي، عضو المجلس الوطني لحزب «المصباح».
تدافع قيادات العدالة والتنمية عن فكرة رئيسية مفادها أن التشويش تقوده لوبيات فاسدة، ولا علاقة للقصر بها. يصف الهلالي تلك الأطراف بـ«فلول الاستبداد والفساد»، الذين «استفادوا»، حسبه، من وجودهم في السلطة طيلة المرحلة الماضية، أي كل من «فقد موقعه، أو لم يتوج كما كان يحلم في انتخابات 25 نونبر الماضي»، وكل من «فقد المبادرة ويسعى إلى استعادتها من بين الأحزاب»، كل أولئك «من مصلحتهم إسقاط الحكومة»، لكن ليس القصر من بينهم.
ويضيف الهلالي أن حقيقة ما يجري هو «تحريض من لدن فلول الاستبداد للقصر، ولمراكز النفوذ الاستراتيجي، على الحكومة»، وليس العكس. ويستغلون في ذلك «غموض بعض المواقف أو بعض القرارات من أجل الإيقاع بين المؤسسة الملكية والحكومة»، لكنهم «لن ينجحوا في ذلك»، يؤكد المتحدث نفسه.
فلول الاستبداد، في لغة قيادات «البيجيدي»، ليسوا سوى قيادات الأصالة والمعاصرة وبعض قيادات التجمع الوطني للأحرار. «البام» بالنسبة إليهم لم يعد حزبا يملك زمام قراراته، ولم يكن كذلك من قبل، بل هو مجرد أداة في خدمة مراكز نفوذ داخل أجهزة الدولة، تستعمله في «ضبط المشهد السياسي»، وذلك فقط هو ما يفسّر أن كل الضربات تأتي منه، رغم حداثة سنّه، ويفسّر كذلك كونه بات «المنافس الأول للحزب الحاكم».
من تلك الضربات التي استهدفت رأس بنكيران، تصريح إلياس العمري، زعيم «البام» الفعلي، حين شبّه بنكيران بمحمد بن عرفة، الذي نصبته فرنسا سلطانا على المغرب بعدما نفت محمد الخامس في سنة 1953، لأنه قضى عمرته على نفقة العربية السعودية، وهو ما اعتبره العمري «انتهاكا صارخا للسيادة المغربية».
كانت رصاصة العمري الذي أطلقها من خلال جريدة «الاتحاد الاشتراكي» فارغة، حيث ردّ بنكيران بسرعة عليه قائلا إن «العمرة كانت هدية من جلالة الملك محمد السادس». أفشل بنكيران بذلك حملة كاملة، حاول الباكوري ترميمها بدعوة إلى «إزاحة حكومة بنكيران»، لكنه لم يفلح في تسويق ذلك إعلاميا على الأقل. ومع ذلك، استمرت الحملة من خلال محاولة إعادة بناء تحالف الثمانية «الجي 8» بمناسبة تجديد مكاتب الجهات، عبر استقطاب الاتحاد الاشتراكي، بدل الحركة الشعبية المشارك في الحكومة.
بيد أن تلك المحاولة فشلت كذلك في انتخابات جهة الدار البيضاء حيث تنافس الحزبان الرئيسيان في التحالف، وهما «البام» و«الأحرار» على منصب رئيس الجهة، وقد حاول «البام» تدارك الخطأ بإقالة المرشح الذي تقدم باسمه، لكن الخطأ تكرر مرة ثانية في جهة الشاوية-ورديغة، حيث فضل منتخبو «البام» التصويت لمرشح الحركة الشعبية المهدي عثمون، بدل حليفهم المعطي بنقدور مرشح «الأحرار» الذي خرج من مكتب الجهة نهائيا.
كانت قيادات «البام» تعول على الفوز الساحق في الانتخابات الجزئية في طنجة ومراكش، لذلك جنّدت كل قواها من أجل «نيل شرف هزم البيجيدي»، ولتؤكد أن حزب «قوى الظلام»، حسب وصفهم له، لم يعد يتمتع بالشعبية التي كان يحظى بها حتى 25 نونبر. كان «البام» يحلم بالانتصار، لأنه كان يريد أن يجعل من نتائج تلك الانتخابات منعطفا في مسيرة حكومة بنكيران، ومعطى حاسما للدفع في اتجاه إسقاطها، إلا أن النتيجة خيّبت كل توقعاته، وكان الإحساس بالهزيمة قاسيا، ليس لأن الأصالة والمعاصرة فقد مقاعد أو تراجع موقعه في الخريطة السياسية، بل لأن مخططا كاملا فشل في الوصول إلى غايته. وأكثر من ذلك، لم ينجح حتى في الحفاظ على التحالف الذي كان يسعى إلى إحيائه، حيث انفض عنه التجمع الوطني الأحرار الذي أعلن دعمه للاتحاد الدستوري، ودخل «البام» تلك الانتخابات وحيدا.
سيناريوهات الخطة
هل يعني فشل «البام» في تحقيق أهدافه تلك نهاية لأطروحة إسقاط الحكومة؟ كلا، يقول المعطي منجب، فحينما «نكون في دولة غير ديمقراطية، السياسة فيها لا تمارس داخل البرلمان، وإنما في مراكز نفوذ خارجه»، وغالبا ما تتم الإطاحة بالحكومات وفق خطة عليا «هايدن أجندة»، تعد على مدى شهور، ويتم تنزيلها تدريجيا، ويكون القرار الحاسم في اللحظة المناسبة.
القرار الذي يتحدث عنه المعطي منجب يعني «قرار القصر» وليس غيره، لكنه ليس حرّا بشكل كامل في اتخاذه، لأن هناك ميزان قوى جديدا دخل الشارع فيه عنصرا مؤثرا، والذي أظهرت انتخابات طنجة ومراكش أنه لايزال يؤيد العدالة والتنمية، ويثق فيه. ولأن الدستور لا يسمح للملك بإقالة الحكومة إلا إذا استقال رئيسها، وهو احتمال ضعيف جدا، عبّر عنه بنكيران نفسه حين صرخ «لن أتراجع». لذلك يبقى المدخل الوحيد هو خلخلة التحالف الحكومي، بشكل يؤدي إلى إعمال ملتمس الرقابة داخل مجلس النواب.
طبقا للفصل 105 من الدستور، فإن ملتمس الرقابة يستوجب أن يتقدم به «خُمس أعضاء مجلس النواب»، وبعد مرور ثلاثة أيام على إيداع الملتمس يتم التصويت عليه، لكن لا يُقبل إلا «بتصويت الأغلبية المطلقة للأعضاء الذين يتألف منهم المجلس»، و«تؤدي الموافقة على ملتمس الرقابة إلى استقالة الحكومة استقالة جماعية».
وطبقا لنتائج انتخابات 25 نونبر، للأغلبية المشكلة من العدالة والتنمية والاستقلال والتقدم والاشتراكية والحركة الشعبية ما مجموعه 219 نائبا في مجلس النواب، بينما للمعارضة، ممثلة في الاتحاد الاشتراكي والأصالة والمعاصرة والتجمع الوطني للأحرار والاتحاد الدستوري، ما مجموعه 171 نائبا، والبقية 14 نائبا موزعا على ثلاث مجموعات، منهم 7 نواب أعلنوا في بداية الولاية التشريعية دعمهم للحكومة.
إذا تفكك التحالف الحكومي بخروج أي حزب منه، وتقرر باتفاق جميع الأحزاب المعارضة تقديم ملتمس الرقابة يمكن أن تسقط الحكومة. لكن هذا يبقى احتمالا يسمح به الدستور فقط، وشرطه الأساسي حصول تفكك حكومي حتى يحصل هذا السيناريو فعلا.
في غشت الماضي، أعلن مصطفى الباكوري زعيم «البام»، في حوار مع مجلة «أفق المشروع الحداثي» التي يصدرها فريقا حزبه بالبرلمان، أنه لن يتردد في استخدام ملتمس الرقابة متى توفرت الشروط المناسبة لذلك. وتسرب فعلا إلى وسائل إعلام مكتوبة خبر مفاده أن فريق «البام» قرّر فعلا الشروع في جمع توقيعات من أجل ملتمس رقابة ضد الحكومة، ثم تبيّن أن ذلك ليس دقيقا، إذ يبقى الشرط الأساس هو حصول تفكك حكومي أولا.
ثمة وقائع يمكن إعادة قراءتها في هذا الاتجاه، أي محاولة تفجير الحكومة من داخلها. حين انتخب حميد شباط أمينا عاما لحزب الاستقلال، في نهاية شتنبر الماضي، تم الترويج لمطلب التعديل الحكومي. شباط دخل على الخط واعتبر أن ذلك أولوية بالنسبة إليه لا يمكنه التنازل عنها، ولكي يكون الكلام رسميا، نظمت وكالة المغرب العربي للأنباء ندوة خاصة له حول آفاق المشهد السياسي بعد مؤتمر حزب الاستقلال، كان ذلك حدثا خاصا، لأنه لم يقع أن احتفت وكالة أنباء رسمية بصعود أحد قبله إلى الموقع ذاته.
كثير من المتتبعين رأوا في صعود شباط إلى رئاسة حزب الاستقلال فرصة جيدة لخلق معارضة من داخل الحكومة ذاتها، بُغية إضعافها أكثر. يرى هؤلاء أن شباط لم يكن ليصبح رئيسا لحزب عتيد لو لم يكن القصر يرغب في ذلك لإحداث توازن داخل الحكومة وفي المجتمع، أكبر مؤشر على ذلك صراخ قيادية بارزة بالحزب، وهي لطيفة بناني سميرس، داخل المؤتمر تلوم القصر لأنه «سمح بأن يصبح حزب الاستقلال في يد البلطجية».
يراهن كثيرون إذن على شباط بهدف خلخلة الانسجام الحكومي، لكن يبدو أن قيادات حزب الاستقلال انتبهت إلى اللعبة. عبد الحق أدمينو، جامعي وقيادي في حزب الاستقلال، يرى أن رهان خصوم الحكومة على تفككها بعيد الوقوع وغير ممكن، لأنها «جد متماسكة»، ولم تعترضها أية «مشاكل كبرى يمكن أن تخلخل الانسجام الحكومي»، كل ما هنالك هو «بعض المشاكل في تطبيق برنامجها الحكومي»، وهي مشاكل يمكن أن «تعالج عبر تعديل حكومي» وليس أكثر.
لذلك تريث بنكيران في الرد على شباط، ولم يزد على أن قال: «لم نتحدث في ذلك، ولم نلتق بعد». وفي زحمة ذلك، خرج نبيل بنعبد الله، وزير السكنى وأمين عام التقدم والاشتراكية، ليرد على شباط بنفسه. بنعبد الله أكد أن «التعديل الحكومي غير ممكن الآن»، لأن رئيس الحكومة لم يتوصل بأي طلب حول ذلك، ولأن الأغلبية يحكمها ميثاق ولا علم له بمثل هذا الطلب، فيما القرار النهائي يبقى بيد الملك.
نزلت كلمات بنعبد الله بردا وسلاما على بنكيران، لأنها كفته الرد على شباط، وفرح أكثر حين قال بنعبد الله، الذي تقلب في الحكومات المتوالية منذ 1998، إنه لم يشهد مثل الانسجام الحكومي الحالي من قبل، وإن ما يُثار حول غيابه عن حكومة بنكيران غير دقيق نهائيا. وبذلك قضى على آخر الآمال التي كان خصوم حكومة بنكيران يعولون عليها، لكي يلجوا باب الدخول السياسي بشكل أقوى من ذي قبل.
تعزز تلك التصريحات الفرضية التي تقول إن الدفع باتجاه إسقاط الحكومة لم يصبح بعد خيارا رسميا للنظام السياسي، لأنه، كما يقول المعطي منجب، يتحكم في «الأحزاب المشكلة للأغلبية مع العدالة والتنمية والتي لا تحظى باستقلالية قرارها»، حيث يمكنه في أية لحظة أن يدفع واحدا منها، سواء الحركة الشعبية أو التقدم والاشتراكية أو حتى الاستقلال بعدما أصبح يقوده شباط، إلى الاستقالة من الحكومة، ووضع بنكيران في مأزق يصعب عليه الخروج منه.
استمرار التشويش
لذلك، يبدو أن الخيار هو استمرار حكومة بنكيران لكن تحت «التشويش»، ويكمن السبب وراء ذلك في كون القصر غير مستعد لتحمل تبعات ما بعد هذه الحكومة. فؤاد عبد المومني يؤكد أن التشويش هو سياسة وليس مبادرات أشخاص، الهدف منها دفع العدالة والتنمية بالأساس إلى مزيد من التنازلات، مع الاحتفاظ به لأنه الحزب الوحيد الذي لا يزال يتوفر على مصداقية لدى الشعب.
ويردف عبد المومني أن أي قرار يقضي بالإطاحة بهذه الحكومة سيعني، بالنسبة إلى الشعب، أن القصر هو المسؤول عن الوضع بشكل عام، الأمر الذي سيجعله في واجهة الأحداث. ويذهب منجب إلى تبني الرأي نفسه، إذ يقول إن النظام السياسي «يخاف أن يؤدي أي قرار بإسقاط الحكومة إلى خروج العدالة والتنمية إلى المعارضة»، الأمر الذي سيغذي الاحتجاجات في الشارع أكثر، ويعيد «الحياة إلى الربيع المغربي من جديد».
في الواقع، كان لنتائج انتخابات طنجة ومراكش دور حاسم في قلب كل الحسابات، ففي حال أن العدالة والتنمية فشل في انتزاع أي مقعد، كان سيبدو في موقف صعب جدا، وسيوضع تحت النار، وسيعلن قبل الأوان عن نهاية مشروع «البيجيدي»، ولم لا عن نهاية الحركة الإسلامية كلها في المغرب، فضلا عن استغلال ذلك من لدن خصوم الحزب الإسلامي الوحيد للضغط من أجل إنهاء تجربته الحكومية قبل الأوان.
بنكيران كان يدرك ذلك، ولهذا السبب نزل شخصيا إلى ميدان الحملة الانتخابية للرد على خصومه. كان يعي دلالة الانتصار ودلالة الهزيمة معا، لذلك لم يتورع عن القول في مهرجان مراكش إنه «ليس مهما بالنسبة إليه الفوز بمعقد أو مقعدين أو حتى أربعة»، بل «المهم هو رمزية الفوز»، وأكد ذلك بالقول: «إذا نجحنا فإن خصومنا سيرجعون إلى حفرهم تحت الماء، وستكون فرص العمل أمام حكومتنا أكبر تحت قيادة الملك»، لكن إذا حصل العكس «سيستمرون في التشويش والكذب على تجربتنا».
لكن هل انتهى التشويش بعد إعلان الفوز؟ كلام بنكيران يحيل على أن السهام التي تُوجه إلى حكومته هي مبادرات قيادات في أحزاب بعينها، قد تكون الأصالة والمعاصرة والأحرار، وأن هؤلاء يستغلون فقط ما يحدث من «سوء فهم» عابر داخل مربع الحكم بين القصر والحكومة لفائدتهم. لكن التاريخ يؤكد أن التشويش طريقة في اشتغال المخزن، فهو سياسة وليس مبادرات انفرادية، لذلك سيبقى قائما إلى أن يتمكن الطرفان من رسم حدود واضحة بينهما، تساعدهما على التعايش والتساكن، مادام إسقاط حكومة بنكيران قد يقود البلد نحو المجهول.
Atlasse- عضو أساسي بالمنتدى
- الجنس : عدد المساهمات : 161
درجة التقدير : 3
تاريخ الميلاد : 04/10/1965
تاريخ التسجيل : 18/01/2010
العمر : 59
مواضيع مماثلة
» الكاميرا الخفية
» النقد الدولي : حكومة “بن كيران” أفقرت الفقير وأغنت الغني بنهج سياسة “عفا الله عما سلف”
» مول الدلاحة يتسبب في جروح خطيرة لشخص بسبب الكاميرا الخفية
» هذه تفاصيل تقارير اليونسكو التي فضحت حال المدرسة المغربية
» تفاصيل امتيازات سلطانية لأعضاء الحكومة والولاة والعمال والسفراء
» النقد الدولي : حكومة “بن كيران” أفقرت الفقير وأغنت الغني بنهج سياسة “عفا الله عما سلف”
» مول الدلاحة يتسبب في جروح خطيرة لشخص بسبب الكاميرا الخفية
» هذه تفاصيل تقارير اليونسكو التي فضحت حال المدرسة المغربية
» تفاصيل امتيازات سلطانية لأعضاء الحكومة والولاة والعمال والسفراء
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى